صورة الله

الخميس 2016/09/01
تخطيط: فادي يازجي

حدث موقفان أرى أنهما أثّرا فيّ وأعتقد أنهما شكلا أهم قناعاتي.

كان ذلك في طفولتي البعيد ة كالسراب، أمضي إليها وكلما أوشكت تبتعد وتفرّ!

كنت في العاشرة تقريبا، وكنت أول الأبناء، مدللا من الجميع عماتي وأعمامي، وبنات وصبيان الجميع، ربما لأن أبي كان كبير العائلة، وربما لأنه تحمّل عبئها بعد رحيل الجد، كان أبي يعمل في شركة المحلة، وكان رجلا لطيفا وفنانا بالفطرة، حتى أنه اشترك في أدوار صغيرة في أوبريتات سيد درويش، التي كان صلاح أبو سيف يعيد إخراجها في المحلة على مسرح سينما «الوطنية»، إبان عمل صلاح في شركة المحلة، في أوائل الأربعينات من القرن الماضي، عاشر أبي الخوجات، وحارب في موقعة العلمين على الحدود مع ليبيا، وحوصر في الفالوجا مع عبدالناصر، كان وسيما وجذابا، ومثقفا دون أن يتجاوز تعليمه الابتدائية، وأشك في حصوله على شهادتها، ربما موت جدي عجل بتحمله مسؤولية الأسرة، وقر في نفسي أنه عارف وعليم والجميع ينتظر رأيه، هو لا يخطئ أبدا، وهو السيد المطاع حتى كان يوم. كنا نسكن في بيت له سلاملك يؤدى إلى حديقة هُجرت، ولكنها مسوّرة، وفي السور فراغ كان لبوابة في ماضي الأيام، لا باب يغلق إذن إلا باب الشقة بعد السلاملك!

كانت أمي تضع إوزات في جانب من السلاملك طول النهار وتدخلهم في الليل، حتى كان هذا اليوم، الذي ارتأى أبي أن تتركهم في الليل أيضا، ورغم اعتراضها وتوجّسها من سرقتهم إلا أنها لم تفلح في إقناعه لليلتين لم يحدث شيء ممّا تخشاه، في الثالثة قامت في الصباح ولم تجد الإوزات، لم تفعل شيئا سوى أنها نظرت إليه طويلا وبكت يومها اكتشفت أن الجميع يمكن أن يطالهم الخطأ، وأن أبي ليس معصوما شأنه شأن الجميع، وساعدني هذا على فحص كل المسلّمات، وإعادة النظر، وأن الأسئلة باقية أما الإجابات فهي متغيرة لأننا وإجاباتنا في قبضة الصيرورة!

الموقف الثاني كنت في الثانية عشرة تقريبا. كنا نسكن هذا البيت، وكان يقع في حي السبع بنات، وقد سمّي بذلك لاستقرار جماعة تبشيرية بهذا الاسم فيه منذ القرن الثامن عشر، بنت مستوصفا لعلاج عيون وآذان البسطاء بلا مقابل. وكانت هذه الجماعة، تخرج في عيد السنة المريمية حاملة الشموع، وهى تتضرع قائلة هللويا هللويا، ربما خمسة أو ستة صفوف بملابسهم السوداء والكولات البيضاء وغطاء رأس جميل.

رأيت خلفهم بخطوات بعض الفتيات يرددن ما يقلن، وعرفت منهن فتاة في الرابعة عشرة، تسكن في الدور الرابع من بيتنا، بعد يومين صادفتها عند البقال فهتفت: هللويا ولم أكن أعرف ما تعنيه، فابتسمت وقالت هل تعرف ماذا تعنى، قلت لا ولكن صوتكم كان جميلا.

قالت معناها: يا رب ارحم.

صارت بيننا علاقة لطيفة، كنا نلعب معا، وعرّفتها بأخواتي البنات، نسهر أسفل السلاملك ونحكى الحواديت، حتى فاجأتني ذات يوم بأن القسيس يريد رؤيتي!

ارتبكت وشعرت بالخوف وبالكاد قلت لها لماذا؟

قالت: في الاعتراف، قلت إنني معجبة بك، وإنك لطيف جدا.

فابتسم القسيس وقال: هل يمكن أن أراه، هاته معك المرة القادمة.

طبعا لم أذهب.

كان السؤال الذي عصف بي: هل الله على صورة جدي قوي يعذّب بالنار، هل يبدو جليلا مهيبا كثير الطلبات، أم يبدو جميلا متسامحا كهذا المصلوب نيابة عن الخطائين من أبنائه؟ ولكنني اندهشت من أن يكون معينا على الحب كما هو معين في المرض والحاجة!

هكذا صرت محبا للآخر متسامحا ومقدرا قناعته!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.