صفحة من حياتي

الخميس 2016/09/01
لوحة: شادي أبو سعدة

عام 1967 كُسر إيقاع الحياة كلها باحتلال فلسطين، كنا جيلاً يتحمل فوق طاقته، رغم بصيص الأمل الذي يعدنا بالنصر.

لم تكن إجاصة القلب قد نضجت واحلوّت بعد، ولكنها انفطرت بضياع البلاد، الواقع الأليم الجديد بكل ما خالطه من إيمان بأنه حال مؤقت واختبار لإمكانيات العروبة التي نؤمن بها كما إيماننا بالله يفرش مساحة قاتمة على طفولتي، فَوَّتُّ على نفسي التمتع العميق بما تحفل به طفولتي من فرص مغايرة ومختلفة، في الحادية عشرة من عمري أخربش بلغة بسيطة ما أسميه شعراً عن الوطن، ثم في صبيحة يوم جاء أشبال فلسطين لزيارة الدوحة حيث نقيم.

كانت منظمة التحرير الوليدة تهيئ جيلاً من الأشبال لاسترجاع الحق الضائع، جاؤوا في مهمّة رسمية تتلخص في جمع التبرّعات للمنظمة، وارتبك إيقاع حياة الأسر العربية، وهم يهيئون للمعرض المنتظر، كُلّفت مجموعة من البنات (كنت بينهن) للقيام بواجب الاستقبال في المعرض وتوزيع وردات من البلاستيك على الداخلين، وأعددت لهذه المهمة السامية بتعيين مكان وقوفي، مرتدية ثوباً خاصاً، جوارب «هيلا هوب» بيضاء طويلة تدخل من أصابع قدمي حتى الخصر، وفانلة قطنية بيضاء ضيقة بأكمام طويلة، كما ربط في وسطي جمع من الكشاكش البيضاء المنفوشة المصنوعة من ورق الكروشيه، كان الزيّ مرعباً، لا يليق بي وجسدي يتمرّد على الطفولة. اصطففنا يوم الافتتاح نحيّي الداخلين، ثم فجأة؛ رأيته. دخل الأشبال في خطوات واثقة محيين الجماهير تحية عسكرية، ارتفع صوت التصفيق، وسادت النشوة، ولم تفارق عيوني الفتى الأسمر الذي يتقدم بوجه جاد وابتسامة خفية، إنه أجمل من أن يكون حقيقياً، بثيابه المرقطة كأنه قادم من فلسطين للتو.

علق اسمه الحركي في القلب بللاً يروي بتلة زهر تتفتح.. غيفارا.. اسم حاد فج غامض، لا يشبه الأسماء الرائجة، أعرف أنه ليس الاسم الذي أسماه إياه أبواه، ولكنه الاسم الذي اختارته الثورة، ولا يجدر بي عشق اسم سواه، العالم يهتز كما هديل الحمام. وأنا؛ أحب، القلب الطفل الجاهل البكر؛ يحب.. أحب غيفارا.

تمردت على ثوب البجعة الكريه في الأيام التالية، ارتديت فساتين تجعلني أبدو أكبر، تصرفت مثل معتوهة حين وقف قربي يجمع التبرعات، فخلعت سلسلتي الذهبية ووضعتها في صندوقه، كأني أُلحقها بالقلب الذي فرّ وخرّ عنده.

مساءً؛ أنّبتني أمي على التفريط بالسلسلة، قالت إن عائلتنا تبرعت بما يفوق قدرتنا، وإن فعلتي سفه أعاقب عليه، لكني لم أتوقف كثيراً عند غضبتها، فأنا عاشقة صغيرة لاهية في ملكوت الشعور الوليد الماتع الذي يذيب الروح. ذلك المشهد الذي علق في الذاكرة انبعث ليكون مشهداً في روايتي «دفاتر الطوفان» حين تتبرع البنت الصغيرة بأساورها للثوار.

حلمت أن غيفارا يجتاز النهر ليقوم بعملية فدائية ضد المحتلين، وإنه يعود شهيداً، فأبكيه ويكتشف العالم أني حبيبة الشهيد، أحببت أن أكون حبيبة الشهيد في حكاية خرافية تفوق حكاية قيس وليلى، ولكني لم أقو على النظر للفتى في عينيه، ناهيك عن محادثته أو الإفصاح عن حرائق القلب لأيّ كائن على وجه الأرض، وانتهت ليالي المعرض وسافر الأشبال.

بعد أيام وصلتنا صحيفة كتبت عن جولة الأشبال خبراً موسعاً، في الصورة المرفقة الشبل غيفارا يقف بقبعته باسماً ناظراً إلى الأعلى، يكاد يغمى علي وأنا أقصّ الأطراف بحرص، أدس الصورة في كتابي، ثم أصنع لها جيبا خاصاً من الكرتون حتى لا تنثني ولا تفسد، وأضعها تحت المخدة، أنام فوقها؛ أسفح دمع العشق الأول احتراقاً واشتياقاً لمجهول، وتقوم الطامة في بيتنا حين يُعثر على الصورة ترقد تحت الوسادة، صاح أخي: صورة ولد تحت المخدة.

تناول أبي الصورة وأمعن النظر فيها، نظر إليّ: هذه من جريدة!

ثم إلى أخي: لا تتدخل في ما لا يعنيك.. صورة أعجبتها.. عندها ذوق.. غيفارا مرة واحدة!

راجعت نفسي كثيراً حول موقف أبي الضاحك الذي شابته سخرية مرحة. بالقطع ليس الفتى العابر الذي جعله يغفر لي ويطرب لمشاعري، ماذا يعني اسم غيفارا؟.. لم أكن أعرف أين تقع أميركا اللاتينية ولا الأرجنتين، ظننتها ضيعة من ضيعات فلسطين، بحثت فاندلق غيفارا الكبير أمامي سيلا من فتنة محملة بالبطولة والرجولة والكرامة والنضال، غيفارا.. الحب الأول.. الذي ما زلت أبحث عنه في كل وجه بلا جدوى.. كبّلني بوسامته وسيرته وتاريخه بمقاييس لا سبيل إلى تحقيقها، وكلما تقدم بي العمر؛ وقرأت أكثر عن المناضل وما له من كتابات إبداعية وفكرية، ازددت قناعة أن النبض الأول للقلب لم يخطئ الدرب، وعرفت كم ظلمت هذه المقاييس الرجال الحقيقيين الذين التقيت بهم. وكم أفسدت عليّ صورته البهية أنماط الثوار والحكام والمفكرين.

تغيرت الحياة كثيراً مذ ذلك اليوم، ولكني لم أتغير، ما زلت أبتلع ريقي وأمسك دمعتي كلما سمعت المغنية الفرنسية نتالي كاردون تصيح: معك إلى الأبد.. تشي غيفارا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.