في‭ ‬معنى‭ ‬الضحك

السبت 2016/10/01
لوحة: إسماعيل نصرة

هذا ‬الربط‭ ‬بين‭ ‬الإنسان‭ ‬والضحك،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يفسر‭ ‬تلك‭ ‬المقولة‭ ‬القديمة،‭ ‬الجديدة،‭ ‬والتي‭ ‬تقول‭ ‬بأن‭ ‬الإنسان‭ ‬حيوان‭ ‬ضاحك‭.‬

أما‭ ‬النفّري‭ ‬فإنه‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬واضحك‭.. ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬إلا‭ ‬الفرحان‮»‬‭.‬

ولكن،‭ ‬هل‭ ‬الفرح‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يضحك؟‭ ‬ثم‭ ‬أيضا،‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬نسميه‭ ‬ضحكا،‭ ‬أليست‭ ‬له‭ ‬درجات‭ ‬في‭ ‬سلّم‭ ‬الإحساس‭ ‬بالناس‭ ‬والأشياء،‭ ‬وبالكلمات‭ ‬والعبارات؟

وماذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬الضحك‭ ‬سوى‭.. ‬الضحك‭ ‬الباكي؟‭ ‬أي‭ ‬ذلك‭ ‬الضحك‭ ‬العالي‭ ‬والمركب‭ ‬والمعقد،‭ ‬والذي‭ ‬قال‭ ‬عنه‭ ‬المتنبي‭ ‬هو‭ ‬‮«‬ضحك‭ ‬كالبكاء‮»‬‭.‬

في‭ ‬الكتابة‭ ‬الدرامية‭ ‬يكون‭ ‬المؤلف‭ ‬دائما‭ ‬هو‭ ‬الدافع‭ ‬إلى‭ ‬الضحك،‭ ‬ويكون‭ ‬هو‭ ‬المحرض‭ ‬عليه،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يقترح‭ ‬المواقف‭ ‬الضاحكة،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوجود،‭ ‬فإن‭ ‬خالق‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬‮«‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أضحك‭ ‬وأبكى‮»‬،‭ ‬ووراء‭ ‬هذا‭ ‬الفعل‭ ‬شيء‭ ‬يسميه‭ ‬الناس‭ ‬القضاء‭ ‬والقدر‭ ‬أو‭ ‬يسمونه‭ ‬المكتوب،‭ ‬وتتم‭ ‬هذه‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬وتجد‭ ‬تنفيذها‭ ‬وانعكاسها‭ ‬وتجلياتها‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬ويردد‭ ‬الناس‭ ‬دائما‭ ‬لازمة‭ ‬شعبية‭ ‬تقول‭ ‬ما‭ ‬يلي‭ ‬‮«‬إن‭ ‬ما‭ ‬يكتب‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬لا‭ ‬يمحوه‭ ‬الماء،‭ ‬وإن‭ ‬ما‭ ‬يكتب‭ ‬على‭ ‬الجبين‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تراه‭ ‬العين‮»‬‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬نيتشه،‭ ‬فإن‭ ‬الضحك‭ ‬هو‭ ‬صناعة‭ ‬بشرية‭ ‬خالصة،‭ ‬وأن‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬‮«‬اخترع‮»‬‭ ‬الضحك‭ ‬أو‭ ‬‮«‬اكتشفه‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنه‭ ‬أهم‭ ‬الكائنات‭ ‬البشرية‭ ‬شعورا‭ ‬بالألم،‭ ‬ولأنه‭ ‬أكثرها‭ ‬إحساسا‭ ‬بالمفارقات،‭ ‬وبهذا‭ ‬فقد‭ ‬أمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬بأن‭ ‬الضحك‭ ‬هو‭ ‬الوجه‭ ‬الثاني‭ ‬للحياة،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكتمل‭ ‬إلا‭ ‬بثنائية‭ ‬الضحك‭ ‬والبكاء‭.‬

