طفولة قلقة

الخميس 2016/09/01
لوحة: فادي يازجي

أستيقظ الطفل مذعورًا على هتافات ترجّ جدران غرفته البسيطة. هرع إلى النافذة. تلقّى دفقات من الظلمة المقلقة ترافقها نسمات ناعمة نادرة في شهر يونيو. رأى أشباح الآلاف من الرجال تحمل صور عبدالناصر وتصيح «لا… لا… هانحارب… هانحارب». ركض نحو غرفة والده، فسمع أباه يتحدث إلى أشقائه الثلاثة الكبار بأسى قائلا «قضي الأمر… واعترف الرجل بالهزيمة كما سمعتم قبل قليل…

كنت أدرك أن الأميركان لن يتركوه ولن يتركونا نبني ونعمّر»، ثم أضاف بحكمته المعهودة، لكن بنبرة تقطر أسى وحزنا «لا تيأسوا… أنتم شباب والمستقبل أمامكم… الحياة هكذا… هزائم وانتصارات، والمعركة مازالت طويلة»، لم يعلق أيّ منهم بشيء، لكنهم استأذنوا والدهم بالمشاركة في المظاهرات فأذن لهم، بعد أن أمرهم «لا تتأخروا عن الساعة الواحدة ليلا».

لم يفهم الطفل شيئا، فهو بالكاد أكمل عامه السادس قبل 50 يومًا فقط، لكنه شعر أن مصيبة سقطت في قلب البيت الهادئ المسالم، فزلزلت أركانه، ولمس عناكب الهموم تزحف في أرجاء المنزل، كما لاحظ أن الشحوب طال وجه والدته فاختفت ابتسامتها التي تشع النور في أرجاء البيت البسيط بحي شبرا الخيمة شمالي القاهرة.

ولما حاول أن يستفسر من شقيقته الكبرى وجدها منخرطة في بكاء مكتوم، لكنها ربتت ظهره بحنان وهمست «لقد هزمتنا إسرائيل وقتلت جنودنا».

دارت الأيام بسرعة مغلفة بغشاء من الحزن والهم والإصرار، واخترقت مسامع الطفل مفردات غريبة لم يسمع بها من قبل مثل «حرب الاستنزاف/حائط الصواريخ/مبادرة روجرز/جولدا مائير/موشي ديان/نيكسون»، إذ كان النقاش لا يتوقف في البيت العجيب عن هموم السياسة ومستقبل الوطن، وفجأة دون سابق إنذار مات عبدالناصر، فشاهد الطفل دموع أبيه للمرة الأولى، كما أنصت إلى الهتافات التي أطلقتها الملايين حزنا على الزعيم، فمضى مع أقرانه في الحي يقلدون الكبار ويصنعون جنازة رمزية للزعيم البطل، وشرعوا يرددون الهتافات الملتاعة نفسها «ابكي ابكي يا عروبة ع اللي بناكي طوبة طوبة»، «عبد الناصر يا حبيب بكرة ندخل تل أبيب»، و»أنور أنور يا سادات/ليه بتقول ناصر مات»، «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين».

كبر الطفل قليلا وطال جسده النحيف بعض السنتيمترات، واستدعيَ أشقاؤه الثلاثة للالتحاق بالخدمة العسكرية تباعًا، فانضمت إلى قاموسه مفردات جديدة قادمة من ميادين الحرب والصحراء والتقاليد العسكرية، وسأل أشقاءه عن معنى كلمات «مخلة/بيادة/حرب كيماوية/رادار/سلاح الإشارة/سلاح المشاة»، حتى جاء يوم السبت السادس من أكتوبر عام 1973 الذي وافق العاشر من رمضان، ويا له من يوم.

انطلق مدفع الإفطار في الخامسة والربع تقريبًا، لكن لم يستطع الأب والأم والشقيقة الكبرى تناول أيّ شيء ولا حتى كسرة خبز، فالحرب اندلعت قبل ثلاث ساعات فقط، والأبناء الثلاثة هناك يقاتلون على الجبهة، يستردون الكرامة ويحررون الوطن، والوالد الحكيم يطارد الأخبار في محطات الإذاعة، فينتقل من البرنامج العام إلى إذاعة لندن، ومن صوت العرب إلى مونت كارلو، دون أن يضع في جوفه سوى الشاي والدخان، أما الطفل الذي أكمل عامه الثاني عشر في مارس الماضي فقد استنشق روائح التوتر التي عبقت في المنزل، فلما انتصف الليل وتيقّن الوالد من الانتصار طفرت الدموع الساخنة من عينيه مختلطة برماد قلق مقيم، وصاح مخاطبا زوجته أمام الطفل وشقيقته «أبناؤنا أبطال… انتصروا على إسرائيل يا ست هانم»، لكن فرحته المشوبة بالتوتر لم تدم طويلا، إذ سقط في اليوم التالي مباشرة في صالة البيت، من جراء غزو مرض مفاجئ وصفه الطبيب المعالج هكذا «جلطة في القلب»!

ملحوظة عابرة:

هذا الأب هو والدي المرحوم عبدالفتاح عراق، أما الصبي فهو أنا، اما الشقيقة الكبرى فهي الراحلة الدكتورة ماجدة، الأشقاء الثلاثة فهم بالترتيب إبراهيم وفكري وفوزي. وقد غاب عن دنيانا إبراهيم وفوزي.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.