يوم الاحتفال

الخميس 2016/09/01

في ذكرى الحركة التصحيحية، قررنا الهروب من المدرسة، جمعنا بعضنا، وانتظرنا خروج الصفوف إلى الباحة، حيث سيجتمع المدرّسون مع المدير، ليقودوا الطلاب كلهم إلى حيث ستجتمع المدارس كلها في الاحتفال المهيب، وما إن خرج صفنا من الباب حتى بدأنا بالتسرب من الرتل..

لم يكن لدينا خطة لما بعد الهروب، بل كان لدينا إحساسنا بأن عدم حضور الاحتفال سيكون أهم من تدخين السجائر خلف سور المدرسة، أو التلصص على طالبات مدرسة البنات، أو الذهاب لعند واحد منا لمشاهدة فيلم sex..

اقترح أشقانا أن نركب الباص وننزل إلى ساحة المرجة للتسكع فيها، فوافقنا كلنا، وصعدنا دون أن نقطع التذاكر، فنحن طلاب، وقد أعفانا القائد من ذلك. ولأننا في يوم خاص ونحتفل بطريقتنا، فتحنا النوافذ وبدأنا نبصق على المشاة، ورغم أن الشتائم أغرقت أهالينا، إلا أننا لم نهتم، وحتى حين صرخ علينا سائق الباص، أغلقنا النوافذ وصمتنا قليلاً، وحين وصلنا إلى آخر الخط، وفتح الباب، بصقنا على النوافذ ونزلنا مسرعين..

في المرجة وقفنا عند عامود التلغراف العثماني، لكننا لم نستطع قراءة ما هو مكتوب عليه بسبب لافتات الاحتفال التي كانت تحيّي حافظ الأسد قائد المسيرة، مللنا.. فقررنا الذهاب إلى سينما غازي، وهناك قرب بابها كانت فرقة وزارة الداخلية تعزف الموسيقى الحماسية، وبينما تجمع الناس حولها، كانت عيوننا تلتهم بحماسة أيضاً جسد الممثلة إغراء الأبيض البض، في صورها المعلقة عند الباب الخارجي للصالة التي تعرض فيلم «أموت مرتين وأحبك».

لم نكن نملك ثمن الدخول، ولم يكن هناك مجال للاحتيال على قاطع التذاكر، حتى الصور كانت وراء الزجاج المقفل، فشعرنا بالخيبة.. وانسللنا وراء الجموع المبتهجة بعزف الفرقة، ووجدنا أنفسنا أمام ملهى الكروان، حيث علقت صور الراقصات، شبه العاريات، ولم يكن حظنا منه أفضل من حظنا في سينما غازي؛ فقط صور، كما أنه لا فائدة من البقاء هناك إذ أنهن لا يظهرن في النهار أمام الباب.

غادرنا المكان، ثم عبرنا إلى محطة الحجاز، حيث رأينا القطار العثماني القديم، ولم يلفت انتباهنا فندق الشرق، بل عبرنا إلى الحلبوني، ثم نزلنا صوب سوق المهن اليدوية، في التكية السليمانية..

كان هناك بضعة سواح يلبسون ملابس محتشمة، ولكنهم كانوا لطفاء إذ طلبوا تصويرنا، فأخذ كل واحد منا وضعية تشبه وقفات نجوم السينما، ولكن بملابس الفتوة..

وحين انتهوا من ذلك ذهب الشقي بيننا نحوهم وطلب منهم نقوداً فلم يقبلوا أن يدفعوا، فبدأنا نبصق عليهم، ونشتمهم، لكنّ موظفاً من وزارة السياحة خُلق فجأة أمسك بي وبطالب آخر، بينما هرب البقية، ودفع بنا إلى محل الرسام وطلب منه أن يبقي علينا عنده حتى تأتي دورية الشرطة السياحية.

كنا مرعوبين، وكان الرسام يحدق بنا ويبتسم بشماتة، بدأ الطالب الآخر يبكي، بينما كنت أحاول البقاء متماسكاً، وأنا أقول له إننا لم نفعل شيئاً.. فقام من مكانه وأغلق علينا الباب من الخارج وذهب..

كان المكان ممتلئاً بلوحات رسمت فيها شوارع دمشق القديمة، ولكن فوق مقعد الرسام كانت هناك لوحة رسمت فيها امرأة بصدر عارٍ، قال رفيقي هذه فاطمة المغربية، قلت له: لا، فاطمة لا تخلع ثيابها!

اقتربت من اللوحة فوجدت بعض الكلمات فوق رأسها، وقرأت «في أول درس علمتك أن الحب يظل شهياً طوال العمر، حتى أني أرضعتك ماء عيني ورسمتك وشماً فوق جفوني»..

فتح الرسام الباب، وشاهدني أنظر إلى اللوحة، فسألني إن أعجبتني، واستحيت أن أقول له نعم..! فلم يلحّ بسؤاله، ولكنه طلب منا أن نغادر المكان بسرعة قبل أن تأتي الشرطة السياحية وتعتقلنا بتهمة الإساءة إلى السياحة في سوريا، فخرجنا لا نلوي على شيء، وركضنا هاربين، وحين عبرنا الباب الغربي للسوق، وجدنا أنفسنا في باحة التكية أمام المتحف الحربي، بين عشرات من المجندين الذين كانوا يرقصون على أغنية «رعاك الله»، عبرناهم مسرعين، وحين صرنا أمام المتحف الوطني وجدنا رفاقنا الأشقياء يدخنون كلهم سيجارة واحدة، وحين رأونا أعطونا سيجارة لنا وحدنا كي نهدّئ من روعنا، فأشعلناها، ومضينا جميعاً صوب البرامكة، بينما كان صوت موفق بهجت مازال يصدح: رعاك الله يا بو الثوار رعاك الله يا بو الأحرار، معاك الشعب بو سليمان معاك الشعب معاك االله.. الخ.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.