الأصولية‭ ‬المعكوسة‭ ‬عند‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم

السبت 2016/10/01
لوحة: إسماعيل قلين

يبدو‭ ‬فكر‭ ‬المجتمعات‭ ‬المأزومة‭ ‬مرتبط‭ ‬دائما‭ ‬بحالة‭ ‬الأزمة،‭ ‬وهو‭ ‬بهذا‭ ‬الاعتبار‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬قراءة‭ ‬لها‭ ‬قصد‭ ‬فهمها‭ ‬ومعالجتها‭ ‬وتجاوزها‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يضفي‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬الطابع‭ ‬المحلي‭ ‬والتاريخي‭ ‬والعملي،‭ ‬لأنه‭ ‬ببحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬ومخارج‭ ‬لمجتمعاته،‭ ‬ولا‭ ‬يدّعي‭ ‬التنظير‭ ‬والتشريع‭ ‬للإنسانية‭ ‬جمعاء‭. ‬فهو‭ ‬ببساطة‭ ‬فكر‭ ‬مجتمعات‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الركب‭ ‬الحضاري‭ ‬حتى‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬وهم‭ ‬المطلق‭ ‬والكونية،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬شأن‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬انعكاس‭ ‬تفوّق‭ ‬مجتمعاته‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الأصعدة‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بأن‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬يقع‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬فريسة‭ ‬وهم‭ ‬المطلق،‭ ‬وإنما‭ ‬يحدث‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬ليس‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬قوته‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬إن‭ ‬جاز‭ ‬التعبير،‭ ‬وإنما‭ ‬بفعل‭ ‬قوة‭ ‬سابقة‭ ‬أثبتت‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬وذلك‭ ‬شأن‭ ‬المطلق‭ ‬المؤسس‭ ‬على‭ ‬الدين،‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يذهب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الإرهاب،‭ ‬لأن‭ ‬فكرة‭ ‬المطلق‭ ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬أهم‭ ‬مصادر‭ ‬العنف‭ ‬بمختلف‭ ‬أشكاله،‭ ‬أو‭ ‬بفعل‭ ‬مطلق‭ ‬مستعار‭ ‬من‭ ‬الآخر،‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬ذلك‭ ‬عند‭ ‬المفكر‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم،‭ ‬حسب‭ ‬قراءتنا‭ ‬للحوار‭.‬

إن‭ ‬محدودية‭ ‬وهم‭ ‬المطلق‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلينا،‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬نجده‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة‭ ‬عند‭ ‬الإسلاميين،‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬ضعف‭ ‬قدرته،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غيابها،‭ ‬على‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬فكلّ‭ ‬مطلق،‭ ‬أيّا‭ ‬كان‭ ‬نوعه،‭ ‬إنما‭ ‬يتسم‭ ‬بالانغلاق‭ ‬لأنّه‭ ‬مكتف‭ ‬بذاته‭ ‬وفي‭ ‬غنى‭ ‬عمّا‭ ‬هو‭ ‬موجود‭ ‬خارجه‭ ‬اللهم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إخضاعه‭ ‬أو‭ ‬الهيمنة‭ ‬عليه،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬قوة‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬أو‭ ‬لرفضه‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭.‬