شخصيا،‭ ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬التراجيديا‭ ‬الإغريقية،‭ ‬ولا‭ ‬أظنّني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإحساس‭ ‬الموقف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬وحدي،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬هو‭ ‬الفرح‭ ‬والتعييد‭ ‬والاحتفال،‭ ‬وأن‭ ‬الألم‭ ‬والحزن‭ ‬هما‭ ‬بعض‭ ‬أمراض‭ ‬وأعطاب‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬التراجيديا‭ ‬الإغريقية‭ ‬مفزعة‭ ‬ومرعبة،‭ ‬وأن‭ ‬الإنسان‭ ‬فيها‭ ‬مسيّر‭ ‬وليس‭ ‬مخيرا،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يتناقض‭ ‬كليا‭ ‬مع‭ ‬مفهومي‭ ‬ـ‭ ‬مفهومنا‭ ‬الاحتفالي‭ ‬للمسرح،‭ ‬والذي‭ ‬هو‭ ‬التعبير‭ ‬الحرّ‭ ‬للإنسان‭ ‬الحرّ‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الحر،‭ ‬وبعكس‭ ‬التراجيديا،‭ ‬فإن‭ ‬الكوميديا‭ ‬هي‭ ‬فن‭ ‬الأرض،‭ ‬وهي‭ ‬أيضا‭ ‬فن‭ ‬الواقع‭ ‬وفن‭ ‬اليومي‭ ‬وفن‭ ‬الإنسان‭ ‬البسيط‭.‬

ففي‭ ‬التراجيديا‭ ‬الإغريقية‭ ‬يساق‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬قدره‭ ‬وحتفه‭ ‬رغم‭ ‬أنفه،‭ ‬والجنون‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدراما‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬العقل،‭ ‬والموت‭ ‬فيها‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬والغموض‭ ‬فيها‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬الوضوح،‭ ‬والوحشية‭ ‬فيها‭ ‬أعلى‭ ‬صوتا‭ ‬وقامة‭ ‬من‭ ‬الإنسانية‭ ‬ومن‭ ‬المدنية،‭ ‬وبالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬فلسفة‭ ‬التعييد‭ ‬الاحتفالي،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬فلسفة‭ ‬الإنسان‭ ‬والإنسانية،‭ ‬وهي‭ ‬فلسفة‭ ‬المدينة‭ ‬والمدنية،‭ ‬وهي‭ ‬فلسفة‭ ‬الحياة‭ ‬والحيوية،‮ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬الحيوية،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الطاقة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الداخلية،‭ ‬والتي‭ ‬تمثلها‭ ‬إرادة‭ ‬الحياة‭ ‬لدى‭ ‬الأحياء،‭ ‬وإرادة‭ ‬الجمال‭ ‬والكمال‭ ‬وإرادة‭ ‬الحرية‭ ‬والتحرر‭.‬

