شرارة الطفل الخارق

الخميس 2016/09/01
لوحة: عمر فهند

شرارة الحدث الأول، التي هيمنت على حياتي وأبقتني طفلا إلى الأبد، هي أيضا الذكرى الأولى منذ هبوطي على هذا الكوكب. كانت نقطة البداية، حيت قالت أمي إن «سلام إيجابي دائما… حتى لو وضعته في النار يقول إنها جنة».

ربما كان عمري ثلاثا أو أربع سنوات، حين سمعت تلك العبارة لأول مرة، لكنني سمعتها منها آلاف المرات بعد ذلك. لا أدري كم كنت إيجابيا قبل تلك الذكرى الأولى، لكن قيل لي إنني لم أكن أشكو أو أبكي إطلاقا منذ أيامي الأولى.

نشوتي بتلك العبارة، فرضت هيمنها المطلقة على حياتي حتى الآن، وأصبحت بوصلتي الوحيدة. وجعلتني أغالب كل ما يحدث لي وأقاوم بأيّ ثمن إظهار أيّ استياء مهما كان الإزعاج أو الألم.

أصبت كثيرا بجروح بالغة، لكنني كابرت الألم دفاعا عن ذلك الانطباع، الذي شغفت به. أصبحت أتلذذ بانبهار العائلة والأقارب والجيران وبعدها في المدرسة، وباتساع الحديث عن طرائف مواقفي في مواجهة ما يثير الاستياء والألم.

كانت المكابرة شاقة أحيانا وتتطلب أن أطوّر مهارات في التركيز على الإزعاج والألم، لكني كنت أتلقى معونة هائلة من نشوة متابعة نظرات الإعجاب في عيون المحيطين بي.

أصبح الألم واللحظات التي تفترض الاستياء، مخلوطة بنوع مذهل من النشوة. وتطورت تلك المهارة لتصل إلى التحديق بقوة في جوهر الألم، وكأنه كلب ينبح، وينتظر أن أرتجف ليهاجمني إذا بدا عليّ الخوف والاستسلام.

تراكمت تلك النشوات الفريدة، فتلاشت عندي ردود الفعل التلقائية على كل ما يفترض أن يدعو للاستياء حتى لو كان ألما جسديا قاسيا. كنت أحدق فيه وأبحر في ثناياه بحثا عن كيفية حدوثه، فتتسلل إليّ نشوة الشعور بالقوة.

كان المحيطون بي يشعرون بالاستياء تلقائيا من حر الصيف اللاهب أو المطر، فيهربون إلى الظل، فيما كنت أبدي لامبالاتي واستمتاعي، ربما بشيء من المكابرة في البداية، لكنها تحولت فعلا إلى لعبة راسخة.

أصبحت فعلا أسيطر على الألم وأجد فيه موضوعا للتأمل، لكن متعتي الكبرى كانت فيما أصبحت أوفره للمحيطين بي من قصص يتداولونها عنّي وكأنني طفل خارق.

كانت قصص عدم اكتراثي بالألم وعدم استيائي من أيّ شيء، تستأثر بحصة كبيرة من أحاديث العائلة والجيران والأقارب والمدرسة، وبدأت أفلسفها فتجد حكاياتي صدى طيبا لدى كثيرين، ويحاول البعض تطبيقها بدرجات متفاوتة.

دفعت بعض الثمن أحيانا، حين كان بعض أخوتي وأصدقائي يتراهنون على إزعاجي، وكنت أدفع الثمن، حرصا على نشوة أن أراهم يفشلون في إيصالي إلى الاستياء الشديد. أحيانا أعجز عن الصبر على مضايقاتهم الجسدية، مثل ليّ الذراع، فأسارع للتفلسف وإيجاد مبررات تحفظ صورتي لديهم.

كبرت لعبتي السرية وبلغت ذروتها حين تعرضت لحادث سير مروّع، أدّى لغيابي عن الوعي لمدة شهرين، وقيل إني فارقت الحياة وأن قلبي توقف فعلا، لأن أحد الجروح قطع الشريان الأبهر في الرقبة.. أي أنني ذبحت فعلا.

يقول شهود الحادث أن الطبيب أكد أنني ميت حين تم نقلي إلى المستشفى، لكن أحد الأقارب أجبره بغضب شديد أن يخيط الجرح ويعطيني دماء، وحين فعل ذلك، عاد قلبي لضخ الدماء تدريجيا.

بقيت في السرير 6 أشهر وانتصرت على آخر المشككين بقدرتي على التحكم بالألم. كانت نشوتي من انبهار الجميع، تعوضني عن مقاومة الألم، الذي كنت أفقد السيطرة عليه أحيانا.

