رهاب الماء

الخميس 2016/09/01

لم أولد بمدينة فاس، مع ذلك لا أحب غيرها. أعُدُّهَا مدينتي (ولو كره الكارهون، وتَقَوّل العنصريون)، فإذا لم يكف أنني عشت فيها صباي وطفولتي، فهي مدينة والدي وخمسة من أسلافي.. في مدينتها القديمة ترعرعت ولعبت وتربّيت، ووعيت ذاتي والعالم من حولي. لذلك كلما استحضرت الماضي البعيد حلّت في ذهني، فتراكبت الذكريات مع أبوابها وأزقتها وحدائقها. بيد أن أكثرها وقْعا وتأثيرا تلك التي ارتبطت بحادث البِرْكَةِ بحديقة «جنان السبيل».

كنت في شهر أغسطس من سنة 1968 في الثامنة من عمري، وكان صيف ذاك العام حارا، لذلك عملت العديد من الأسر على الاستعداد مبكرا لرحلة الصيف إلى شمال المغرب.. أما أسرتي فلم يكن بإمكانها تقليد تلك الأسر التي اعتادت على حزم حقائبها ولفّ أغراضها من لحاف، وبسط، وأوان في رزم وسلال وعلب كارتون، متوجهة إلى مدن الشمال لقضاء شهر أو أقل؛ كل واحدة حسب إمكاناتها. حيث لا تعود ترى، في أيام الشهر الأولى، إلا الحمير والبغال وهي تحمل الأمتعة متجهة نحو محطة أبي الجنود. وطوال الأيام التي تسبق السفر تخفت رغبة أبنائهم في اللعب، وتكثر سخراتهم، فيمرون بنا، على غير العادة، غير عابئين بلعبنا، مسرورين فرحين بوعد الشواطئ وحمامات الشمس ومداعبة الموج. أما نحن المغلوبين، فنلعب، في تلك الأيام، بلا حماس؛ إذ يصير مجرد مداراة لحزن نابع من فراق أصدقاء أعزاء، لذلك كنت أتملّى وجوههم الطافحة بالحبور وبالكثير من الغبطة التي تعزّي حسرتي..

لكن حالما يتناقص الأصدقاء بالدّرب نستعيد مرحنا، ونعيد الحياة إلى لَعِبِنَا، وفي المساء حيث السمر في زوايا الحي، على عتبات البيوت المهجورة، يصرّح البعض أن رحلة الشمال قد خلصتنا من شركاء لعب فاشلين، ويصرّح آخرون أن اللعب في غيابهم بلا طعم.. نختلف، ثم نتوافق..

لم تكن كل فترات النهار صالحة للعب، وبخاصة ساعة العصر وما بعدها. لذلك كنت أفضّل أن أتجوّل في المدينة متوجّها تارة إلى ساحة باب الفتوح التي كانت في محيط مقبرة قديمة تبدو بعض مقابرها مجرد ثقب تصلح بيوتا لحيوانات ضارية.

كانت الساحة بين باب الحمراء وضريح سيدي علي بوغالب الذي اشتهر موسمه بختان أطفال المساكين وفق طقوس الختان الأرستقراطي، وبها يوجد فضاء للحلقات الشعبية لرواية القصص، حيث هناك من يروي سيرة ذي يزن، ومن يروي سيرة علي بن أبي طالب، ومن يروي سيرة حمزة البهلوان.. وتارة أتوجّه إلى ساحة أبي الجنود أو باب المكينة، حيث حلقات متنوعة بين حلقة (الأقرع الملاكم) الذي يصنع الفرجة بتوريط متفرجين في نزال، ليعمل على مضاعة فرجة مشاهدة النزال بالتعليق الساخر من اللكمات العشوائية لمتنافسين بلا تجربة.
وحلقة السرد العجيب ذي التوجه السوريالي المنضد على الواقع اللغوي والمعيشي؛ ومن أبقاها في الذاكرة محكيات (البزاويز) الذي يفسر الأحلام بشكل ساخر، ويربط كل التأويلات بكلام نابي وساقط يجعل كل امرأة وقفت وهي لا تعلم بمضمون الحلقة تفرّ، وقد غطت وجهها، تاركة شلالا من الضحك.. وحلقة السحر المحيرة التي يجلب فيها (سي موسى) قنينات المشروبات والحلوى.. وحين يصيبني الملل من التحلق، أذهب أبعد أكثر إلى حديقة «جنان السبيل» التي تفصل بين المدينة القديمة وحيّ فاس الجديد الذي بني في عهد الدولة المرينية. وهي أقدم منتزه بالمدينة، وأكثرها شساعة، بها أشجار فريدة وممرّات ظليلة تنعش الروح، وتمنح الملاذ الرخي من قيظ فاس.
يعبر هذه الحديقة وادي الجواهر الذي توزع مياهه عبر شبكات متقنة من خلال قنوات مركزية بكل درب. كنا نسميها (المعدة)، ربما استعارة لكثرتها وتشابكها. وعند مخرج الوادي من تحت السور الجنوبي الشرقي للقصر الملكي تنتصب ناعورة أثرية لا زالت، لحدّ الآن، ترفع المياه وتوزّعها، شاهدة على مجد غابر. وفي نهاية مجرى الوادي بالحديقة وسع المسؤولون المجرى وعمّقوه حتى صار مثل بركة اصطناعية تنتهي بفتحة في حدود المترين، مسقوفة برصيف ضيق للمارة من غير حاجز جانبي. يتدافع الماء بقوة، في الفتحة، محدثا صوتا صاخبا وهو يصطدم بأعمدة حديدية وضعت، لا شك، لتمنع مرور الأجسام الكبيرة، لينساب تحت البنايات.

