ذكريات الطفولة

الخميس 2016/09/01
لوحة: علي علي

كانت أوامر الحاج سيد أبي أن تكون ساعة النوم وإطفاء الأنوار بعد صلاة العشاء، تغلق كل الأبواب بالمتاريس وندخل الى حجرات نومنا أو قل إلى زنازين اعتقالنا.

وعندما كنت آوي إلى فراشي تدخل أمّي تشدني من ضفيرتي وتقول لي قبل أن تنامى لا بدّ أن تسترجعي كل يوم أعمالك وتسألي نفسك هل تستحقين النوم والراحة ماذا أنجزت هل أرضيت ربك هل قمت بكل ما طلب منك بمنتهى الأمانة.

يطير النوم من عيني كل ما لمس جسدي السرير وأجلس أحملق في الظلام وأظل هكذا حتى الصباح وقد يغلبني النوم وأنا جالسة وحتى الآن كبرت وماتت أمي وجززت ضفائري ومازلت أنام جالسة.

وحينما بلغت العاشرة من عمرى عندما كنا ندخل إلى حجراتنا للنوم بعد صلاة العشاء ولا أنام وأظل جالسة في فراشي أحملق في الظلام تفتق ذهني على أن أضع بطانية ثقيلة خلف شراعة باب حجرتي الزجاجي لتحجب نور المصباح الكهربائي عن الخارج كي لا يراه أبى ويكون مصيري علقة ساخنة وأقرأ ما شئت وجلست أقرأ كتابا في حجم الجيب أسمه اللص الظريف أخذته من بيت جدتي.

في يوم استيقظ أبي ورأى نور غرفتي من عقب الباب ففتح بابي وأسقط في يدى لقد ضبطني متلبسة بخرق أوامره في عدم النوم فى الوقت الذي حدده وقرأت كتابا لم يسمح به هو، ارتعدت أطرافي أمسك بالكتاب وبعد أن تفحصه قام بتمزيقه وألقى به في سلة المهملات وضربني بكفه على وجهى قائلا «تقرئين أدب الشوارع يا غبية.. لك عندي في الصباح عقاب شديد». وخرج وقد نزع البطانية من خلف الباب وأطفا الأنوار.

جلست طوال الليل خائفة وفي الصباح الباكر خرجت إلى مدرستي قبل أن يستيقظ أبي ولم أتناول فطوري وعندما عدت من المدرسة في الظهيرة رغم أني أتضوّر جوعا ادّعيت المرض وأني لا أستطيع تناول الطعام كي لا أجلس على المائدة مع أبي في الغداء كما تعودنا.

فوجئت بأبي يدخل حجرتي وفي يده كتاب النظرات والعبرات للمنفلوطي ويقول لي انهضي لتناول الغداء ولا تقرئي إلا ما أرشحه لك. ورغم أني كنت صغيرة إلا أن الكتاب أعجبني

وبدأ أبي يجلس معي ويناقشني في الكتاب ومن يومها وأنا أقرأ وبسبب ذلك كنت أحصل على أعلى درجات في الإنشاء التي يقال عنها الآن التعبير.

بدأت بعدها علاقتي بأبي تتحسن بعد أن أخذت منحى أوصلني لاعتقاد أني لا أحبه ولا يحبني منذ كنت في السادسة من عمري كنت عندما أحس بوقع أقدامه على السلالم أجرى لأختبئ منه في أيّ مكان قريب كي لا يراني ولا أراه كنت مثل الفأر وهو القط المتوحش المخيف.

وكان للقطط في حياتي تواجد مخيف في كل المراحل فعندما انتقلنا إلى طهطا في صعيد مصر نزلت صاحبة البيت إلى أمي تحذرها وتنذرها بعدم التعرض للقطط بالضرب لأنهم أولادها وكنت في الخامسة من عمري خفت ورأيت علامات الخوف والدهشة على وجه أمي وظللت أتخيل كيف تلد المرأة قططا، وما شكل القطط التي تلدهم المرأة؟ هل وجوههم آدمية ويسيرون على أربع أم على قدمين ولهم ذيل أم لا؟ وهل يتكلمون أم ينونوون وهل يأكلون طعاما مطهوّا مثلنا أم يأكلون العظام والفئران.

وهكذا شغلني الموضوع إلى أن علمنا أنهم في الصعيد يعتقدون أن المرأة التي تلد توأم تسرح أرواحهم في الليل على هيئة قطط، ومن يومها وأنا عندي فوبيا من القطط وأعتقد أنهم إنس في هيئة حيوانات.