إنني‭ ‬أومن‭ ‬بالعيد‭ ‬وبالعيدية،‭ ‬ولي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العيدية‭ ‬فلسفة‭ ‬نظرية،‭ ‬ولي‭ ‬فيها‭ ‬مواقف‭ ‬حياتية،‭ ‬ولي‭ ‬فيها‭ ‬إنجازات‭ ‬إبداعية‭ ‬حية،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬الرؤية‭ ‬العيدية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكتمل‭ ‬إلا‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬إنسانية‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭ ‬وكليّ،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬جديدة‭ ‬ومتجددة‭ ‬مبنى‭ ‬ومعنى،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬حية‭ ‬حياة‭ ‬حقيقية،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬مدنية‭ ‬أيضا،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬عامة‭ ‬وشاملة‭ ‬ومتكاملة،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬مؤثثة‭ ‬بالحسن‭ ‬والجمال،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬معزّزة‭ ‬بالإنشاد‭ ‬الشعري‭ ‬الغنائي‭ ‬والملحمي،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬مسكونة‭ ‬بالانتشاء‭ ‬الصوفي،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬ممتلئة‭ ‬لحد‭ ‬الفيض‭ ‬بالوجد‭ ‬الروحي،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬متحلّية‭ ‬بالعربدة‭ ‬الفكرية‭ ‬والوجدانية،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬محكومة‭ ‬بالفوضى‭ ‬المنظمة‭ ‬وبالهذيان‭ ‬الخلاق‭ ‬وبالعيش‭ ‬الحقيقي‭ ‬والكامل‭ ‬والمتكامل،‭ ‬والذي‭ ‬يتقاطع‭ ‬فيه‭ ‬المأساوي‭ ‬والملهاوي‭ ‬لحد‭ ‬الانصهار،‭ ‬وعليه،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يعقل‭ ‬أن‭ ‬نفصل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينفصل،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نفك‭ ‬الارتباط‭ ‬بين‭ ‬الحالات‭ ‬الوجودية‭ ‬المتداخلة‭ ‬والمتفاعلة،‭ ‬ولهذا،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬اليوم‭ ‬للحديث‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬يسمّى‭ ‬الضحك‭ ‬الخالص،‭ ‬أو‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يسمّى‭ ‬الكوميديا‭ ‬الخالصة،‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المسرح‭ ‬ـفي‭ ‬ومسرح‭ ‬الحياةـ‭ ‬هو‭ ‬تفاعل‭ ‬كيميائي‭ ‬ونفسي‭ ‬وذهني‭ ‬ووجداني‭ ‬وروحي‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬العناصر‭ ‬المتعددة‭ ‬والمختلفة‭ ‬فيه‭.‬

إن‭ ‬الليل‭ ‬يحاور‭ ‬النهار،‭ ‬والنور‭ ‬يجادل‭ ‬الظلمة،‭ ‬والصمت‭ ‬يجادل‭ ‬الكلمة،‭ ‬والضحك‭ ‬يعارك‭ ‬البكاء،‭ ‬والموت‭ ‬يتحدّى‭ ‬الحياة،‭ ‬ورغم‭ ‬كل‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬الموتى‭ ‬الذين‭ ‬مازالوا‭ ‬يموتون‭ ‬ـ‭ ‬أو‭ ‬يقتلون‭ ‬ـ‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬تظل‭ ‬حية‭ ‬أبدا‭ ‬ولا‭ ‬تموت‭.‬

أفلاطون‭ ‬طرد‭ ‬الشعراء‭ ‬من‭ ‬جمهوريته،‭ ‬ولكنّ‭ ‬نيتشه‭ ‬أعاد‭ ‬لهم‭ ‬الاعتبار،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬أبدا‭ ‬عن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفنان،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬الفيلسوف‭ ‬النظري،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬ينقص‭ ‬مسرحنا‭ ‬اليوم،‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬المسرحي‭ ‬الحرفي،‭ ‬ولكنه‭ ‬المسرحي‭ ‬العالم‭ ‬والفيلسوف‭ ‬والشاعر،‭ ‬أي‭ ‬ذلك‭ ‬المسرحي‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعطي‭ ‬المعنى،‭ ‬أو‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤسس‭ ‬المعنى،‭ ‬أو‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكتشف‭ ‬المعنى،‭ ‬والذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يفسّر‭ ‬الأسماء‭ ‬والأشياء،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬تغييرها‭ ‬وتجديدها‭ ‬أيضا،‭ ‬ومثل‭ ‬هذا‭ ‬المسرحي،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يضحك‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬خيرا،‭ ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يضحك‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬منطقيا‭ ‬ومعقولا،‭ ‬وبهذا‭ ‬يكون‭ ‬الضحك‭ ‬موقفا‭ ‬نقديا‭ ‬من‭ ‬اليومي‭ ‬ومن‭ ‬الأبدي‭ ‬ومن‭ ‬التاريخي‭ ‬ومن‭ ‬الوجودي‭ ‬ومن‭ ‬الكوني،‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬فعل‭ ‬عضلي‭ ‬آلي‭ ‬بلا‭ ‬معنى‭.‬