ولأن‭ ‬المطلق‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬فإن‭ ‬مضاره‭ ‬الأخرى‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬قابليته‭ ‬على‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬خبرة‭ ‬هذا‭ ‬الآخر‭ ‬وفي‭ ‬النظر‭ ‬إليه‭ ‬كشر‭ ‬مطلق‭. ‬أما‭ ‬المطلق‭ ‬المستعار‭ ‬من‭ ‬الآخر،‭ ‬فبالنظر‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬كذلك‭ ‬مطلق،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬وظيفيا‭ ‬عن‭ ‬المطلق‭ ‬المستعار‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬الديني،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬فقط‭ ‬يشتغل‭ ‬بطريقة‭ ‬عكسية‭ ‬أو‭ ‬مناقضة،‭ ‬فهو‭ ‬أيضا‭ ‬لا‭ ‬يتسم‭ ‬بالانفتاح‭ ‬وإنما‭ ‬الانغلاق‭ ‬هذا‭ ‬يسري‭ ‬لديه‭ ‬تجاه‭ ‬‮«‬الذات‮»‬‭ ‬وليس‭ ‬على‭ ‬‮«‬الآخر‮»‬‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬فالغرب‭ ‬عنده‭ ‬مطلق،‭ ‬كل‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭. ‬يقول‭ ‬الدكتور‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن‭ ‬‮«‬المجتمعات‭ ‬‭(‬العربية‭)‬‭ ‬تعتمد‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬اليومية‭ ‬والاستهلاكية‭ ‬اليومية‭ ‬تقريبا‭ ‬وكلية‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ينتجه‭ ‬الآخر‭ ‬وهنا‭ ‬أقصد‭ ‬الغرب،‭ ‬وترفض‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬الإنتاج‭ ‬المادي‭.‬

فهذه‭ ‬المفارقة‭ ‬تجعلني‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬الحلول‭ ‬الوسطية‭ ‬والتريث‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬وترجمة‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬واعتماده‭ ‬لبناء‭ ‬فكر‭ ‬عربي‭ ‬معاصر‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الاستيراد‭ ‬والتبعية‭ ‬المادية‭ ‬والاستهلاكية‭ ‬لهذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬نفسها‮»‬‭. ‬إذن‭ ‬يتعين‭ ‬على‭ ‬العرب،‭ ‬حسب‭ ‬جلال‭ ‬العظم،‭ ‬تعميق‭ ‬تبعيتهم‭ ‬إلى‭ ‬الغرب،‭ ‬من‭ ‬مادية‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬فكرية‭ ‬أيضا،‭ ‬وعليه‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬بأنه‭ ‬يتعين‭ ‬‮«‬على‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يتجرأ‭ ‬أكثر‭ ‬لنقل‭ ‬وترجمة‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬دون‭ ‬تريث‭ ‬وتحفظ‭ ‬لأن‭ ‬الفكر‭ ‬هو‭ ‬الضامن‭ ‬الوحيد‭ ‬للاستقلالية‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬المادي‭ ‬لهذه‭ ‬المجتمعات‮»‬‭.‬
لن‭ ‬يذهب‭ ‬بنا‭ ‬الأمر،‭ ‬ولا‭ ‬ريب،‭ ‬إلى‭ ‬التشكيك‭ ‬في‭ ‬أهميّة‭ ‬الترجمة،‭ ‬فكل‭ ‬نهضة‭ ‬تلعب‭ ‬فيها‭ ‬هذه‭ ‬الفعالية‭ ‬الحضارية‭ ‬دورا‭ ‬محوريا،‭ ‬كما‭ ‬تدلّنا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬تجربة‭ ‬الحضارة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬المأمون،‭ ‬أو‭ ‬النهضة‭ ‬الأوروبية،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬حصر‭ ‬الترجمة‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬وحده،‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتسع‭ ‬لتشمل‭ ‬العالم‭ ‬بأسره،‭ ‬إذ‭ ‬يتعيّن‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أعتقد‭ ‬ألاّ‭ ‬نرى‭ ‬العالم‭ ‬محصورا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬المعمورة‭ ‬رغم‭ ‬أهميته‭ ‬الكبيرة،‭ ‬وأن‭ ‬نخرج‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬ثنائية‭ ‬شرق‭/‬غرب،‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬قوى‭ ‬عالمية‭ ‬جديدة‭ ‬بدأت‭ ‬تبرز‭ ‬خارج‭ ‬نطاق‭ ‬هذا‭ ‬الحيز‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬فكرة‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أخذناها‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬تثير‭ ‬لدينا،‭ ‬فيما‭ ‬يعنينا،‭ ‬بعض‭ ‬التحفظات،‭ ‬في‭ ‬مقدمتها‭ ‬تقديم‭ ‬الغرب،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬ضمنيا،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬واحد،‭ ‬وذو‭ ‬جوهر‭ ‬محدّد،‭ ‬لا‭ ‬يتطلّب‭ ‬منّا‭ ‬غير‭ ‬نقله‭ ‬وتطبيقه‭ ‬لنخرج‭ ‬من‭ ‬تخلّفنا‭ ‬التاريخي،‭ ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬الغرب‭ ‬متعدّد‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬فهو‭ ‬استعماري،‭ ‬إمبريالي،‭ ‬زارع‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬شعب‭ ‬آخر،‭ ‬وفي‭ ‬آن‭ ‬واحد‭ ‬منبع‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬ومنجم‭ ‬ضخم‭ ‬للمعرفة‭ ‬والصناعة‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬وهلم‭ ‬جرا‭. ‬وهو‭ ‬المنتج‭ ‬الأكبر‭ ‬للتكنولوجيا‭ ‬وفي‭ ‬آن‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬ألقى‭ ‬القنبلة‭ ‬النووية‭ ‬على‭ ‬هيروشيما‭ ‬وناكزاكي‭ ‬وأباد‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الهنود‭ ‬الحمر،‭ ‬وهو‭ ‬مؤسس‭ ‬للنظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬وحريص‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬مجتمعاته‭ ‬وفي‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬داعم،‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الخارجي،‭ ‬للأنظمة‭ ‬الاستبدادية‭ ‬ومدبّر‭ ‬للانقلابات‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬أنظمة‭ ‬سياسية‭ ‬شرعية‭ ‬منتخبة‭ ‬ديمقراطيا‭. ‬وهو‭ ‬عقلاني‭ ‬ولكن‭ ‬فيه‭ ‬أيضا‭ ‬نزعات‭ ‬غير‭ ‬عقلانية‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬الرومنطيقية‭ ‬والنتشوية‭ ‬والفرويدية‭ ‬القائلة‭ ‬بأهمية‭ ‬الدوافع‭ ‬اللاشعورية،‭ ‬غير‭ ‬خاضعة‭ ‬للوعي‭ ‬وللعقل،‭ ‬المؤثرة‭ ‬شديد‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬وسلوكه‭. ‬وهو‭ ‬أيضا‭ ‬صيرورة،‭ ‬لا‭ ‬تستقرّ‭ ‬على‭ ‬حال،‭ ‬فبالأمس‭ ‬كان‭ ‬يشهد‭ ‬ألاّ‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬الحداثة‭ ‬واليوم‭ ‬يرفع‭ ‬شعار‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬وهكذا‭.. ‬وعليه‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬المرء‭ ‬أن‭ ‬يتساءل‭ ‬عن‭ ‬أيّ‭ ‬غرب‭ ‬يتحدث‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم؟‭ ‬وعن‭ ‬أيّ‭ ‬فكر‭ ‬غربي‭ ‬يعني‭ ‬أيضا،‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬فصله‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الغرب‭ ‬بالغ‭ ‬التعقيد‭ ‬والتناقض؟

