صورة ثلاثية عند سور المدرسة

الخميس 2016/09/01
لوحة: علي علي

لطالما تباهيت بكوني خريج المدارس الثلاث الأشهر لمدينتي اللاذقية، بدءاً بمدرسة «الأرض المقدسة» الكاثوليكية، حيث أمضيت المرحلة الابتدائية، تليها «الكلية الوطنية الأرثوذكسية» التي عبرت بها المرحلة الإعدادية، إلى ثانوية «جول جمال» التي عندما طلب مني بمناسبة يوبيلها الذهبي، أن أكتب شيئاً عنها، باعتباري أحد طلابها، قلت «إذا كانت المدرسة أمّاً، فمدرسة ‘جول جمال’ أمي التي فطمتني».

شيء ما ينقص أيّ «لادقني» إذا لم يكن خريج «جول جمال»، أسماء مدرائها وأساتذتها وحتى طلابها، خاصة أولئك الذين صاروا رؤساء ووزراء وأدباء مشهورين، والقصص التي تروى عنهم، تشكل أجمل وأهم صفحات ذاكرة المدينة. إلاّ أني، شخصياً، كرهت «جول جمال» كما لم أكره أيّا من هذه المدارس الثلاث على اختلاف أسباب كرهي لكل منها، فالسنوات الثلاث التي قضيتها في «جول جمال»، كانت بالنسبة إليّ عذاباً يتجدد كل صباح، وأنا أجرجر خطواتي من بيتي في الطرف الجنوبي للمدينة المفتوح على البحر إلى وسطها المغلق «ساحة الشيخ ضاهر»، التي يهيمن عليها بناء المدرسة الحجري، وكأنه قلعة مهيبة، مما أدى لتراجع غير مفهوم في مستواي الدراسي، حتى أنّي كدت أرسب في الصف الثاني الثانوي، لولا تدخل مدرب الفتوة، قريب أمي.

سوف أقص الآن، ما منعت نفسي، ومنعت أيضاً «مصطفى عنتابلي»، الجالس بجانبي في الصورة، ومظاهر القلق تبدو على محياه الطفولي، وبيننا يقف «ممتاز منلا» بسحنته الشاحبة يدوس بقدم واحدة على حجر ناتئ من سور المدرسة، وثلاثتنا نرتدي زينا العسكري «الفتوة» كاملاً، القبعة ذات الشعار، والبوط الأسود يغطيه «الكتر»، والشريطة التي يحدد لونها صف الواحد منا، ما رغبت من الجميع عدم الإتيان على مجرد ذكره، رغم تورطي وتورط مصطفى وأختي مرام بكتابات مسهبة حول كل شيء عشناه في ماضينا، فما بالك بحادثة غير عادية، لا شبيه لها، أقرب للجريمة، كنت أنا بطلها، وكان مصطفى وصديق آخر «عدنان صوفي» ضحيّتيها، وما زال هناك، رغم انقضاء أربعة عقود كاملة، من يذكّرني بها، وكأنه يظن أني نسيتها.

آخر تلك السنة.. 1965، التي التقطت لنا بها هذه الصورة، السنة الثانية لي في «جول جمال»، والأولى لمصطفى، حدث وكنا مجموعة من الأصدقاء، خمسة أو ستة، خارجين من مشاهدة فيلم ما، أظنه åسبارتكوسò، إذا خدمتني الذاكرة، التي أشعر أنها بدأت بالتلاشي، وأنا أحاول استعادة العديد من تفاصيل الواقعة، وكنّا شبه منتشين بمشاعر الحرية والثورة التي يعبر عنها الفيلم، وبينما كنا نعبر في طريق عودتنا إلى بيوتنا، (سوق الصاغة) لفتت نظري ملصقة على أحد الجدران «الشرطة في خدمة الشعب»، ولا أدري لماذا، ذكرت لتوي أني ربما كنت متأثراً بالفيلم، أو ربما، لولعي حينها بالرسم!؟ أو قل بسبب طيش فتى لا يزيد عمره عن 16 عاماً، قمت ورسمت في الفراغ بين حرفي «ر» و»ط» حرفين موصولين «مو».

