منصة العروسين

الخميس 2016/09/01
منحوتة لفادي يازجي

كنت في العاشرة من العمر وفى منتصف دراستي الابتدائية.. وكان اليوم يوم جمعة.. موعد راحتنا الأسبوعية ولعبنا كرة القدم سويًا في الشوارع الخلفية، وكانت هذه الجمعة بالذات مميزة جدًا لي على الأخص، فجيراننا في الشقة المقابلة يُعقد قران ابنتهم في المساء ويقام الحفل في ذات اليوم بالليل، وكان زملائي بالمدرسة يعقدون النية على حضور الفرح ويدبرون الخطط لمغافلة الكبار والاختباء أسفل الكراسي وبين فرجات السرادق لرؤية الراقصة، فقد كان من المعتاد في مثل هذه المناسبات طرد الصغار قبيل فترة الرقص حتى لا يتعرفوا على مفاتن الجسد المغاير، وكان زملائي يعتمدون عليّ في إخفائهم بينما يحلمون بما سوف يرونه من تفاصيل.

وصحوت صباح الجمعة على مشادة بين أمي الحنون وأبي الحاد واخترق الحوار فرشتي وغطائي بالرغم من أن أمي التي كانت تبذل جهدها لمنع الصوت من مغادرة شقتنا والوصول إلى شقة الجيران بالمحايلة والتوسل وصولاً إلى التهدج! ثم فجأة حلّ الصمت. وغادرت غرفتي لكنني تراجعت مندهشاً ووقفت بجوار الباب.. فقد كانت الصالة ممتلئة بأثاث الجيران الذين أخلوا شقتهم تمهيداً للعرس.. ورأيت أبي جالساً بجلبابه الصوف على كرسي خشبي ينفخ ويزفر، وأمّي واقفة قبالته ووجهها أحمر كالدم تكاد تتوسل إليه بألا يرفع صوته فيفسد على الجيران فرحتهم.. وكان يدب بحذائه اللامع على الأرضية الباركيه وعروق رقبته نافرة والرذاذ يتطاير من فمه وهو يلومها :

عاجبك كده.. من صباحية ربنا يبلونا بعفشهم.. إنتِ ما بتفهميش؟

اقتربت أمّي تربّت على كتفه، فنطرها بعيدًا وهي تقول برجاء:

معلش يا حاج.. أهو يوم ويعدي.. وحاجة تقعد لابنك.

صرخ فيها فقفزت إليه ملتاعة متوسلة أن يسكت لكنه لم يبال واستمر في اللوم: لا ابني ولا زفت.. «ثم افتعل النهوض».. أنا حاقوم أروح لهم ييجوا ياخدوا حاجتهم دي.

قبلته أمي على رأسه وعلى يديه وهي تحلّفه بخاطرها وخاطره وخاطر المسلمين كلهم، فعاد إلى مقعده مرة أخرى لكنه لم يتوقف عن الكلام.

أنا ما كنش لازم أعتمد على مرة فلاحة زيك.. دا إنتِ حتى ولا عملتي لي اعتبار!

في هذه المرة انطلق الصوت من أمي قوياً.

ليه يا حاج.. مش هم استأذنوك إمبارح وقلتلهم ما فيش مانع.

رد أبي ساخراً:

استأذنوني يحطوا حتتين عفش.. مش عفش الشقة كله.

استسلمت أمي تماماً وقالت وهي تسير باتجاه المطبخ:

على العموم اعمل اللي عايز تعمله يا حاج.

استفز أبي لكنه لم ينطق.. الغريب أنني وأنا في هذه السن الصغيرة وعمري لا يتجاوز العاشرة كنت متأكدًا من أن أبي لن يذهب إليهم ويطلب منهم إعادة الأثاث مرة أخرى إلى شقتهم.. وكنت مندهشاً من أن يدخل على أمي هذا التهويش.. دقائق قليلة وسمعت صوت الباب يدوّي مع صدى خطوات أبي هابطًا الدرج.. ووجدت أمي تبكي في المطبخ.. لم أسألها عن سبب البكاء لكنها عندما رأتني أتأملها بأسى.. احتضنتني وأعطتني نقوداً لأتنزه.. ورجتني ألا أطلب من أبي شيئاً هذا اليوم.. نزلت ولعبت مع أصدقائي ثم خططنا أن ننقسم إلى ثلاث مجموعات فى المساء.. مجموعة تجمع أرغفة الأرز واللحوم، ومجموعة تجمع قطع الجاتوه، ومجموعة تلبد بجوار خشبة المسرح تسرق بعض نقوط الراقصة بعيداً عن أعين الجميع.. اخترت طبعاً المجموعة الأخيرة حتى أستمتع بالراقصة ورؤية المدعوّين وهم يتلمسون صدرها وهم يضعون النقود مثلما رأيت في فرح سابق.

وفى المساء تسللنا إلى شقة الجيران وهم يرصون الكراسي ويجهزون منصة العروسين ومسرح الغناء. واكتشفنا المنضدة المعدة لإطعام المدعوّين خلف ستارة مزركشة وتقبع فوقها حلل مملوءة بالطعام.. وحلا لنا اللعب أسفلها نختبئ ونجرع حتى تعثر أحدنا فيها وقلب بعض الحلل فأحدثت دويًا هائلا جعلتهم يجرون خلفنا في أرجاء الشقة بالتزامن مع صوت الطبل والدفوف الصاعد من أسفل المنزل يعلن عن وصول الزفة. وفى رحلة هربي اندفعت خارجا من الشقة فوجدتني في قلب جلباب أبي الذي رفعني من القفا وألقى بي في حجر والدتي التي كانت تمشط شعرها ثم أمرها متوعداً: الواد ده يتخمد.. مش عاوز أشوفه بره خالص.. لو خرج.. إنتِ المسؤولة.