‮ ‬ينتقد‭ ‬المفكّر‭ ‬السوري‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬‮«‬الاستشراق‭ ‬المعكوس‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬عندما‭ ‬‮«‬يحاول‭ ‬‭(‬الشرقي‭)‬‭ ‬صنع‭ ‬صورة‭ ‬حول‭ ‬الغرب‭ ‬ويشوهها‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬تقديم‭ ‬الغرب‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬واحد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬نفس‭ ‬النتيجة،‭ ‬عدا‭ ‬ربما‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تتمثل‭ ‬‮«‬‭ ‬في‭ ‬أزمات‭ ‬وصراعات‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬التقارب‭ ‬والتحاور‭ ‬مع‭ ‬الغرب‮»‬،‭ ‬وإنما‭ ‬مع‭ ‬الذات،‭ ‬كما‭ ‬سيتضح‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬المقال‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬دراسة‭ ‬التجربة‭ ‬الغربية‭ ‬وفهما‭ ‬واستخراج‭ ‬المبادئ‭ ‬والأسس‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬النقل‭ ‬والاستهلاك‭ ‬لمنتجاتها‭ ‬المادية‭ ‬منها‭ ‬وحتى‭ ‬الفكرية‭.

الغرب، وإن كان لا يجب بالتأكيد إهماله كتجربة تستحق الدرس والاستفادة منه، إلا أنه من الخطأ تحويله إلى مرجعية مطلقة ووحيدة. هناك تجارب أخرى يخلق بنا تدبرها للتأكد من بعض المسلمات

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬استنساخ‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬التخلف‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬يرزح‭ ‬عليه‭ ‬ليس‭ ‬غير‭ ‬شكل‭ ‬معكوس‭ ‬للسلفية‭ ‬والأصولية‭ ‬اللاشعورية‭ ‬التي‭ ‬نجدها‭ ‬لدى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬سلبية،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا،‭ ‬عن‭ ‬السلفية‭ ‬والأصولية‭ ‬الدينية،‭ ‬فبدل‭ ‬القول‭ ‬‮«‬قال‭ ‬الله‭.. ‬قال‭ ‬الرسول‮»‬‭ ‬نقول‭ ‬هنا‭ ‬‮«‬قال‭ ‬ماركس‭.. ‬قال‭ ‬هايدغر‭.. ‬قال‭ ‬كانط‭.. ‬قال‭ ‬الغرب‮»‬‭ ‬دون‭ ‬تمحيص،‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬الشك‭ ‬المنهجي‮»‬‭ ‬الخلاق‭ ‬الذي‭ ‬دعانا‭ ‬إليه‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬ذاته،‭ ‬إذ‭ ‬يحتل‭ ‬المصدر‭ ‬هنا‭ ‬مكانة‭ ‬الحجة،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬المنهج‭ ‬الفكري‭ ‬للسلفية‭ ‬والأصولية‭ ‬الدينية‭. ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬يتحول‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬مقدس‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬مدنس‭. ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الموقف‭ ‬المبدئي‭ ‬والمنهجي‭ ‬الذي‭ ‬يحتكم‭ ‬إليه‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬ذاته‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬تعامله‭ ‬مع‭ ‬نفسه‭. ‬لكن‭ ‬المثقف‭ ‬الشرقي‭ ‬المشبع‭ ‬شعوريا‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬شعوريا‭ ‬بثقافة‭ ‬المقدس‭ ‬والمدنس،‭ ‬إما‭ ‬أنه‭ ‬يشيطن‭ ‬الغرب‭ ‬أو‭ ‬يقدسه‭.‬
إن‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬اعتماد‭ ‬‭(‬الفكر‭ ‬الغربي‭)‬‭ ‬لبناء‭ ‬فكر‭ ‬عربي‭ ‬معاصر‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬يبين،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬أن‭ ‬طرح‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬فكر‭ ‬الآخر‭ ‬بهذه‭ ‬الصيغة‭ ‬الميكانيكية‭ ‬لن‭ ‬يؤدي‭ ‬سوى‭ ‬إلى‭ ‬فكر‭ ‬خال‭ ‬من‭ ‬الإبداع،‭ ‬استئصالي‭ ‬ومنتج‭ ‬للإقصاء‭ ‬ومنه‭ ‬للتطرف‭ ‬والعنف،‭ ‬بأن‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يتجاهل‭ ‬ضرورة‭ ‬أخذ‭ ‬مبدأ‭ ‬الهوية‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مشروع‭ ‬بناء‭ ‬حضاري‮»‬،‭ ‬الشرط‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬هشام‭ ‬جعيط،‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬حسب‭ ‬رأينا،‭ ‬بأن‭ ‬إهماله‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬أسباب‭ ‬إخفاق‭ ‬‮«‬الفكر‭ ‬التقدمي‮»‬‭ ‬وكذا‭ ‬التجارب‭ ‬التنموية‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬

إن‭ ‬أحد‭ ‬أسباب‭ ‬نجاح‭ ‬التجربة‭ ‬الغربية‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬نابعة‭ ‬أساسا‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬ماكس‭ ‬فيبر‭ ‬كان‭ ‬يؤكد‭ ‬بأن‭ ‬الرأسمالية،‭ ‬السمة‭ ‬المركزية‭ ‬في‭ ‬الحداثة‭ ‬الغربية،‭ ‬هي‭ ‬نتاج‭ ‬العقيدة‭ ‬الدينية‭ ‬الكلفانية‭. ‬وعليه‭ ‬فإن‭ ‬نقل‭ ‬التجربة الغربية‭ ‬المعقدة‭ ‬وغير‭ ‬المدروسة‭ ‬بعد‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬دراسة‭ ‬كافية،‭ ‬بحذافيرها‭ ‬وفي‭ ‬مجملها‭ ‬إلى‭ ‬تربة‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬تربتها‭ ‬الأصلية،‭ ‬كالتربة‭ ‬العربية‭-‬الإسلامية‭ ‬مثلا،‭ ‬لن‭ ‬يؤدي،‭ ‬حسب‭ ‬رأينا،‭ ‬سوى‭ ‬إلى‭ ‬العنف‭ ‬والاستبداد،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬نموذج‭ ‬يختلف‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬نموذج‭ ‬المجتمع‭ ‬الديمقراطي،‭ ‬المؤسس‭ ‬على‭ ‬احترام‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان،‭ ‬القائم‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬عموما‭.‬

إن‭ ‬إدخال‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تعني،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا،‭ ‬تغريبها‭ ‬‭(‬occidentalisation‭)‬‭. ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬سبيل‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة‭ ‬لا‭ ‬يضحّي‭ ‬بالذات‭ ‬وإنما‭ ‬يستلهمها‭ ‬ويستثمرها‭ ‬ويطورها‭ ‬ويثريها‭ ‬بمكتسبات‭ ‬العصر،‭ ‬كالديمقراطية‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬والعلم‭ ‬واحترام‭ ‬الرأي‭ ‬المخالف،‭ ‬فلا‭ ‬توجد‭ ‬تجارب‭ ‬تحديثية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬ناجحة‭ ‬قامت‭ ‬على‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬الاستيراد‮»‬،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬يرى‭ ‬الدكتور‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭. ‬إنه‭ ‬لمن‭ ‬الأهمية‭ ‬بمكان‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬المنهجية،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا،‭ ‬أن‭ ‬نؤسس‭ ‬أفكارنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬رغباتنا،‭ ‬وإنّما‭ ‬على‭ ‬مرجعية‭ ‬تجارب‭ ‬الواقع‭ ‬التاريخي‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المنهجية‭ ‬بالذات‭ ‬للتدليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬هو‭ ‬الحل،‭ ‬حين‭ ‬يوضح‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬هو‭ ‬‮«‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬الإنتاج‭ ‬المادي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تعيش‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬استهلاكه،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬بالذات‭. ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬وضعنا‭ ‬التجربة‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬التاريخي‭ ‬العام‭ ‬يصعب‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬الغرب‭ ‬كتجربة‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬هو‭ ‬مجرد‭ ‬نتاج‭ ‬أفكاره‭. ‬عندما‭ ‬نبحث‭ ‬في‭ ‬جذور‭ ‬حراكه‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬قاده‭ ‬إلى‭ ‬السيادة‭ ‬والهيمنة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ألاّ‭ ‬نأخذ،‭ ‬مثلا،‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬دور‭ ‬اكتشاف‭ ‬القارة‭ ‬الأميركية‭ ‬وما‭ ‬صاحب‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬نهب‭ ‬للخيرات،‭ ‬ولا‭ ‬الظاهرة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬ولا‭ ‬الاستغلال‭ ‬عامة‭ ‬كعامل‭ ‬لعب‭ ‬دورا‭ ‬هاما‭ ‬في‭ ‬تراكم‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬في‭ ‬الغرب‭.‬

