تدبير المحنة

الخميس 2016/09/01
لوحة: محمد عرابي

الحدث الذي غيّرني للأبد جرى في السنة السابعة من عمري حين انتقلت عائلتي من دمشق إلى بيروت.

أتذكر غبشات من السنوات التي سبقت حدث رحيلي والكثير من بعده لكنني لا أتذكر تفاصيل التغريبة إلا بآثارها التي أبهظت روحي وصنعت شخصي اللاحق الذي سيتردد كالنوّاس بين مدينتين.

أتذكّر مثلاً لمحات من حرب 1967، حين كان عمري 6 سنوات. أتذكر منها اللون الأزرق الذي دُهنت به الشبابيك بغرض تمويهها عن الطائرات الإسرائيلية! أتذكر أيضاً حفراً في الشوارع صنعتها الحكومة استعداداً لحرب شعبيّة طويلة الأمد، بعد أن تحتلّ تل أبيب دمشق.

كنا من سكّان حيّ حديث في ضاحية الميدان التي تشكل خاصرة دمشق الجنوبية واستشرافها لسهل حوران. اسم الحي كان متفائلا: «الثريّا»، ولكنني كنت مفتوناً بآخر قديم تسكن فيه عائلتا أبي وأمّي، «الحقلة».

كان بيت جدّي الأول يطلّ على مقبرة كنّا نزورها أحياناً أو نلعب فيها، ويقع الثاني على كتف زقاق شعبيّ يحدّه دكّان حلاق عربيّ يدعى تركي التركاوي. ينفتح الزقاق بعد ذلك على شارع فيه مسجد ومحلات الفول واللحم والبوظة والبزورات وصولاً إلى «الوردة البيضاء»، محلّ خالي، الملقّب أبو عرب، للكيّ والصباغة، والذي شغفت، في طفولتي، بطوله ووداعته ودخانه وتسامحه وخزانته لأغاني أم كلثوم التي أتذكر منها «سلوا كؤوس الطلا» و»الثلاثية المقدسة».

فجأة انتقلنا إلى زقاق ابن منظور في åرأس النبعò، وهي منطقة يختلط فيها السنّة بالشيعة (سأكتشف ذلك متأخراً جدّاً وحين تصبح تسمية هذه الأشياء ضرورية لنصب الحدود الضرورية في لبنان بين المذاهب) وتحاذي حيّ الناصرة (المسيحي) الذي سيصبح خطّ تماس أثناء الحرب الأهلية، وتطلّ على جسر البربير الذي يأخذك من جهة إلى منطقة المزرعة صعوداً إلى قلب بيروت التجارية، من جهة، ومعبر المتحف إلى المنطقة الشرقيّة، من جهة أخرى.

أبي سيفتتح مطبعة في حيّ بربور. ستضرب الحرب الأهلية المنطلقة عام 1975 مشروع أبي فيقرّر افتتاح مطعم في رأس النبع.

أقلقتني مع نقلتي المفاجئة أسئلة أقراني من التلاميذ عن طائفتي وهو سؤال لم أفهمه. إحدى المفاجآت اللاحقة أيضاً اكتشافي أن عائلتي سجلتني في مدرسة شيعيّة رغم أن أهلي من «السنّة». ستشكّل المدرسة مصنع تعرّفي إلى الرياضيات والكيمياء ولتاريخ خاصّ للبنان فيه فخر الدين المعني واتفاقية كوتاهية ومعركة مرج دابق والشيخ بشير الشهابي ومحمد علي باشا، وكذا على الأئمة الإثني عشر… كل ذلك معجوناً بأخيلة الجنس الطفولية التي كانت تبتعثها تنانير المدرّسات التي كانت رائجة القصر في سبعينات القرن الماضي، وكذلك مع الإحساس بالظلم حين تقوم إحدى المعلمات بضربي لسبب لا علاقة له بدراستي ثم لأتلقّى، حين أتحداها، شتيمة تُحيلني فجأة إلى «شقفة سوري»، فيبدأ شعور اغتراب عن المكان، وتحفز، لاحقاً، رغبة بالعدالة وكره العنصريات الوطنية والقومية والدينية.

بهذه النقلة صارت لديّ طفولتان مشطورتان تاريخيا وجغرافيا وروحيّا: واحدة دمشقيّة وأخرى بيروتية.

