فرنسا نحو حرب أهلية أم حرب تطهير

الخميس 2016/09/01
لوحة: كاظم خليل

كان ذلك قبل عمليتي نيس وسانتيتيان دو روفري، اللتين ألهبتا المحطات التلفزيونية والمواقع الاجتماعية، وفتحتا الباب أمام اعتداءات لا تزال محدودة، كوضع رأس خنزير أمام جامع بيتون بمقاطعة با -دو كاليه، ولكنها تنبئ بشرّ عميم تلخصه عبارة “Dehors, ou la mort” (الرحيل أو الموت) التي طليت بها جدران جامع ليون.

ولم يتخلف السياسيون والمثقفون في معظمهم عن توتير الأجواء، وخلق مناخ يوحي بأن الحرب الأهلية وشيكة لا مفرّ منها. فزعماء حزبي اليمين واليمين المتطرف لا يتورعون عن تخويف الفرنسيين من المستقبل المظلم الذي ينتظرهم عبر تصريحات ذات خلفية انتخابية، لا سيما أن البلاد تستعد لانتخابات رئاسية العامَ المقبل.هذه مثلا ماريون مارشال لوبان حفيدة جان ماري لوبان، مؤسس الجبهة الوطنية حزب اليمين المتطرف وزعيمه الأسبق، تعلن على الهواء انضمامها إلى جيش الاحتياط، للدفاع عن فرنسا ضد الإسلاميين، وتعلن بصريح العبارة “هم يغتالون أطفالنا، ويقتلون رجال أمننا، ويذبحون رهباننا. أفيقوا!”.

ومثقفو هذين الحزبين يسيرون على النهج نفسه، إما من خلال تحاليل تكشف عن قصر نظر ومؤلفات تنبئ عن عنصرية مرضية ككتاب “فرنسا الجهادية” لألكسندر منديل، أو كتاب “الحرب الأهلية التي تأتي” لإيفان ريوفول، أو عبر أعمال استباقية ديستوبية.

فبعد رواية "خضوع" لميشيل هويلبيك، التي تخيل فيها وصول عربي إلى سدّة الحكم في فرنسا وتطبيقه الشريعة الإسلامية، صدرت مؤخرا رواية جديدة لجان رولان بعنوان “الأحداث” يصور فيها فرنسا إبّان حرب أهلية، تتنازع السلطةَ فيها بقوة السلاح ميليشياتٌ إسلامية ويمينية متطرفة ويسارية راديكالية، مع نقاط تفتيش في كل رقعة من البلاد، ورايات سوداء للقاعدة في إقليم “بوش دي رون” ترفرف في ضواحي مرسيليا الشمالية، وقوات أممية مكوّنة من ضباط غانيين وفنلنديين للفصل بين المتنازعين ومحاولة حفظ السلام.

فهل يمكن أن يدفع هذا التصاعد المستمر للعنف الناسَ إلى حمل السلاح؟ وهل ينجح تنظيم داعش في إشعال الفتنة داخل فرنسا بعد أن نجح في خلق مناخ خوف ورعب؟

في آخر استطلاع رأي أجرته وكالة إيبسوس يظهر أن الفرنسيين في معظمهم “لايحسّون أنهم يعيشون في بلادهم كما قبل”، وهو رقم يبلغ نسبة 98 بالمئة لدى أنصار حزب الجبهة الوطنية المتطرف و73 بالمئة لدى أنصار حزب الجمهوريين اليميني، بسبب موجات الهجرة المتعاقبة التي تهدد في رأيهم الثقافة الوطنية. بما يعني أن نظرية “التعويض الأكبر” التي روّج لها مفكر اليمين المتطرف رينو كامو بدأت تجد صداها لدى شرائح عريضة من المجتمع الفرنسي. وصار راديكاليو هذا التيار يرفعون شعار “هم أو نحن”.

بل إن عددا متزايدا من الفرنسيين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية وقناعاتهم الأيديولوجية، ما عادوا يفرقون بين الإسلام والأصولية الإسلامية، أو يرتابون من الجهاد وحده بل من الإسلام أيضا، حسب معطيات إيبسوس.