وضاعت أحلامي بمشاهدة الفرح وتأمل الراقصة وفشلت جهود أمي في التوسط لي بالدخول أكثر من مرة، وحاولت النوم لكنه استعصى عليّ من الغضب ومن زميلي شريف الذى تسلل حيث سريري ليخبرني أو ليكيدني بأنه رأى الراقصة تهبط مع فرقتها من ميكروباص أسفل البيت وباستعداده لتهريبي إلى الفرح طون أن يعرف أبي. لكنني صرخت فيه وطردته فأخرج لي لسانه متشفيا وجرى. ثم علت الطبول وتعالت الأصوات فغلبني القهر وغلبني النوم. وفى وسط النوم رأيت أمي بالغرفة مع نسوة أخريات.. وهي تشير إليهن نحو المسامير التي بالحائط ونستخدمها كشماعات أعلق عليها مرايل المدرسة، ثم واربت أمي عليهن الباب.. تسللت أصابعي لتبعد الغطاء برفق عن رأسي، وظللت أتلصص على الفاتنة ذات الملابس السوداء وهي تخلع ملابسها وجسمها أبيض وثدياها نافران يكادان يخرجان من الحمالة الحمراء.. ساعدتها الأخرى في ارتداء «بدلة» الرقص البمبي التي يتوزع عليها كثير من الترتر.. كما ساعدتها في ضبط أصباغ الوجه، حتى أتت إحداهن تستعجلهما فهرعن معًا من الغرفة.. زاد إيقاع الدفوف والطبول ونهضت بنصف رأس وكان هذا واقعًا وليس خيالاً.. وظللت فترة مرتبكاً متحيراً.. ولم أتأكد من أنه حقيقي حتى تلمست فستانها الأسود وتشممته كثيراً.. عدت إلى فراشي هذه المرة متربصاً منتظراً، وكلما تعالت الزغاريد وصوت المؤدي الذي يصاحب الراقصة تضايقت، وكلما خفت الصوت تأهبت، لكن سرعان ما يطالب المدعوون بإعادة الرقصة ويدوى الصخب من جديد.. إلى أن سمعت تصفيقًا عالياً وموسيقى متلاحقة.. خمنت أن الراقصة تغادر خشبة المسرح.. وكنت بالفراش مغلقاً عيني إلا من بصيص أكاد أرى به.. دخلت الراقصة تنهج وجلست على كرسي قبالة سريري..كان العرق يتدفق غزيراً منها وكان يضفي جمالاً على جمالها.. كانت صاحبتها تلازمها وبفوطة بيضاء تجفف عرقها، وكنت مغتاظاً منها جداً.. ثم بدأت أحسدها عندما تجولت بالمنشفة حول صدر الراقصة ورفعت صدريتها وبدأت تجفف النهد.. هنا أعجزتني الرؤية فارتفعت بغباء، فرأتني الراقصة وشهقت.. بينما صاحبتها تندفع تجاهي وهى ترفع عني الغطاء.. ضحكت الراقصة حين رأت جسدي الضئيل وقالت: عامل نايم يا منيّل؟! تدافعت الدموع رغماً عني.. نهضت الراقصة تربت ظهري.. كانت رائحة عطرها الممتزجة بعرقها تحيطني وتغمرني بالسعادة.. لكنني واصلت البكاء.. هدأتني وسألتني: لماذا أنام بغرفتي ولا أحضر الفرح؟.. واستحثتني على الإجابة.. وجدت نفسي منساقاً للكلام معها.. قلت لها كل شيء.. عن أبي القاسي.. وأمي الضعيفة.. والأولاد الذين استمتعوا بالفرح وسيغيظونني غداً.. وتماديت فحكيت عن خطتنا لسرقة النقوط.. ضحكت طويلاً وقالت: الطبال كان هايموتكم.. ثم طلبت من مرافقتها الحقيبة وأخرجت بعض النقود، رفضتها بشدة.. سألتني: عاوز حاجة؟

سألتها: إنتِ حترقصي تاني؟.. سألتني: ليه؟.. أجبت بسرعة: عشان تاخديني معاكِ أتفرج وساعتها أبويا مش هيقدر يضربني.. ضحكت وقالت هيضربك بعد ما أمشي يا فالح.. بان على وجهي الاستياء.. سألتني: بتحب الرقص؟ أومأت مؤكدًا.. فأمرت مرافقتها بأن تأتي بالطبلة بسرعة.. اعتقدت أنها ستعطيني الطبلة هدية لأغيظ بها الأولاد.. فارتبكت أين أخبئها؟ أتت المرافقة بالطبلة، أشارت إليها أن تغلق الباب وتقف خلفه، وطلبت منها أن تدق على الطبلة برفق.. عدلتني على السرير.. وبدأت ترقص لي وحدي.. وتهز لي ثدييها كما تهزهما للكبار.. ثم اختطفت يدي الصغيرة ووضعتها داخل حمالتها فلمست صدرها الذي لن أنسى ملمسه لسنوات، ثم مالت علي وقبلتني وهي تقول: كويس كده.. ابتسمت وقلت: كويس. ارتدت ملابسها ووعدتني بأنها إن جاءت لإحياء أيّ فرح في حيّنا ستأتي إليّ وتأخذني معها.. رحلت وانتهى الفرح. لكن لم تنته هذه الليلة الواقعية جدًا لي. فقد جعلتني لا آبه لأيّ فرص ضائعة وأوقن أن النصيب آت لا محالة. وقد ساعدني ذلك كثيرًا في حياتي العادية والإبداعية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.