في غفلة من المسؤولين، أو بتواطؤ منهم، حوّل أبناء الأحياء المجاورة لجنان السبيل هذه البركة إلى مسبح، يرتمون فيها ويسبحون متضاحكين سعداء.. وأنا الطفل الغرّ الذي يعرف الموت والغرق ولا يعرف السباحة، أقف جوارها، ذات أصيل، أتفرّج على الأطفال يقفزون مرحين، إذا بطفل يدفعني في غفلة مني بقوة نحو البركة، كانت الدفعة مفاجئة وقوية لم أستطع معها التماسك فارتميت في البركة، وأنا لا أفكر إلا في الموت الذي سَيَتَخَطَّفُني.

غيبتني الارتماءة المفاجئة عن الوجود، لذلك لم أعلم ما الذي جرى في تلك الثواني إلا من خلال ما سمعته لاحقا ممّن أنقدوني. فهمت من حكيهم لماذا لم أغرق؟ فقد سقطت قريبا جدا من الجسر المغطى حيث الاندفاع القوي للماء، وبعفويتي الفطرية كنت أصرخ وألوح، بشكل عشوائي، بيدي، الشيء الذي جعلني في ثوان أصل إلى بوابة النفق تحت الجسر، ولم يستطع أحد من الأطفال اللحاق بي لخطورة الانحدار، لكن صياحهم جميعا جلب كل المتنزهين بالأماكن القريبة، فأقبلوا يعدون..

لا أذكر شيئا عن الثواني الفاصلة بين سقوطي ولمس الحديد لجسدي، فسلوكي في تلك الثواني لم يكن صادرا عن وعيي الذي لم أسترجعه إلا لحظة التماس… لكنّني أذكر كيف تشبّثت بالعمود الأفقي الأعلى بقوة تفوّق طاقتي، وقد عاد الوعي الصافي إليّ، وأنعشتني جلبة قادمة، فظللت أقاوم تيار الماء وغمره لي بمحاكاة الرياضيين وهم يقوّون سواعدهم عن طريق التشبث بعماد عال والارتقاء بالجسد إلى الأعلى بشكل متكرر. مرت اللحظات كأنها الأبد.. وفجأة أحسست بيدين قويتين تشتبكان تحت ذقني وتحيطان قفاي، وتجذباني إلى الأعلى.. اختلطت عليّ مشاعر الفرح والخجل والخوف والحقد على الفاعل.. ونسيت حتى واجب شكر ذلك الشاب الذي أدين له بالحياة. وقد بلغني فيما بعد أنه انبطح على بطنه وتدلى بنصفه الأعلى لإنقاذي، وساعده أربعة شبان بالجلوس على ساقيه وفخذيه لكي لا يسقط هو الآخر، وإلى جانبه آخرون، أحدهم هو من تسلمني منه..

وبين لحظات إخراجي من الماء ووقوفي على رصيف الجسر سمعت كلاما كثيرا: من يحمد الله على سلامتي ومن يلومني ومن يشتم الطفل الذي دفعني بعد أن سمع الحكاية… حالما خرجت من دهشتي، هربت من خجلي وخوفي تاركا ورائي تعليقات سمعتها في الأيام اللاحقة في الحيّ، لم أتوقف إلا وسط بيتنا مرتميا في أحضان أمي التي سألتني بخوف عن سر البلل، فقلت لها، كي لا أحرم من جولاتي: وأنا عائد من التبرك بزيارة ضريح المولى إدريس شعرت بالعطش فأردت أن أشرب مباشرة من سقاية النجارين، فسقطت في حوضها. لا متني وغيّرت ملابسي. ومنذ ذلك اليوم أُصِبْتُ برُهَاب الماء، ولم تعد تفارقني صور الموت كلما رأيت بِرْكة أو سدا أو نهرا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.