صديق الأبجدية السرية

الخميس 2016/09/01
لوحة: فادي يازجي

ـــ نحن لسنا بنات يا كلاب.

كان يهذي بقهر، جانبي على الرصيف.. بعد أن صرنا خارج اللعبة، خارج كل شيء، وذلك الخجل يبللنا، يبلل حتى ثيابنا.

قبل أن تبدأ اللعبة في الشارع، عمر وحيان تقاسما بقية الأولاد، أنا و جابر لم يأخذنا أحدهما.

بدأتْ المباراة، بنات حارتنا على الشرفات والأسطح، يراقبن بفرح الكرة بين أرجل الأولاد، آنذاك فهمنا من كلام الكبار أن المراقبة من صفات البنات واللعب بالكرة للأولاد.. أنا وهو مثلهن، على الرصيف راقبنا المباراة.

ـــ نحن لسنا بنات..

ردّد مجدداً والخجل يفترس ملامحنا.

لم يكن صديقي، كنّا نجتمع مع البقية في الشارع لنلعب بالكرة كلّ مساء، لكن في ذلك المساء صار لي وله مصير مشترك من الخجل، أتذكر والده.. أخذتُ لورشته دراجتي الهوائية بعد أن يئستُ منها فأصلحها بسرعة آنذاك.

ليلتها رددتُ طويلاً ليلاً في سريري: يا كلاب.. نحن لسنا بنات..

بعد يومين، خلال لعبة جديدة، شاهدته على الرصيف، وكانت كلّ الدراجات الهوائية في العالم تصيح في وجهينا وهي تمد ألسنتها:

ــــ مرحبا يا بنات..

ــــ تعال معي..

همستُ له، دخلنا حديقة بيتنا وتسلق شجرة الأكيدنيا خلفي لندخل عبر غصن لها غرفتي من الشباك، ناولته ورقة كان لديّ منها نسخة أخرى، اخترعتها صباحاً أثناء درس العلوم.

تأمل متعجباً الرسومات عليها، وأمام كلّ رسم ثمّة حرف من الأبجديّة العربية، شرحتُ له أنني اخترعتُ حروف جديدة سرية للكتابة وشيفرتها موجودة فقط على هاتين الورقتين.. وبهذه الأبجدية الجديدة سوف نلهو بأن نتبادل الرسائل، وجهه نهاية شرحي ــ أتذكر ــ كان فرحاً لا يقتل.

تحت وسادتي، تحت وسادته، على سريرين في غرفتين قريبتين وضعنا الشيفرة السرية لهذه الأبجدية الجديدة.

لأسابيع تبادلنا أنا وهو الرسائل بهذه الرسومات الغريبة، نهاراً في المدرسة ومساءً في الشارع، والأولاد يجتمعون حولنا ويتأملوننا بغيظ والغيرة تنهش أرواحهم، خلال تلك الرسائل لطالما تمنّوا أن يعرفوا ما نكتبه لبعض، فراس خمّن أننا نشتمهم ونشتم الأساتذة، عماد ظنّ أننا نتحدث عن أخته، رشيد ومازن قالا إننا نتبادل أسئلة الامتحان، مهند أكد أننا نكتب لبعضنا موعداً ما خلف المدرسة لنتسلق الحائط ونهرب منها.

أنا وهو، كنا بعد رجوعنا من المدرسة أو الشارع، وبمساعدة ورقة الشيفرة، نفك الرسائل.. أتذكر، مرّة كتبنا لبعضنا كيف نتخيل موتنا بعد عمرٍ طويل، وبرسالة أخرى.. شتمنا أهلنا.

ثمّ جاء الشتاء بأمطاره الغزيرة والامتحان بأسئلته المزعجة، فجأة اختفى.. انتقل مع أهله إلى بيت جديد في حارة بعيدة، لم أهتم كثيراً.. إنما رميتُ الورقة الخاصة بي من الشيفرة السرية لتلك الأبجديّة بسلة المهملات في غرفتي بلا مبالاة، وبعد مساءين اختارني حيان ضمن فريقه لأنتهي كبنت على الرصيف، لم أعرف وقتها إن كان هو قد انتهى كبنت في حارته الجديدة.

سقط مع الزمن خلال عقدين من ذاكرتي، مرّة أخبرني أحدهم أنه صارت لديه ورشة لتصليح الغسالات والبرادات، فابتسمت.

جاءتْ الحرب وهربتُ من البلاد، لكنها.. الحقيرة، الحرب.. لم تهرب مني.

هذا المساء، في أخبار التلفاز.. قال المذيع بصوت بارد إن مدينتي الصغيرة تعرضتْ مجدداً للقصف، أسرعتُ ــ كعادتي بعد هكذا خبر ــ إلى محرك البحث (غوغل) لأدخل موقعاً ينشر أسماء القتلى في مدينتي.

ثمّة قائمة طويلة للضحايا، قرأتُ الأسماء وأنا أشرب ككلّ ليلة من هذا الخمر الرخيص، الاسم الثاني: أظن أنه بائع المازوت، الثالث: صهر آل حمادة، السابع: جار الحاج يحيى، التاسع: جابر عبد الجليل، يا إلهي.. إنه هو، صديق الأبجديّة السريّة أيام الولدنة.

لحروف اسمه مع الكأس الثالث مرارة لا تحتمل، تذكرتُ تلك الأيام، استمرتْ الذكريات في رأسي عدة كؤوس وسجائر، كدتُ أختنق، مشيتُ ثمُ فتحتُ باب الشرفة لأتنفس قليلاً، كان الليل يترنح أمامي كعجوز يرفض أن يموت.

ــــ نحن لسنا بنات.. نحن لسنا بنات.. نحن لسنا بنات..

رصيف بيتنا تمدد في ذاكرتي مع كلمات الهذيانات القديمة لجابر.

كلّ جهات الليل غامضة، كهذه الحرب، كوجوه كلّ القتلى، كرصيف غادرته منذ زمن، من جهة غامضة لعتمته جاءتْ وارتطمتْ بوجهي.. استغربتُ.. لا هذا الوقت ولا هذه الشرفة الوسخة، زمان ومكان يناسبان أيّ فراشة، كما خمّنت.

انحنيتُ ببطء، تفاجأتُ.. ورقة مطوية بعناية كانت قد اصطدمتْ بوجهي وسقطتْ هنا، فتحتها بأصابع مرتجفة، و.. شتمتُ الليل، شتمتُ كلّ شيء.

على الورقة ثمّة رسالة طويلة، بتلك الرسومات، رسومات الأبجديّة السريّة مع جابر.. الآن، على الشرفة، أنا الهواية المفضلة للاختناق.

همستُ بخوف: هل أنت هنا يا جابر؟ جاوبني الليل بعتمته.

قد أعيش طويلاً، قد أفتش كمجنون في كلّ سلال المهملات في غرف الأولاد، لكن لن أعثر على شيفرة هذه الرسالة لتظل مجهولة إلى الأبد.

تأملتُ هذه الرسومات التي اخترعتها منذ عقدين في هذه الرسالة، كنت أهذي باسم القتيل.

بينما رسومات الرسالة، بهدوءٍ.. بدأتْ ترقص على الأسطر وكأنها مخمورة، لتتخذ شكل بنات جميلات.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.