يميز‭ ‬برغسون‭ ‬بين‭ ‬الكوميديا‭ ‬والتراجيديا،‭ ‬مؤكدا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الأولى‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬جماعي،‭ ‬وعلى‭ ‬أن‭ ‬الثانية‭ ‬ذات‭ ‬طابع‭ ‬فردي‭ ‬وشخصي،‭ ‬فالإنسان‭ ‬يضحك‭ ‬مع‭ ‬الجماعة،‭ ‬ولكنه‭ ‬يتألم‭ ‬وحده،‭ ‬ويموت‭ ‬وحده،‭ ‬ونعرف‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬بعض‭ ‬الطيور‭ ‬أنها‭ ‬تختبئ‭ ‬لتموت،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬الآن‭ ‬بيتين‭ ‬شهيرين‭ ‬لأبي‭ ‬فراس‭ ‬الحمداني‭:‬

أراك‭ ‬عصي‭ ‬الدمع‭ ‬شيمتك‭ ‬الصبر‮ ‬

أما‭ ‬للهوى‭ ‬نهي‭ ‬عليك‭ ‬ولا‭ ‬أمر

نعـم‭ ‬أنا‭ ‬مـشـتاق‭ ‬وعـنـدي‭ ‬لوعــة‮ ‬‭ ‬ولـكـن‭ ‬مثلي‭ ‬لا‭ ‬يـذاع‭ ‬له‭ ‬ســر

‮ ‬الحزن‭ ‬إذن‭ ‬سرّ‭ ‬من‭ ‬الأسرار،‭ ‬بعكس‭ ‬الفرح‭ ‬الذي‭ ‬يتطلب‭ ‬الإعلان‭ ‬والإشهار،‭ ‬وترى‭ ‬الاحتفالية،‭ ‬في‭ ‬دعوتها‭ ‬العيدية‭ ‬إلى‭ ‬اقتسام‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬العيد،‭ ‬اقتسام‭ ‬مكان‭ ‬الاحتفال‭ ‬واقتسام‭ ‬زمنه،‭ ‬واقتسام‭ ‬قضاياه،‭ ‬واقتسام‭ ‬مناخه،‭ ‬واقتسام‭ ‬طقسه،‭ ‬واقتسام‭ ‬أحواله،‭ ‬واقتسام‭ ‬أسئلته،‭ ‬وفي‭ ‬رأيها‭ ‬أيضا،‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬نشترك‭ ‬فيه‭ ‬ونتقاسمه‭ ‬فيما‭ ‬بيننا‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬ينقص،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬نعم،‭ ‬إلا‭ ‬الفرح‭ ‬الصادق،‭ ‬فهو‭ ‬يزيد‭ ‬ويكبر‭ ‬بالآخرين‭ ‬ومعهم،‭ ‬وكلما‭ ‬وجدنا‭ ‬من‭ ‬يشاركنا‭ ‬أفراحنا،‭ ‬ويشاركنا‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عنها،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الأفراح‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تكثر‭ ‬وتكبر‭ ‬وتتسع‭ ‬أيضا،‭ ‬وكذلك‭ ‬هو‭ ‬الضحك‭ ‬دائما،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭ ‬معناه‭ ‬الكامل‭ ‬إلا‭ ‬بالمشاركة،‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬يضحك‭ ‬وحده،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬مشكوكا‭ ‬في‭ ‬صحته‭ ‬العقلية‭.‬