وعليه‭ ‬فإن‭ ‬الغرب،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬بالتأكيد‭ ‬إهماله‭ ‬كتجربة‭ ‬تستحق‭ ‬الدرس‭ ‬والاستفادة‭ ‬منه،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬تحويله‭ ‬إلى‭ ‬مرجعية‭ ‬مطلقة‭ ‬ووحيدة‭. ‬هناك‭ ‬تجارب‭ ‬أخرى‭ ‬يخلق‭ ‬بنا‭ ‬تدبرها‭ ‬للتأكد‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬المسلمات،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬تجارب‭ ‬البلدان‭ ‬القريبة‭ ‬منا‭ ‬في‭ ‬التركيبة‭ ‬الحضارية،‭ ‬أي‭ ‬البلدان‭ ‬الإسلامية‭ ‬غير‭ ‬العربية‭.‬

إن‭ ‬ما‭ ‬نلاحظه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬أن‭ ‬البلدان‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬أمكنها‭ ‬أن‭ ‬تطور‭ ‬ذاتها‭ ‬وتدخل‭ ‬العصر‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬انفتحت‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬الحديث،‭ ‬كتركيا‭ ‬مثلا‭ ‬أو‭ ‬ماليزيا،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتنكر‭ ‬لمقومات‭ ‬هويتها‭ ‬التي‭ ‬استمدت‭ ‬منها‭ ‬الدافعية‭ ‬اللازمة‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬التخلف‭. ‬يخلق‭ ‬بنا،‭ ‬في‭ ‬معالجتنا‭ ‬لمعضلة‭ ‬التخلف‭ ‬متعدد‭ ‬الأوجه‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬ألا‭ ‬ننطلق‭ ‬من‭ ‬الأرضية‭ ‬العربية‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬العام‭ ‬للمجتمعات‭ ‬التي‭ ‬ننخرط‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬مشتركات‭ ‬حضارية‭. ‬وما‭ ‬نلاحظه‭ ‬في‭ ‬تجارب‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬البلدان‭ ‬أن‭ ‬الإسلام،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬السياسي‭ ‬منه،‭ ‬لا‭ ‬يشكّل‭ ‬عقبة،‭ ‬لا‭ ‬أمام‭ ‬التنمية‭ ‬ولا‭ ‬أمام‭ ‬الديمقراطية،‭ ‬مثلما‭ ‬لا‭ ‬يتعارض‭ ‬بالضرورة‭ ‬مع‭ ‬العلمانية،‭ ‬كما‭ ‬تثبت‭ ‬ذلك‭ ‬تجربة‭ ‬تركيا‭ ‬مثلا‭.‬

إن فكرة الغرب كنموذج مطلق تؤدي في الأخير إلى فكر أصولي معكوس ينتج عنه في الأخير، ليس استلهام النموذج الغربي الديمقراطي وإنما الخروج عنه، لأنه يؤسس للإقصاء، ومن خلال ذلك للعنف والاستبداد

من‭ ‬هنا‭ ‬تبدو‭ ‬لنا‭ ‬محدودية‭ ‬النظرة‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬مشكلة‭ ‬العرب‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬الدين،‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نستنتج‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬حين‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬رفض‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬‮«‬الحلول‭ ‬الوسطية‮»‬‭ ‬و‮»‬أنصاف‭ ‬الحلول‮»‬‭ ‬و‮»‬الفكر‭ ‬التوفيقي‭ ‬والتصالحي‮»‬‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تبني‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬بوصفه‭ ‬مطلقا،‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تشوبه‭ ‬شائبة‭ ‬تكدر‭ ‬نقاءه‭. ‬إن‭ ‬فكرة‭ ‬الغرب‭ ‬كنموذج‭ ‬مطلق‭ ‬تؤدي‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬إلى‭ ‬فكر‭ ‬أصولي‭ ‬معكوس‭ ‬ينتج‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬الأخير،‭ ‬ليس‭ ‬استلهام‭ ‬النموذج‭ ‬الغربي‭ ‬الديمقراطي‭ ‬وإنما‭ ‬الخروج‭ ‬عنه،‭ ‬لأنه‭ ‬يؤسس‭ ‬للإقصاء،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬للعنف‭ ‬والاستبداد،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا‭.‬