هذا الخلط تغذيه صورة الإسلام في فرنسا، لكونه لم يفلح في التماهي مع أسس الجمهورية وقيمها، بل إن ثلاثة أرباع الفرنسيين، حسب الإحصاء سالف الذكر، يعتقدون أن الإسلام يعمل على فرض نمطه على الآخرين. أي أن عددا متزايدا من الفرنسيين صاروا يساوون بين الإسلام والإرهاب، وأنه بات من الممكن اعتبار الاعتداء على أحد المساجد مثلا عملا مشروعا، كانتقام لإحدى عمليات داعش. ومن الطبيعي أن هذه الصورة المتصدعة للمجتمع الفرنسي هي التي يحاول التطرف الإسلاموي استغلالها.

فهل ستشهد فرنسا فعلا حربا أهلية، والحال أنها استطاعت أن تُخمد جِمار الفتن جميعا؟

بعد فرض فصل الدين عن الدولة في مطلع القرن الماضي، وفض الجدل حول طبيعة النظام عام 1958 بسنّ دستور شبه ملكي للجمهورية الخامسة، ساد الظن أن الحرب الوحيدة الممكنة هي الحرب الاجتماعية التي تمثل عنصرا أساسا في الميثولوجيا الفرنسية، وكانت قد بلغت ذروتها بمجازر الكميون عام 1871.

حتى عودة اليسار المتطرف إلى استعمال العنف، وانتفاضات شباب الضواحي بين الفينة والأخرى لم تحوّل الصدام ضد قوى الأمن إلى ما يمكن تسميته بحرب أهلية. غير أن المواجهات الحالية والمقبلة، كما يحذر غُلاة اليمين، لن تضع وجها لوجه الطبقة الوسطى المنسية ضدّ الأثرياء أوروبيي الهوى، ولا اليسار ضدّ اليمين، أو المناطق الداخلية ضد باريس، بل “الأيديولوجيا الإسلامية الغازية، ضدّ الديمقراطيات الغربية المنهكة، بغرض أسلمة البلدان الكافرة والملحدة، ومحو الإهانة التي سُلّطت على المسلمين، منذ الاستعمار إلى التدخلات العسكرية الراهنة”، كما جاء في كتاب ريوفول، مستعينة بجيش الظلّ كما يقول، و”سلبية الأحياء، وقصر نظر السلطة، وتواطؤ العملاء”.
إلا أن بعض المؤرخين، مثل اليهودي إيلي برنافي، صاحب أطروحة عن الرابطة الكاثوليكية خلال الحروب الدينية التي دامت ثلاثين سنة (1562-1598)، يفنّد ذلك، لأن من شروط قيام حرب أهلية في رأيه وجود معسكريْن منّظمين ومسلّحين: كاثوليك ضدّ بروتستانت، شماليون ضدّ جنوبيين، جمهوريون ضد فرانكيين. وفي اعتقاده أن الشيء الوحيد الذي قد ينجم عن هذا الوضع هو خلق نظام أبارتايد، تُعزل فيه الأقليات داخل غيتو، أو أحياء حساسة حسب التعبير الفرنسي الشائع، شبيهة بالأحياء الممنوعة على السلط (no-go-zones) في الولايات المتحدة.
أما عالم الاجتماع جان بيير لوغوف فيعتقد أن أنماطا جديدة من الصراع قد تتولد عن الوضع الحالي، وقد تتخذ أشكال حرب استنزاف، وأن البلاد ليست في وضع انهيار أو انحطاط كما يوهِم البعض، وإنما هي تمرّ بمرحلة دقيقة من تاريخها.

أما بخصوص حاضن التطرف في الجهة المقابلة أي داعش، فيعتقد المحللون أن هذا التنظيم الإرهابي يتراجع عسكريا في سوريا والعراق، ما يجعل إقامة دولة مستقلة أمرا مستبعدا، ولذلك فهو يمر الآن إلى الطور الثاني من معركته، طور ينبني على عمليات إرهابية ينفذها أتباعه في أوروبا لخلق موجة عنف لا تمكن السيطرة عليها.