إن‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬أنه‭ ‬مجتمع‭ ‬مصغّر،‭ ‬وهو‭ ‬صغير‭ ‬بحيزه‭ ‬الزمني‭ ‬والمكاني‭ ‬المحدود،‭ ‬ولكنه‭ ‬كبير‭ ‬بعمقه‭ ‬الفكري‭ ‬وبقضاياه‭ ‬وبأسئلته‭ ‬وبأهدافه‭ ‬وبأحلامه‭ ‬وبأوهامه‭ ‬وبفتوحاته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقف‭ ‬عند‭ ‬حدّ‭ ‬معين،‭ ‬وفي‮ ‬‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬المسرحي‭ ‬ينتقل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بالمحاكاة‭ ‬وبالعدوى،‭ ‬فيضحك‭ ‬هذا‭ ‬إذا‭ ‬ضحك‭ ‬الآخر،‭ ‬وبهذا‭ ‬يكون‭ ‬الضحك‭ ‬موجودا‭ ‬دائما‭ ‬ـليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الحوار‭ ‬وفي‭ ‬المواقف‭ ‬وفي‭ ‬الشخصيات‭ ‬ـ‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬العام‭ ‬للمسرح،‭ ‬وفي‭ ‬مناخه،‭ ‬وفي‭ ‬مكانه،‭ ‬وفي‭ ‬زمانه،‭ ‬وفي‭ ‬مناسبته،‭ ‬وفي‭ ‬شبكة‭ ‬علاقاته،‭ ‬وفي‭ ‬قابلية‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يضحكوا،‭ ‬وبغير‭ ‬هذه‭ ‬القابلية،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يضحك‭ ‬الناس‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬الأشخاص،‭ ‬أو‭ ‬يضحكهم‭ ‬موقف‭ ‬من‭ ‬المواقف،‭ ‬أو‭ ‬تضحكهم‭ ‬كلمة‭ ‬من‭ ‬الكلمات‮ ‬‭ ‬أو‭ ‬عبارة‭ ‬من‭ ‬العبارات‭.‬

‮ ‬المسرح‭ ‬والضحك‭ ‬في‭ ‬البدايات

‮ ‬لقد‭ ‬ارتبط‭ ‬المسرح‭ ‬دائما،‭ ‬ومنذ‭ ‬أقدم‭ ‬العصور،‭ ‬بالطبيعة‭ ‬وبالحياة،‭ ‬فهو‭ ‬أساسا‭ ‬فن‭ ‬من‭ ‬فنون‭ ‬الوجود،‭ ‬وشكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬العيش‭.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬المسرح،‭ ‬في‭ ‬مستواه‭ ‬الأول،‭ ‬هو‭ ‬نزعة‭ ‬فطرية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬المحاكاة‭ ‬والتحوّل،‭ ‬وهو‭ ‬فن‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬الأفقية‭ ‬بالإنسان،‭ ‬وهو‭ ‬فنّ‭ ‬الأرض،‭ ‬المجتمع،‭ ‬اللحظة‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬علاقتها‭ ‬بالسماء‭ ‬وبالمتعالي‭ ‬وبالأبدي‭ ‬وبالسرمدي‭ ‬وبالمطلق‭.‬

إن‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬إذن،‭ ‬وهو‭ ‬الجزء‭ ‬الذي‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬الكل،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬أبدا،‭ ‬وبشكل‭ ‬حقيقي‭ ‬وكليّ،‭ ‬إلا‭ ‬بوضعه‭ ‬في‭ ‬إطاره‭ ‬الصحيح،‭ ‬أي‭ ‬بكونه‭ ‬مجموع‭ ‬هواجس‭ ‬الإنسان‭ ‬الحقيقية‭ ‬والوهمية،‭ ‬ومجموع‭ ‬أسئلته‭ ‬الوجودية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬ومجموع‭ ‬محمولاته‭ ‬المعرفية‭ ‬والجمالية،‭ ‬ومجموع‭ ‬مكتسباته‭ ‬العقائدية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬ومجموع‭ ‬علاقاته‭ ‬وارتباطاته،‭ ‬سواء‭ ‬بذاته،‭ ‬أو‭ ‬بالآخر،‭ ‬أو‭ ‬بالزمن،‭ ‬أو‭ ‬بالمكان،‭ ‬أو‭ ‬بالتاريخ،‭ ‬أو‭ ‬بالمؤسسة‭.‬