صحيح‭ ‬أنه‭ ‬بذلك‭ ‬يلتقي‭ ‬مع‭ ‬ثقافة‭ ‬الهيمنة‭ ‬التي‭ ‬تمثل‭ ‬الوجه‭ ‬الآخر‭ ‬وربما‭ ‬الدائم‭ ‬للأيديولوجية‭ ‬الغربية،‭ ‬ولهذا‭ ‬اتفق‭ ‬التوجهان،‭ ‬مثلا،‭ ‬في‭ ‬الترحيب‭ ‬بسقوط‭ ‬التجربة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬جاءت‭ ‬بالإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬إلى‭ ‬الحكم،‭ ‬وهذا‭ ‬يشكل‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الهرطقة‭ ‬وانحرافا‭ ‬عن‭ ‬النموذج‭ ‬الغربي‭. ‬يقول‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬‮«‬الإطاحة‭ ‬بمحمد‭ ‬مرسي‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الجماهير‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬إلى‭ ‬الشوارع‭ ‬وطالبت‭ ‬برحيله‭.‬
لم‭ ‬أر‭ ‬جماهير‭ ‬خرجت‭ ‬إلى‭ ‬الشوارع‭ ‬بهذا‭ ‬الكمّ‭ ‬الهائل‭ ‬إلا‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬10‭ ‬حزيران‭ ‬1967‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬أقبل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬على‭ ‬الاستقالة‭ ‬من‭ ‬منصبه‭ ‬بعد‭ ‬الهزيمة‭ ‬وخرجت‭ ‬جماهير‭ ‬بهذا‭ ‬العدد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شوارع‭ ‬مصر‮…»‬،‭ ‬الملاحظة‭ ‬الممكن‭ ‬إبداؤها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬هي‭ ‬التالية‭: ‬بما‭ ‬أن‭ ‬الجماهير‭ ‬كانت‭ ‬بهذا‭ ‬الحجم،‭ ‬فلماذا‭ ‬لم‭ ‬ينتظر‭ ‬الناس‭ ‬موعد‭ ‬الانتخابات‭ ‬لإخراج‭ ‬الرئيس‭ ‬مرسي‭ ‬بنفس‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬بها،‭ ‬يعني‭ ‬بالطريقة‭ ‬الديمقراطية؟‭ ‬الجواب‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الذين‭ ‬استعملوا‭ ‬‮«‬الجماهير‮»‬‭ ‬وخططوا‭ ‬للإطاحة‭ ‬بالرئيس‭ ‬المنتخب‭ ‬كانوا‭ ‬يسعون‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬إلى‭ ‬إفشال‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬الأساس‭. ‬فالأمر‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬غير‭ ‬ثورة‭ ‬مضادة‭ ‬اتخذت‭ ‬لها‭ ‬لبوسا‭ ‬جماهيريا‭. ‬ولأن‭ ‬‮«‬الأصولية‭ ‬المعكوسة‮»‬،‭ ‬شأنها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬شأن‭ ‬الأصولية‭ ‬الدينية،‭ ‬ترفض‭ ‬الفكر‭ ‬الآخر،‭ ‬فقد‭ ‬وضعت‭ ‬يدها‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬العسكر‭.‬
والحقيقة‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬العجب،‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬الأصولية‭ ‬المعكوسة‮»‬،‭ ‬مثل‭ ‬الأصولية‭ ‬الدينية،‭ ‬لا‭ ‬تؤمن‭ ‬بما‭ ‬يسميه‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬بـ‮»‬الحلول‭ ‬الوسطى‮»‬‭ ‬و‮»‬الفكر‭ ‬التصالحي‭ ‬والتوفيقي‮»‬‭. ‬إنه‭ ‬فكر‭ ‬إما‭ ‬هذا‭ ‬وإما‭ ‬ذاك‭. ‬فكر‭ ‬ثنائي‭ ‬ضدي،‭ ‬منغلق‭ ‬وجوهراني،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينتج‭ ‬بالتالي‭ ‬غير‭ ‬الإقصاء‭ ‬والعنف‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬واستمرار‭ ‬الاستبداد‭ ‬العربي‭. ‬ولهذا‭ ‬فإن‭ ‬الإسلاميين،‭ ‬أيّا‭ ‬كانوا،‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬ديمقراطيين،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬منطق‭ ‬‮«‬الأصولية‭ ‬المعكوسة‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يقضي‭ ‬بأن‭ ‬الأشياء‭ ‬إما‭ ‬أنها‭ ‬سوداء‭ ‬وإما‭ ‬أنها‭ ‬بيضاء‭.‬
ولهذا‭ ‬يرى‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬بأن‭ ‬محمد‭ ‬مرسي،‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬مصري‭ ‬مدني‭ ‬منتخب‭ ‬بطريقة‭ ‬ديمقراطية،‭ ‬كان‭ ‬يريد‭ ‬‮«‬إقامة‭ ‬دولة‭ ‬إسلامية‭ ‬بمفهوم‭ ‬الإخوان‭ ‬أو‭ ‬غيرهم‮»‬،‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬الإسلامي‮»‬،‭ ‬بحكم‭ ‬المنطق‭ ‬الجوهراني‭ ‬والأصولي‭ ‬المعكوس،‭ ‬فكر‭ ‬إما‭..‬وإما‭.. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ديمقراطيا‭. ‬الفكر‭ ‬الأصولي،‭ ‬أيّا‭ ‬كان‭ ‬نوعه،‭ ‬بحكم‭ ‬طابعه‭ ‬الجوهراني،‭ ‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬بالتطور،‭ ‬ولهذا‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يقتنع‭ ‬بفكرة‭ ‬إمكان‭ ‬أن‭ ‬يتطور‭ ‬الإسلامي‭ ‬إلى‭ ‬ديمقراطي‭. ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الفرصة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬أتيحت‭ ‬لمصر،‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا،‭ ‬تتمثل‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬فرصة‭ ‬أسلمة‭ ‬الدولة‭ ‬المصرية‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الإسلاميين،‭ ‬كما‭ ‬يؤكد‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم،‭ ‬بل‭ ‬فرصة‭ ‬تحديث‭ ‬الإسلام‭ ‬وجعله‭ ‬يتشبع‭ ‬بقيم‭ ‬العصر‭ ‬ويحتك‭ ‬بالواقع،‭ ‬فيؤثر‭ ‬ولا‭ ‬شك‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬يتأثر‭ ‬ويتغير‭ ‬ويُراجِع‭ ‬ذاته،‭ ‬فالإشراك‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬التشبّع‭ ‬بروح‭ ‬العصر،‭ ‬أما‭ ‬العزل‭ ‬والإقصاء‭ ‬فينتجان‭ ‬التشدد‭ ‬والجمود‭ ‬والتطرف‭.‬