حين انقضت سنوات الطفولة وكبر محيط الأشخاص الذين تتقاطع حياتي معهم خمد جانب كبير من لعبتي السرية التي بقيت هناك في محيط العائلة والأيام الأولى.

لم تعد خفايا لعبتي تظهر للآخرين، إلا في بعض الحلقات الصغيرة من الأصدقاء، وأصبح الظاهر منها قليلا جدا ويثير حكايا واستغرابا أقل، لأني لم أعد طفلا، من وجهة نظرهم فقط!

البالغون المصنعون بإيقاع محكم، لديهم توقعات جاهزة ويستغربون أيّ إيقاع وردود أفعال لا تناسب توقعاتهم، لذلك كان عدم اكتراثي للظروف القاسية، يثير أحيانا غضب البعض، في أوساط يعمها الاستياء الشديد خلال سنوات الحرب في ثمانينات القرن العشرين.

وقد حاول كثيرون افتعال مشادات معي، فقط لأنني كنت مبتهجا دائما وقادرا على الخروج من أيّ مأزق، بفضل عدم ارتهاني لردود الأفعال الجاهزة، الذي مكنني من التوازن على جميع الحبال المشدودة، وكان ذلك يثير غضب البعض.

تعرضت لمواقف حرجة بالمعدل الذي تعرض له معظم العراقيين، في تلك الأيام الشاقة، لكن ردود أفعالي الخارجة عن التوقعات مكّنتني من الإفلات من قسوة النتائج.

في فترة الخدمة العسكرية الإلزامية كنت في وحدة حسابات مالية في بغداد، حين تم إرسالي إلى جبهات القتال لمدة شهر لمعايشة أجواء الحرب، وهو إجراء يشمل جميع العسكريين خارج الوحدات القتالية. كنت أقوم بواجباتي في جبهة القتال دون استياء والابتسامة تعلو وجهي، إلى أن أخبرني أحد المقاتلين، أنني قد أتعرض للغدر، ولن يعرف أحد من أين جاءت الرصاصة.

أخبرني أنه سمع بعض المقاتلين الغاضبين يتوعّدونني لأني أبدو مبتهجا، وخاصة أنني كنت أفتح كتابا لأقرأ حين تطلق مشاعل التنوير في الأرض الحرام. نصحني بأن أقطّب وجهي وأعبّر عن مواساتي لهم على الظروف القاسية التي سيواصلون مواجهتها بعد انقضاء أيامي المعدودة هناك. ففعلت ونجوت.

تلك اللعبة والمران، أوصلاني إلى سلطة كبيرة على جسدي استمرت حتى اليوم، وأصبحت قادرا على الانتفاض وزجر أيّ ملامح أولية للمرض، ولا أذكر أنني استسلمت لمرض طوال حياتي.

أصبحت أثق بوسائلي وقدرتي على مواجهة أيّ مرض أو تعب أو ضعف، ومازلت أستغرب استسلام المحيطين بي للمرض. وكثيرا ما درّبت بعض الأصدقاء على كيفية دحره، وكانت استجاباتهم متفاوتة، وأكثرها نجاحا مع ابنتي، لكن ليس بالدرجة التي لديّ.

تلك الشرارة التي أطلقتها أمي منذ أيامي الأولى هيمنت أيضا على حياتي الثقافية، فمنعتني من ذكر الألم أو أيّ نوع من الضعف في كتاباتي، إلا بالمعنى المضاد والوجودي الإيجابي. كما منعتني أيضا من قراءة أيّ كتاب واقعي، لا يحاول توسيع وكسر حدود وجودنا الضيق والبحث في آفاق لانهائية.

ذاكرتي كانت على الدوام انتقائية ومثقوبة ويفلت منها الكثير من الحوادث الفريدة. أحيانا يروي بعض أصدقائي المقربين مثل علي السوداني ومنذر عبدالحر وفاروق يوسف وعلي جبار، حكايات طريفة تتصل بمواقفي الخارجة عن التوقعات، فلا أجدها في ملفات ذاكرتي.

تدريجيا توارى هذا السر الكبير عن الأنظار، ولم يعد يعرف به سوى محيط طفولتي الأول وعدد قليل من أصدقائي المقربين، لكن الشرارة التي أطلقتها أمي بتلك العبارة لا تزال تتوهج وتمنحني لذة لا تعرف الانطفاء.

مازلت ذلك الطفل الخارق الذي صنعته أمي بتلك العبارة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.