مطلع الفجر

الخميس 2016/09/01

لعلها أروع لحظات حياتنا القصيرة، لحظة بزوغ النور الحقيقي، مثل أول ضوء لأشعة الشمس على سطح الأرض، لحظة معرفة الذات لمعناها، ومعرفة الإنسان لحقيقته المستترة في داخل أعماق قلبه.

هل حدث ذلك في سن الثالثة عشرة، أم قبلها، أو بعدها بقليل؟ لا أدرى بالضبط، فالأمر حدث فجأة، إذ اكتشفت من خلال قراءة صفحات كثيرة ومتنوعة من الصحف والكتب والمجلات، أن حياتي كلها ستدور -بالتأكيد- بين السطور، قراءة ثـم كتابة.

وقد تتصور أنني أحببت (فعل) القراءة، أو قضاء الوقت في ممارسة الكتابة، وهذا غير صحيح، فالكتابة، بالنسبة إليّ، طول عمرها، عملية شاقة للغاية، ومع ذلك لا أنكر أن لها متعتها الفائقة، إذ يُدرك الإنسان أشياء كثيرة وهو يتوغل داخل نفسه ببصيرة، ويصيغ عباراته بدقة ويُشكل أفكاره بنظام.

أما القراءة، فعمل مجهد ومتعب ومتواصل! لم أحبه في حد ذاته، وإنما أحببت أن أعرف ما أريد أن أعرفه، وكنت أتمنى، من صغرى، أن أجد «إنسانا حكيما»، يمكنه أن يُجيب عن كل تساؤلاتى!

ولقد وجدته فعلا، بعد ذلك بسنوات قليلة، فكما يقول الصوفية، حين يتأهل المريد، ويستعد للقاء الشيخ، عندئذ يظهر شيخه لينير له الطريق.

ففي طفولتي وصباي وشبابي سيطر عليّ شعور عميق جدا بالجهل الفادح والفاضح، ومن ثم تأججت بداخلي رغبة جنونية في المعرفة، لكن معرفة ماذا؟! كانت الإجابة حاسمة وحالمة: معرفة كل شيء!

بيد أنني أدركت بـسرعة ضعف الطالب، واسـتحالة المطلوب، فقد بدأت أسأل كل من حولي، عن أمور كثيرة أريد أن أعرفها، وإذ أرسل أسئلتي في كل اتجاه، لا أحصل على ما يرضينى من الإجابات، فالجهل الذي أتمتع به، لم يك يقتصر عليّ وحدي!

وكانت مفاجأة كبيرة، بالنسبة إليّ، أن أدرك، وأنا مازلت طفلا، أن معظم من حولي من الكبار، يجهلون ما أجهله، وبرغم ذلك يعيشون في سلام تام، فالجهل الذى يغرقون فيه، لا يسبب لهم أيّ مشكلة! وشعورهم بالرغبة في المعرفة لا يقلقهم، فثمة رغبات أخرى، أولى بالاهتمام والرعاية!

ومن ثم كان لا بد من تحديد مجالات المعرفة المراد التعمق فيها، أو تلك التي تمثل، بالنسبة إليّ، أكثر أهمية من غيرها، إذ أن الثقافة العامة، مهما كان، لها حدود، لا يمكن للإنسان أن يعرف كل شيء.

ومن ثم ركزت اهتمامي على ثلاثة مجالات أساسية، لعلّي أستطيع أن أحصل منها على ما يجيب عن أسئلتي الكبرى، المجال الأول: دراسة الأديان المختلفة، ومعرفة المكتوب في النصوص المقدسة لكل دين، مع الاهتمام بالعقائد المتباينة، والبحث في الملل والنحل، وفى هذا المجال جذبتني بشدة الدراسـات الصوفية، وعشقت الجوانب الروحانية في كل الأديان.

أما المجال الثاني، فعلى صلة وثيقة بالمجال الأول، إذ أن الدراسات الفلسفية ترتبط، في جانب منها، بالعلوم الدينية، وثمة تصوف فلسـفي، يجمع بين النسق الفكري المتكامل، والطموح الروحي لفيض الحقيقة المطلقة.

ثم كان المجال الثالث، والذى لا يبعد كثيرا عنهما، وهو مجال الأدب، ولعله عشقي الأول، بيد أنني أدركت، مبكرا جدا، أن كتابة الأدب بدون ثقافة موسوعية وخبرة حياتية، يعد تبديدا لوقت الكاتب والقارئ، فالأدب، كما أحبه، رسالة ودراسة، وبحث واجتهاد، بالإضافة، طبعا، إلى الموهبة. فالأدب الحقيقي معنيّ بتصوير الإنسان في سعيه الدؤوب نحو معرفة نفـسه، وفيه كذلك يتجلى كـدح المرء إلى الحقيقة المطلقة، والأدب في جوهره هو الإنسان وهو يعي وجوده وعالمه ومصيره.

ومن بين فنون الأدب، كان فن القص هو محور اهتمامي، فحين أراد المولى، عز وجل، أن يخاطب بنى البشر، كلمهم من خلال الأمثال والحكايات والقصص، إذ أن هذا الشكل الدرامي يمكنه أن يحمل من المشاعر والمعاني والأفكار، ما لا حصر له، كما يمكنه أن يعلّم الناس على مختلف مستويات وعيهم وثقافاتهم.

وهكذا كانت حياتي كلها امتدادا للحظة التنوير المبكرة هذه، ومن ثم بعد أن أنهيت دراستي الجامعية الأولى، عدت إلى الجامعة لدراسة الفلسفة، دراسـة أكاديمية، ثم تخصصت في علم الأديان والتصوف، واستمتعت بقراءة عيون الأدب العربي والعالمي، وها أنا أواصل كتابة الروايات والقصص، لعلّي أعبّر عمّا وصلت إليه من إجابات عن أسئلتي الكبرى.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.