انتحار مؤجَّل

الخميس 2016/09/01
لوحة: ربيع كيوان

كنت في الحادية عشرة من عمري عندما قرّرتُ الانتحار. كنتُ قد قرأتُ آنا كارنينا لكنّني لسوء حظّي ولدتُ في بلاد لا قطار فيها، فكان لزامًا عليّ أن أبحث عن طريقة أخرى أرمي بها نفسي إلى الموت.

ولمّا كنتُ أعاني رهاب الأماكن المغلقة والاختناق البطيء كان من المتعثّر عليّ أن أستفيد من تجربة رجال كنفاني وأن أترك نفسي تختنق داخل جحيم خزّان صدئ. كنتُ كذلك، وللأسف الشديد، أخشى الحبوب المنوّمة والأدوية شرّ خشية ما جعل طريقة إيما بوفاري في الانتحار بعيدة المنال، هذا على أنّ أحد النقّاد اتّهمني تهمة جميلة بأنّني رومانسيّة مثلها إنّما تُهمته هذه لن تجعلني أعانق الموت بشجاعة وتصميم كما فعَلَتْ.

لقد أصابتني كارثة وجوديّة إنسانية شخصيّة حميمة عندما بلغتُ الحادية عشرة من عمري وقرّرتُ على إثرِها الانتحار. فهل ألجأ إلى قسوة الطبيعة وأترك نفسي تحت رحمتها؟

عوامل الطبيعة التي عدَّدها باشلار لم تكن فعلاً على قائمة أموري المفضّلة، فكنتُ أكره النار وأنفر منها، أمقت الاختناق، أخشى أن أُدفَن حيّة تحت التراب،وأجزع من الغرق وأشعر بالاختناق ما أن يبلغ مستوى الماء خصري، فلم يكن خيار فرجينيا وولف بالموت غرقًا مطروحًا على الطاولة أصلاً. فَأَظلَمَ الموت في وجهي من بعد أن كانت قد أظلمت الحياة.

كنتُ في الحادية عشرة من عمري عندما بدأَتْ مصائبي وقرّرتُ الانتحار. أردتُ أن أنتحر وأن أكتب رسالة كما فَعَلَتْ داليدا، رسالة يقرؤها والداي بعد أن يجدا جثّتي الزرقاء مستلقيةً برهبة وأرستقراطيّة.

رسالة يفتحانها ويقرآن فيها جُمَلي الحزينة التي تحمل spleen بودلير وسوداويّة أبي العلاء المعرّي. أردتُ الانتحار والموت والرسالة أكثر من أيّ أمرٍ آخر. كنتُ أقف كلّ مساء إلى نافذتي وأحدّث الله متمنّية أن يرشدني إلى الصراط السهل الذي يقودني إلى الموت بلا ألم أو وجع أو تشوّه.

وقد تتساءلون عن سبب حزني الجارف هذا وبؤسي النيتشاويّ، قد تتساءلون بحشريّة أو غضب حتّى، عمّا قد يدفع فتاة في الحادية عشرة من عمرها إلى الانتحار، فأجيبكم أنّ اكتشافًا فظيعًا زعزعني.

كنتُ في الحادية عشرة من عمري عندما اكتشفتُ أنّني فتاة. نعم، فقبل ذلك كنتُ مجرّد مخلوق يلعب ويدرس ويخرج ويدخل ويقفز في أرجاء البيت محطّمًا نصف الأشياء.

قبل الحادية عشرة كنتُ مصيبةً متنقّلة يتجنّبني أشقّائي الصبيان الثلاثة ولا أنفكّ أتشاجر مع أمّي في كلّ صغيرة وكبيرة. كنتُ كائنًا بلا جنس ولا همومٍ ولا متطلّبات ولا تقلّبات في المزاج. ثمّ فجأة صرتُ فتاةً.

ولِمَن بدأ يفكّر بأنّني سأتحدّث عن التطوّر الجسديّ للفتاة في هذا العمر، لِمَن يظنّ بأنّني أقصد في حديثي هذا مسألة اكتشافي أنوثتي ذات صباح فهو مخطئ. لا.

لقد اكتشفتُ أنّني فتاة عندما أدركتُ أنّ أمورًا كثيرةً ممنوعةٌ عليّ. اكتشفتُ أنّني فتاة عندما حرمتني أمّي السهر مع أصدقائي كلّ يوم، أو الخروج عند صديق بعد المدرسة، أو مشاهدة حفل موسيقيّ صاخب يمتدّ إلى منتصف الليل. اكتشفتُ أنّني فتاة في يوم مشؤوم لم يُسمَح لي فيه بالمبيت في نزلٍ قديم مع أصدقائي، في ليلةٍ عدتُ فيها متأخّرة إلى البيت، في شتاء لم يُسمح لي فيه بالتزلّج مع صديق مقرّب، في يوم اكتشفتُ فيه أنّني مغرمة وأنّ الذي أحبّه لن يروق محيطي. اكتشفتُ أنّني فتاة عندما راحت نظرة أمّي تقسو وممنوعاتها تكثر وقوانينها العوجاء تتضاعف وأصبح الجيران على حين غرّة عنصرًا مهمًّا في حياتي يكرّرون عدّية «صرتِ صبيّة، نفرح منّك» كأمثولة قميئة.

كان سقوطي من عدن. أذكره ذاك الشتاء بشكل دقيق، كنتُ ناقمة على أمّي وعلى الجيران وعلى الله. كنتُ في كلّ مساء أقف إلى نافذتي وأروح أبرم في رأسي الاحتمالات وأبحث في قصص أبطالي المفضّلين عن طريقة لذيذة للانتحار، حتّى أنّني وصلتُ ذات مساء في أبحاثي إلى يهوذا الأسخريوطيّ ووجدتُ في انتحاره مصدر إلهام.

ثمّ مرّت الأيّام ولم أعد في الحادية عشرة من عمري. سهرتُ وشربتُ ورقصتُ وأحببتُ وتأخّرتُ في العودة إلى البيت. سافرتُ وتزلّجتُ وتنقّلتُ بين المدن وغرقتُ في الوجوه وتمرّدتُ وعشقتُ واعترفتُ وأجبتُ بوقاحة كلّ مَن قال لي «على قبالك». مع الأيّام، تلاشَتْ الممنوعات وتلاشى الجيران وتلاشت رغبتي في الانتحار وتلاشت نظرات أمّي. اعتدتُ أنّني فتاة، واعتدتُ انتزاع ما أريده، واعتدتُ فكرة الحياة، أمّا أنوثتي فقد أجلستها في زاوية غرفتي أتأمّلها وأسترق النظر إليها من حين إلى آخر، لا أنا أجرؤ على استثمارها ولا أجرؤ على استفزازها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.