ثلاث صور

الخميس 2016/09/01
لوحة: حسام بلان

1- الولادة

يناير في العام 1947 كان أكثر برودة من أي يناير. اختفت الشمس، والنهر صار فضة قاتمة، بينما الكلب ممدد بجوار شجرة «البونسيانا».

امرأة تهرول من آن إلى آخر، فيما أبى قابع على كرسيه الجريدي في وسط الدار، قابضاً بيديه على كوب زجاجي بعد آخر رشفة من الشاي. أمي كانت على السرير الحديدي تتألم وتصرخ وتلحس شفتها السفلى بلسانها، تأخذ نفساً عميقاً، تتلهف على ولادتي، و»الداية» المولدة تبحلق في عيني أمي وتسأل نفسها هل ستموت جميلة الآن؟

نهض أبي حين تناهى إلى أذنه ثغاء العنزة الوحيدة بيضاء اللون التي رأتها دارنا، اقتحم المندرة الصغيرة، كانت عنزة أخرى بيضاء اللون، ولدت تواً مبتلة بدفء الأم، تحاول الوقوف بلا ترنح، جرى للعنزة الصغيرة يجر في يده جوال ولفها به.

شد أبي البالطو القديم على جسده النحيل، أخرج من جيبه الساعة ذات الغطاء والسلسلة بص في الساعة، أطل على أمي، عض اصبعه، تحاول الأم أن تلد منذ الفجر، والداية تطمئنه بالنظرات، حتى وصلت عمتي الكبيرة ورمت طرحتها ودفعت باب الحجرة حيث أمي، تنهد أبي في ارتياح وجلس على كرسيه الحديدي، وانهمر المطر الذي غرق الحوش والدار، عمتي تحكم إغلاق النافذة بجوار سرير أمي بالقماش، أمي تصرخ وتنادي: يا سيد..

حاول أبي أن يطل على الخارج، ولما انحنى بجوار السلم الخشبي يمد يده يمسك بالدلو فتح فمه دهشة؛ فقد كانت جراء صغيرة مولودة تزحف على بطن الكلبة المستسلمة، والكلبة تنظر لصاحبها وهي تلهث، مدّ أبي يده، طبطب عليها، جرى، كاد يقع ورجع بجوال آخر طرحه على السلم الخشبي لعله يساعد الجراء في بعض دفء.

سمع أبي صوت زغرودة عمّتي، فجرى وتعثر، ووقف على باب المندرة ومسح عرقه.

آخر النهار لمّا توقّف المطر، واحمرّ قرص الشمس وهو يغرب، جر كرسيه وركنه لشجرة «البونسيانا»، حطت طيور لا يعرفها فوق أفرع الشجرة، أشعل سيجارته وهو يفكر في أمي، والعنزة، والجراء، وبرد يناير، ثم ابتسم وهو يفكر طويلا في اسمي الذي اختارته لى جدتي.

2 – الموت

هرولنا خلف جنازة جدتنا، نتقافز، وأحيانا نضحك، وغالباً ما يزيحنا الرجال من سكتهم، كنت وابن عمي وبنت عمي وابنة عمتي في المقبرة تركنا الزحام، والأصوات المتداخلة، من بكاء ومواعظ، وهمهمات، انطلقنا للفناء الواسع الذي به أشجار صبار كبيرة، لها أشواك مثل الإبر، وشجرة الجهنمية ذات الزهور البنفسجية المتسلقة، كنت أجري منهم ويجرون ورائي، نضحك بصوت مرتفع، من الشمس الحارقة تصببنا عرقاً، جلسنا لنستريح، قالت ابنة عمتي: إن جدتي كانت مريضة وتخرف.

وقالت ابنة عمي: إن جدتي نامت ولم تقم.

وقال ابن عمى: إن جدتي هربت من قسوة الحياة ومن طلبنا كل عيد للعيدية وهي قروش قليلة.

وأضاف: لتذهب جدتنا.. لسنا في حاجة لقروشها القليلة.

وضحكنا وواصلنا الجري والمراوغة.

لما عدنا إلى البيت، وضعوا أمامنا المكرونة وقطع الدجاج، والمخلل، وكنت أسابقهم في التهام الطعام.

ونحن نغسل أيادينا تحت الحنفية في الحمام، أظهر ابن عمي دهشته واستغرابه وهو يتساءل: تموت هرباً من قروش العيدية. وضرب كفاً بكف، وانفجرنا في الضحك.

في الليل، حط الصمت ثقيلاً، أمّي متكوّمة على الكنبة، وأختي ترش وسط الدار بمبيد الناموس، وفجأة ارتفع صوت أبي بالبكاء، جريت إلى مندرته، كان جالساً على الكنبة، يبكي بصوت، وينشج، خلع نظارته، ورفع المنديل المحلاوي الكبير إلى جبهته، وهو ينهنه. بكيت.

3 – الخوف

عندما كنت أجلس وحيداً في الدار التي تطل على النهر كنت أخاف الأشباح والعفاريت التي لم أرها أبداً.

في النهر أمام دارنا يغرق الشبان، الذين كان يلهون ويمرحون ثم يغرقون.

نحتشد على الشاطئ، حتى يخرج الغريق أو لا يخرج.

اسمع الحواديت المرعبة عن عفاريت الغرقى.

عندما كنت أجلس وحيداً في الدار، كنت أشغل نفسي باللعب في كتب أبي واتفرج على رسوم كتاب ألف ليلة وليلة، وعندما أملّ أدخل المطبخ وأمدّ يدي بخفة لالتقاط أيّ طعام.

في الظلمة، يعلو صوت الوحدة المفزع، أقفز على السرير، أتصنّت لأسمع صوت صرصور الليل، أو نباح كلب، أخاف أن أظل على النهر في الظلمة، أتمدد على السرير، أشد الغطاء، فأرى صورة الأخرس الذي دهسه قطار الدلتا، الأخرس كان يحملني على ظهره ويلاعبني، ويتقافز، بيدي الصغيرتين أمسك شعره الخشن.

حين ترجع أمي وأبي وأختي الصغيرة، أجلس مع أختي الصغيرة وأحكي لها كيف وأنا وحدي لا أخاف من العفاريت، ولا الغرقى، ولا القطة السوداء، ولا من الأخرس الذي دهسه القطار. وهي تكون مندهشة جداً.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.