والغاية كما أسلفنا هي دفع المجتمعات الأوروبية إلى معاملة جالياتها المسلمة بالمثل، وهو ما حذّر منه جيل كيبل مثلا حينما ذكّر بأن الدعوة إلى الجهاد الشامل سبقت داعش، فقد صدرت عن أبي مصعب السوري منذ عام 2004، وتمنى خلالها أن يردّ الشعب الفرنسي على عمليات الإرهاب التي ينوي الجهاديون القيام بها، ويعلن الحرب على المسلمين، فيهبّ الإسلاميون الراديكاليون حيثما وجدوا للقيام بانتفاضات متواترة.
ويرى كيبل أن ردّ الفعل هو ما يريده الجهاديون كي يقطعوا نهائيا “المؤمنين” عن المجموعة الوطنية، ويشعلوا حربا أهلية يعتقدون أنهم سيخرجون منها ظافرين.

بقي أن نقول إن العلميات الإرهابية التي يقترفها بعض شباب الجاليات المسلمة وتتبناها داعش، ستؤدي حتما إلى أعمال انتقامية قد تصيب الجماعات السلفية وبعض المتشددين الشبان، ولكنها قد تتعداها إلى أبرياء لا علاقة لهم بالإسلاميين، وبالتالي فعبارة “حرب أهلية” ليست صائبة، لأن ما قد يحدث لن يكون سوى تطهير عرقي لترهيب العرب والمسلمين وطردهم من كافة أنحاء أوروبا.

ويخطئ من يظن أن الديمقراطيات الغربية سوف تحول ضدّ اقتراف المجازر، ولنا في البوسنة والهرسك عبرة. ألم يصرح فرانيو توجمان رئيس كرواتيا الأسبق بأن زعماء الغرب كانوا وقتها يُظهرون ما لا يبطنون، فقد اعترف بأنهم يدينون في العلن حرب الإبادة التي كانت تُشَنّ على المسلمين، وفي لقاءات خاصة معه، يؤكدون له بأنهم لا يمكن أن يسمحوا بقيام دولة مسلمة في قلب أوروبا. فالمسألة قد تأخذ وجهة أخرى إذا ما اتسمت بطابع ديني.

ومن ثَمّ كانت أكثر دعوات التهدئة ونزع فتيل العنف تعقّلا صادرة عن رجال الدين، أولا من الكاردينال أندريه فان – تروا الذي قال في تأبينه للراهب الذبيح فرانسوا هاميل “لا نبني وحدة الإنسانية بطرد أكباش الفداء. ولا نساهم في انسجام المجتمع وحيوية الرابط الاجتماعي بخلق عالم افتراضي من الجدل والعنف اللفظي.

هذا العنف الافتراضي، ينتهي دائما، بلا وعي ولكن بصورة فعلية، إلى كراهية حقيقية، ويشيع التدمير كوسيلة تطور. إن معركة الكلمات غالبا ما تؤدي إلى اعتبار العدوان كنمط علاقة أمرا عاديا، ومجتمع الثقة لا يمكن أن يتقدم إلا بحوار تُسمع فيه الخلافات وتُحترم”.
ثانيا، من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الممثل الرسمي للجاليات المسلمة، الذي دعا المسلمين في كافة فرنسا إلى حضور قدّاس الأحد حيثما كانوا تضامنا مع المسيحيين وتعبيرا عن إدانتهم للجريمة النكراء، وكان قبلها قد أنشأ هيئة للتصدي للدعاية الجهادية.

في جوّ مشحون بالخوف والتوتر، وخطاب عنصري ومعاد للإسلام لا يني يستفحل منذ أن طلع علينا نيكولا ساركوزي بفكرة “اليمين الخالي من العقد” لتسويغ مثل هذا الخطاب، لا تدري الجاليات المسلمة ما تخبّئه لها الأيام القادمة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.