وفي‭ ‬البدء‭ ‬الأول،‭ ‬كان‭ ‬الجدب‭ ‬وكان‭ ‬الخصب‭ ‬أولى‭ ‬لغات‭ ‬الأرض‭ ‬والحياة،‭ ‬وكانت‭ ‬ثنائية‭ ‬الولادة‭ ‬والموت،‭ ‬وكانت‭ ‬ثنائية‭ ‬المضحك‭ ‬والمبكي،‭ ‬وكانت‭ ‬لغة‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬هي‭ ‬الأقوى‭ ‬والأعلى‭ ‬والأفصح‭ ‬والأبلغ،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬تعلّم‭ ‬الإنسان‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وبالمحاكاة‭ ‬عرف‭ ‬كيف‭ ‬يضحك‭ ‬ويفرح،‭ ‬إذا‭ ‬ضحكت‭ ‬هذه‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وعرف‭ ‬كيف‭ ‬يبكي‭ ‬ويحزن،‭ ‬إذا‭ ‬ماتت‭ ‬هذه‭ ‬الطبيعة‭ ‬مؤقتا،‭ ‬وعرف‭ ‬كيف‭ ‬يؤمن‭ ‬بالبعث،‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬للأجساد‭ ‬والأشياء‭ ‬أن‭ ‬تستعيد‭ ‬وجودها‭ ‬وحياتها‭ ‬وحيويتها‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬الصمت‭ ‬والموت،‭ ‬وتعلّم‭ ‬كيف‭ ‬يضحك‭ ‬ويبكي،‭ ‬وتعلم‭ ‬كيف‭ ‬يحتفل،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬التعييد‭ ‬احتفالا‭ ‬ملوّنا،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬مأتما‭ ‬بلا‭ ‬لون‭.‬

وامتد‭ ‬ذلك‭ ‬الخصب،‭ ‬وذلك‭ ‬الجدب،‭ ‬ليكون‭ ‬لهما‭ ‬وجهان‭ ‬اثنان،‭ ‬وجهان‭ ‬متعاقبان‭ ‬أو‭ ‬متناقضان‭ ‬أو‭ ‬متكاملان،‭ ‬الوجه‭ ‬الأول‭ ‬تمثله‭ ‬الولادة،‭ ‬بفرحها‭ ‬واحتفالاتها،‭ ‬وبألوانها‭ ‬وأضوائها‭ ‬وأهازيجها،‭ ‬أما‭ ‬الوجه‭ ‬الثاني‭ ‬فيمثله‭ ‬الموت،‭ ‬بحزنه‭ ‬وقلقه،‭ ‬وبطقوسيته‭ ‬وجنائزيته،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬المجتمع‭ ‬الزراعي‭ ‬الذي‭ ‬كان،‭ ‬ولد‭ ‬المسرح‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬وبذلك‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ضروريا‭ ‬أن‭ ‬يشبه‭ ‬الطبيعة‭ ‬في‭ ‬‮«‬انفعالاتها‮»‬‭ ‬المختلفة،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬ربيعا‭ ‬ضاحكا،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬خريفا‭ ‬باكيا،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬نشوة‭ ‬المسرح‭ ‬مرتبطة،‭ ‬ارتباطا‭ ‬عضويا‭ ‬وحيويا،‭ ‬بنشوة‭ ‬الخمرة،‭ ‬وأن‭ ‬تكون‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬الفرح‭ ‬بالامتلاء‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬الخصب،‭ ‬وتمثله‭ ‬الولادة،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬خوفا‭ ‬وقلقا‭ ‬وحزنا‭ ‬أيضا،‭ ‬وذلك‭ ‬أمام‭ ‬ما‭ ‬يمثّله‭ ‬الموت‭ ‬من‭ ‬خوف‭ ‬ورعب،‭ ‬وما‭ ‬يوحي‭ ‬به‮ ‬‭ ‬فراغ‭ ‬ومن‭ ‬خواء‭ ‬ومن‭ ‬وحشة‭ ‬ومن‭ ‬غموض‭ ‬ومن‭ ‬قلق‭ ‬وجودي‭.‬

