مسبح الفقراء

الخميس 2016/09/01
لوحة: محمد عرابي

قضيت طفولتي وصباي في منزل عجيب من المستحيل لأحد أن يتخيّله، وكأنه متاهة من متاهات بورخس، يجعل أكثر الرجال فطنةً يحذر ولوجه، مع وجود إشاعة تقول إنه مسكون بالجن. كان منزلاً واسعاً مكوناً من طابقين وإحدى عشرة غرفة وثلاثة سراديب مظلمة، اثنان منها بلا نوافذ، وأدراج حجرية مثلّمة، يقع في حي شعبي بمدينة كركوك يُدعى «بريادي»، يقطنه خليط من التركمان والكرد والعرب، أغلبهم نازحون من القرى المجاورة.

علمت، بعد بلوغي سنّ الرشد، أن المنزل كان في الأصل مدرسةً يهوديةً، يعود بناؤها إلى بداية القرن العشرين، ضمّتها دائرة الأوقاف إلى ممتلكاتها عقب هجرة اليهود إلى فلسطين.

ولمّا كان والدي فلاحاً نازحاً، ضعيف الحال، فقد أشفقت عليه وأجّرت له المنزل بخمسة دنانير في الشهر. وقبل أن ننتقل إليه أتى برجل يدّعي أنه ساحر يستطيع طرد الجن منه، وأخذ بنصيحته فأسكن في غرفه الفائضة أزواجاً نازحين، حديثي الزواج، أو ممّن لا تزيد ذريّتهم عن طفلين، مقابل ثلاثة دنانير في الشهر للغرفة الواحدة، وبذلك تحوّل المنزل إلى ما يشبه فندقاً أو خاناً من خانات أيام زمان، يدرّ علينا دخلاً يوازي ما يتقاضاه موظف متوسط الدرجة. كان ذلك عام 1961 وأنا في سن الرابعة.

على مبعدة نحو ميلين عن منزلنا هذا كانت تحيط المدينة، من جهة الشرق، هضاب صخرية قليلة الارتفاع، تنتشر فيها المقالع الحجرية ومعامل الجص. كنا، نحن صبيان الحي، نراقب أحياناً العمال وهم يحشون الثقوب، التي يحفرونها في الصخور، بالبارود ثم يبتعدون عنها مسافةً آمنةً، ويشعلون فتائل موصلةً بها، فتحدث تفجيرات مخيفة، وتتطاير كتل الحجر الكبيرة، التي يجري فيما بعد تكسيرها بالمعاول إلى قطع صغيرة لاستخدامها في البناء.

بمرور الوقت كانت مواقع التفجير تتحوّل إلى حفر كبيرة يصل عمق بعضها إلى ستة أو ثمانية أمتار، وما إن يحل موسم الأمطار حتى تمتلئ تلك الحفر وتغدو بركاً مائيةً داكنة الخضرة. وحين يحل الصيف يلوذ صبيان الأحياء القريبة بالبركة الأكبر، التي يسمونها، مجازاً، بـ»مسبح الفقراء» نكايةً بمسابح النوادي الرياضية والاجتماعية التي لا يستطيعون الاشتراك فيها.

بدأت أقصد ذلك «المسبح» المجاني عندما صرت في أواخر عامي الثاني عشر، رفقة صديقي التركماني الحميم «نهاد»، الذي يكبرني بسنتين، وعدد من أبناء جيراننا.

كنت أختار وقت القيلولة حينما يكون أهلي نائمين، وأعود إلى المنزل قبيل الغسق بساعة، لكنّي مهما حاولت أن أخفي الأمر عن أمّي، التي كانت تخشى عليّ من الغرق ولسعات حشرات الماء، وربما من أطماع المنحرفين أيضاً، خاصةً أنني ولدها الوحيد، فقد كان جلدي «الأملح» يفضحني من شدة زرقته الضاربة إلى البياض. وبالفعل كدت أغرق أكثر من مرة في البداية، لولا أن أنقذني الأكبر منّي سناً، المتمرسون في العوم.
لذلك كانت أمّي تبهدلني دائماً، إلاّ أنها لم ترفع يدها يوماً لتضربني، كما كانت تفعل أمهات أصدقائي، في حين كان أبي، على العكس منها تماماً، يرى أن ترددي إلى ذلك «المسبح»، رغم خطورته، خيرٌ من اللعب في الشارع، أو استئجار دراجة هوائية قد تعرضني للإصابة بحادث اصطدام أو دهس سيارة، من دون أن ينسى نصحي بأخذ الحذر بين حين وآخر.

ذات يوم، لن يغيب عن ذاكرتي أبداً، فوجئت بمجيء أمي إلى «المسبح». لمحتها وأنا وسط ما يربو عن أربعين صبياً وشاباً، فغطست تحت الماء واندفعت بسرعة إلى حافة الطرف البعيد عنها. أخرجت رأسي واستنشقت الهواء بعمق ومددت يدي إلى شاب كان منهمكاً في ارتداء ثيابه، فسحبني بيد واحدة، وما إن وطأت قدماي اليابسة حتى هرعت لأختبئ وراء صخرة كبيرة تبعد بضعة أمتار عن «المسبح».

لبدت هناك أكثر من ربع ساعة، مؤملاً نفسي بأن أمّي ستغادر المكان، حتماً، حين لا تجدني، وتعود أدراجها، عندئذ سأرتدي ثيابي على عجل، وأجري سالكاً طريقاً أخرى تمر من مزرعة خضار فأسبقها في الوصول إلى المنزل. لكن ما حدث لم يكن يخطر على البال قط، فقد تعرّفت أمي على ثيابي، الموضوعة تحت قطعة حجر، وخطفتها وعادت إلى المنزل.

أخبرني بذلك «نهاد» عندما رآني أخرج من مخبئي، فانتابني التوتر كما لو أنّي تلقيت صفعةً، والتفت إلى ناحية الحيّ فلم أر أثراً لها. عرض عليّ «نهاد» أن يلحق بها ويلتمسها العفو لعلها تعيد له ثيابي، بيد أني كنت متأكداً من أنها لن تستجيب له، فقد تعمدت خطفها لتعاقبني، لتجعلني هزأةً أمام سكان الحي، وأنا عائد إلى المنزل بلباسي الداخلي المبلول المتسخ.

انتظرت «نهاد» حتى يرتدي ثيابه، وبينما كنت أفكر في تجنب السخرية التي سأتعرض لها قفزت إلى ذهني فكرة ذهبية «لِمَ لا يسبقني هو إلى منزلهم ويجلب لي شيئاً ألبسه؟». تحمس «نهاد» للفكرة وأطلق ساقيه للريح، وخلال دقائق أحضر لي قميصاً وسروالاً رياضياً، فلبستهما ورجعت المنزل مبتهجاً لأنني أفشلت العقوبة التي خططت لها أمي.

لكن يجب أن أعترف بأن تلك الحادثة كانت درساً قاسياً اتعظت منها، فلم أعد إلى ذلك «المسبح» نهائياً. أما صديقي «نهاد» فقد استمر على ارتياده رفقة أصدقاء آخرين، وبعد أقل من شهر حملوه، يا للأسف، جثةً هامدةً إثر اصطدام رأسه بصخرة حادة وهو يقفز إلى الماء من مكان مرتفع، ففقدت صديقاً عزيزاً لا تفارق صورته ذاكرتي.
مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.