وكثيرا ما أشبه الرجال في قصصي بالقطط فعندما كنت في الخامسة من عمرى طلب أبى كوب ماء وأنا في غاية السرور هرولت وأحضرت له الكوب لعلى أحظى برضاه لشعوري أنه يفضل أخي عليّ. فوجئت به يلقى الكوب على الأرض ويسبني ويعنفني لأن الكوب مملوء حتى حافته فتململ ونزلت بعض قطرات الماء على ملابسه شعرت بالخجل والانكسار انزويت منسحبة في حزني الصموت لقد سعيت جاهدة لنيل رضاه فأصابتني لعناته وإذلاله.

طلب أبي من أخي بعد ذلك كوب الماء.. فأحضره مثلى تماما مملوءا حتى حافته.. وقفت أرقبه من خلف الباب كيف سيعنفه مثلي لكنه ابتسم واحتضنه.

وأمي كانت دائما عندما أقع في أيّ غلطة وأعتذر وأبرر ذلك بأنني لم أعرف أن هذا التصرّف غلط هي كانت تسمي أيّ خطا حرام والصح حلال كانت تقارنني بالقطة التي تفرق بين الحلال والحرام.

كانت تردد دائما كيف لا تعرفين الحلال من الحرام والقطة تعرف إذا ألقيت لها بقطعة لحم تأكلها مسرورة وتهز ذيلها شكرا وتتمسح بك أما إذا خطفت قطعة لحم تفر بها وتختبئ خلف المقاعد لتأكلها لعلمها أنها أتت فعلا حراما.

عندما كبرت وخطبني أحدهم ونظرت في عينيه ووجدتهما بلون عيون القطط رفضته رغم أنه لم يكن به ما يمنع الا عيونه.

وفي أول مجموعة قصصية لي.. مع أني لم أدخل عالم الأدب إلا بعد أن بلغت الستين كتبت قصة فأرة وقطط قلت فيها «منذ طفولتي وأنا أشعر أني فأرة صغيرة ضعيفة لا أجيد الاختباء والاختفاء، عندما أسمع صوت القط المنفوش ذي العينين الثاقبتين أرتعد خوفا، لكنى أحيانا أدخل الجحر ويظل ذيلي خارج الجحر فيشدني القط ويكيل لي اللكمات.

كبرت.. ذهبت إلى جحر آخر فوجدت قطا أكثر توحشا وشراسة يعيش بالقرب منّى يمد يده داخل الجحر يشدني من رأسي يوثق أقدامي يقفل باب الجحر عليّ.

أذهب إلى عملي، أحاول أن يكون لحياتي معنى لكني أحاط بقطط أكثر عددا وأفظع توحشا هذا يشدني من ذيلي وذاك يضرب رأسي وآخر يدوس قدمي.. كبرت.. تركت العمل.. لون شعرى تغير.. قدماي تؤلمني.. عظامي وهنت… عيناي لا تبصران جيدا.. وقفت مع نفسى .. هل أكمل حياتي من جحر إلى جحر؟

لقد كبرت ووعيت الدرس. لا بد من المواجهة. من الخطأ أن أستسلم إنه الموت.

طار النوم من عيني . نظرت في المرآة لا بد أن أغير من شكلي أبحث عن هدف يشغلني.. أغير من سلوكي للأفضل ما دمت أحيا.

في الصباح أخذت حمامي ألقيت جانبا بحجابي وضعت باروكة ذات لون كستنائي على شعرى لا بأس فأنا من القواعد لكني لن أستسلم أبدا.

وضعت بعض المساحيق الخفيفة على وجهى لأخفي لوني الباهت. لبست ملابس (كاجوال) وحذاء رياضي كما تفعل الصغيرات.

لم أنس أن أضع في حقيبتي بخاخة صدري، بخاخة أنفي.. أدوية السكر والضغط، وأدوية هشاشة العظام.

قفزت لأركب الترام بكل أمل في حياة جديدة متحررة متمردة على كل ما فات من قهر وعبودية.

الزحام صعب الاختراق.. كل الطلبة والموظفين رغم انتشار خبر أنفلونزا الخنازير يتزاحمون داخل الترام.. لكنّي لن أتخاذل عن مشروعي في التمرد لقد عزمت على السير فيه حتى النهاية.

رغم إحساسي بالإعياء.. كرأمتي وباروكتي لا تسمحان لي أن أطلب من إحدى الفتيات أو الشبان ترك مكانه لي كي أجلس..

ما هي إلا لحظات وأحسست باختناق ثم وقعت مغشيا عليّ ولم أفق إلا وأنا عائدة إلى جحري يحملني قط.هكذا تأثرت منذ طفولتي حتى الآن بالقطط والرجال.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.