أعترف‭ ‬بأنني‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬إيجاد‭ ‬الرابط‭ ‬بين‭ ‬موقف‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬المؤيد‭ ‬للثورة‭ ‬المضادة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وموقفه‭ ‬المناصر‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬للمعارضين‭ ‬السوريين‭ ‬لحكم‭ ‬بشار‭ ‬الأسد،‭ ‬لأن‭ ‬المعارضة‭ ‬المسلحة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬تتشكل‭ ‬بالأساس‭ ‬من‭ ‬الإسلاميين،‭ ‬فلو‭ ‬نسقط‭ ‬رأيه‭ ‬الخاص‭ ‬في‭ ‬‮«‬الإخوان‭ ‬المسلمين‮»‬‭ ‬بمصر‭ ‬على‭ ‬المعارضة‭ ‬السورية‭ ‬المسلحة‭ ‬ذات‭ ‬الأغلبية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬لبدا‭ ‬لنا‭ ‬موقف‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬غير‭ ‬متماسك،‭ ‬بل‭ ‬ومتناقضا‭. ‬ولأن‭ ‬الاختلاف‭ ‬لا‭ ‬يتنافى‭ ‬مع‭ ‬الاحترام،‭ ‬أوجه‭ ‬تحية‭ ‬تقدير‭ ‬لصادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم،‭ ‬المفكر‭ ‬الحر‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.