فصارت «الشرموطة»!؟ بعدها تفرقنا كل منا باتجاه بيته، ما عدانا أنا ومصطفى وعدنان، الذين تقع بيوتنا في ذات الاتجاه، ولكن ما أن وصلنا إلى ساحة أوغاريت، حتى وقفت أمامنا سيارة جيب وهبط منها عدد من عناصر أمن، كانوا على يبدو يتبعوننا، كبلونا وأدخلونا السيارة ومضوا بنا إلى «فرع الأمن السياسي» الذي على مسافة أمتار من بيتي. هناك ما كان لي سوى أن اعترف بأني أنا الفاعل، وبأن لا علاقة لأيّ من أصدقائي بما حدث، وأنا أتحمل كامل المسؤولية، ولا ذكر أني فعلت هذا بأيّ دافع بطولي، بل ربما العكس تماماً.
ومن الوقائع القليلة التي أذكرها، أن أحدهم سألني، ما إذا كان أبي، الذي شغل منصب رئيس أمن عام منتصف خمسينات القرن العشرين، هو من يقول أمامي أشياء كهذه!؟ وأذكر أيضاً أنهم ضربوني فلقاً غير مبرح كثيراً، وأنا منبطح على أرض الغرفة، كما أذكر أنهم تبادلوا الضحكات عندما طلبوا من مصطفى أن ينبطح بدوره، فقام وانبطح على الكنبة!؟. لم يستغرق الأمر أكثر من ساعتين أو ثلاث، بعدها حلقوا لنا شعر رؤوسنا على الصفر، وأطلقونا. وفي صباح اليوم التالي لم يحضر مصطفى وعدنان إلى المدرسة، بينما أنا.. ذهبت!؟ حيث رأسي الحليق كان سبب تحقيق آخر في غرفة الإدارة، لم تنتج عنه أيّ عقوبة.. فالعقوبة التي نلتها عن استحقاق، كما قال المدير، كافية لتعلمني الدرس الأخلاقي والوطني المطلوب.. وبالفعل!؟

وقعت حرب حزيران 1967، خلال تقديمي لامتحانات «البكالوريا»، في إحدى قاعات «جول جمال»، التي بلغ كرهي لها تلك الأيام، مختلطاً بكرهي من الامتحانات، للحد الذي تمنيت أن تقصفها، قصداً أو بالخطأ، إحدى الطائرات التي كانت تحوم فوق اللاذقية. لكن ذلك لم يقع، وعدنا للفحوص بعد توقفها، وكان أن نجحت بعلامات كانت تؤهلني للدراسة في العديد من الكليات الأدبية والفنية، لكني آثرت، نتيجة ميولي اليسارية وقتها، كلية جديدة افتتحت تلك الآونة، وهي كلية العلوم الاقتصادية في جامعة حلب.. القرار الذي أعده من أسوأ القرارات التي اتخذتها في حياتي.

كما تغيرت أماكن كثيرة في اللاذقية، تغيرت أكثر القيم والمفاهيم، حتى صار أمثالي يشعرون بأنهم يحيون في مدينة أخرى بالكاد يعرفونها.. فإذا ذكرت مستنكراً أمام بعض الناس، أنه لا يليق أن تتحول مدرسة «جول جمال» بكل ما ترمز إليه من معان علمية وثقافية وسياسية في تاريخ المدينة، إلى ثكنة عسكرية، كما باتت منذ خمس سنوات، يجيبونني دون أدنى تأثر «ليست مشكلة.. بعد انتهاء الأحداث تعود..!؟». وبالمقابل، هناك من أصدقاء تلك الأيام، من راح يوقفني ويقول لي «وكأنك كنت تعرف أن هذا ما سوف تصل إليه الأمور، منذ أن كتبت تلك الكلمة على الجدار»..

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.