في المدينة الأولى أستدعي أسلافي ودفء العلاقات العائلية فتفغم أنفي رائحة حليب الماعز والقرنفل وشجرتا النارنج والياسمين ويتذكر فمي مذاقات الطعام الشاميّ وتشغلني قصص الحموات والكنائن وخفايا الغرف وينفتح لي كنز كتب جدّي التي ستوصلني إلى ألف ليلة وليلة وحمزة البهلوان وسيف بن ذي يزن وصولاً، مع تغريبات صباي وشبابي، إلى المكتبة الظاهرية في سوق البريد حيث سأقرأ روايات فيكتور هيغو وألكسندر دوما وكازنتزاكيس وكتب الرياضيات والعلوم والتاريخ، لأزداد معلومات وأعلو جهالة. كل ذلك مدعوك بذعر وكراهية غامضة للدولة وتعابيرها القمعية: الجيش، المخابرات، الشرطة… والفقر.

… وفي الثانية أكتشف السياسة والطوائف والحداثة على الطريقة اللبنانية واللغة الإنكليزية ومعاناتي كغريب يعالج قصر بصره وخجله بكتابة الشعر والتفوق على أقرانه في الدراسة وبالرسم والانتباه الحذر إلى التفاصيل الكوزموبوليتانية لبلد صاعد: لبنانيون ومصريون وإيرانيون وعراقيّون وفلسطينيون وأكراد ومغاربة وكتب لكافة الاتجاهات الفكرية (مع سيادة لليسار الصاعدة «موضته»).

كان هناك فرع قريب من بيتي اللبناني للحزب الشيوعي اللبناني ولكنّه كان مغلقاً ببوابة حديدية سوداء لا تشجع على التقدّم والاشتراكية. كانت تلك طريقة النخبة الطامحة لقيادة العمال والفلاحين في الانعزال، وكان مبنى جريدته «النداء» قريبا يتلامع مع أسماء وشعارات مبهرة على جدران الشوارع: منظمة العمل الشيوعي، الناصريون، حركة أمل، الجبهة الديمقراطية، «العاصفة» الخ…

نقلة الجغرافيا كانت أيضاً انتقالاً في التاريخ والاجتماع والسياسة بشكل خلط الدلالات وحرّك عقلي وجسدي ليجرّبا محاولة فاشلة للتوازن.

كان حزب البعث العربي الاشتراكي يرخي ظلاله المرعبة على سوريا ويجرّب وصفاته الأيديولوجية قبل أن ينقضّ أحد أركان «اللجنة العسكرية»، حافظ الأسد، على السلطة وتبدأ مرحلة أخرى.

ستتناظر كل نقلة كبرى في حياتي مع حركتي النوّاسية بين المدينتين.

مع نشوب الحرب الأهلية اللبنانية قرّر أهلي إرسالي إلى دمشق لمتابعة الدراسة هناك وخلال رحلتي رأيت الدبابات السورية الداخلة إلى لبنان عام 1976 لتبدأ مرحلة طويلة يتداخل فيها تاريخا المدينتين بشكل دمويّ.

أثناء دراستي الجامعية في دمشق دفعني هاجس ما للذهاب مجدداً إلى بيروت حيث سأنتمي إلى تنظيم ماركسيّ صغير. جائزتي من تلك التجربة تعرّفي إلى مجموعة من طلقاء اليسار، وإلى فتاة ستصبح عشيقتي الأولى.

ستنتهي علاقتي بزملائي اليساريين (وبالحبّ) أثناء حصار الإسرائيليين لبيروت فأغادر متنكرا ببطاقة هويّة لبنانية إلى سوريا لأكتشف هناك حصاراً أبشع ومجازر أكبر في مدينة حماة بحيث يتلاقى في وعيي المحتلّ الخارجيّ والمحلّي في منافسة عظمى على إنهاء أمل الشعبين الفلسطيني والسوري بالتغيير.

ستطاردني تلك التغريبة التي دمّرت طفولتي ومزّقت حياتي فلا أكف عن تذكر أبيات كفافيس: ستصل على الدوام إلى هذه المدينة. لا تأمل في بقاع أخرى. ما من سفينة من أجلك وما من سبيل. فما دمت قد خرّبت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب حيثما حللت.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.