ولأن‭ ‬هذه‭ ‬الطبيعة،‭ ‬هي‭ ‬بالأساس‮ ‬‭ ‬فصول‭ ‬متعاقبة،‭ ‬فصول‭ ‬فيها‭ ‬برد‭ ‬وحرّ،‭ ‬وفيها‭ ‬مدّ‭ ‬وجزر،‭ ‬ولأنها‮ ‬‭ ‬أيضا،‮ ‬‭ ‬مواسم‭ ‬يتبع‭ ‬بعضها‭ ‬بعضا،‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬صورتها‭ ‬الأمينة،‭ ‬ومنذ‭ ‬بداياتها‭ ‬الأولى،‭ ‬لتكون‭ ‬فصولا‭ ‬نفسية‭ ‬وذهنية‭ ‬ووجدانية‭ ‬وروحية،‭ ‬وليكون‭ ‬الضحك‭ ‬فيها‭ ‬موسميا،‭ ‬وليكون‭ ‬الحزن‭ ‬والأسى‭ ‬موسميا‭ ‬أيضا‭.‬

إن‭ ‬الضحك‭ ‬إذن،‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬وجهي‭ ‬الطبيعة‭ ‬والحياة،‭ ‬وبذلك‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬للفعل‭ ‬المسرحي‭ ‬نفس‭ ‬وجهي‭ ‬هذه‭ ‬الطبيعة‭ ‬وتلك‭ ‬الحياة،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬نفس‭ ‬قناعيهما‭ ‬الضاحك‭ ‬والباكي،‭ ‬وكان‭ ‬رسما‭ ‬في‭ ‬الوجوه‭ ‬المعبّرة،‭ ‬وكان‭ ‬قهقهة‭ ‬عالية‭ ‬لها‭ ‬صوتها‭ ‬وصداها،‭ ‬ولها‭ ‬رنتها‭ ‬المميزة‭ ‬الخاصة‭.‬

‮ ‬روافد‭ ‬المسرح‭ ‬العربي


لوحة: إسماعيل نصرة

‮ ‬شيء‭ ‬مؤكد،‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬ندعوه‭ ‬المسرح‭ ‬العربي‭ ‬لم‭ ‬يؤسسه‭ ‬شخص‭ ‬واحد،‭ ‬ولم‭ ‬تبنه‭ ‬جهة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الجهات،‭ ‬ولكنه‭ ‬نتيجة‭ ‬نهائية‭ ‬لفاعلين‭ ‬متعددين‭ ‬ومختلفين‭ ‬جاؤوا‭ ‬من‭ ‬حقول‭ ‬معرفية‭ ‬وفنية‭ ‬وفكرية‭ ‬متعددة،‭ ‬وحتى‭ ‬نعرف‭ ‬موقع‭ ‬الضحك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسرح،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬الفاعلين‭ ‬الأولين‭ ‬والأساسيين‭ ‬فيه،‮ ‬وأن‭ ‬نحدّد‭ ‬الجهات‭ ‬التي‭ ‬أتوا‭ ‬منها‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المسرح،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬نحصر‭ ‬هؤلاء‭ ‬الفاعلين‭ ‬الأساسيين‭ ‬في‭ ‬خمسة‭ ‬وهم‭:‬

1‭-‬‮ ‬المغنّي‭: ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬العربي‭ ‬غنائيا‭ ‬في‭ ‬بداياته‭ ‬الأولى،‭ ‬وقد‭ ‬استقطب‭ ‬مجموعة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬المغنيين،‭ ‬وأدخلهم‭ ‬في‭ ‬بنيته‭ ‬وفي‭ ‬نسيجه،‭ ‬وفي‭ ‬مغرب‭ ‬الثلث‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬كانت‭ ‬الفرقة‭ ‬المسرحية‭ ‬تسمّى‭ ‬جوقا،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬المغنّين‭ ‬الذين‭ ‬دخلوا‭ ‬المسرح‭ ‬سلامة‭ ‬حجازي‭ ‬والشيخ‭ ‬درويش‭ ‬وغيرهما،‭ ‬ويشير‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬شقرون‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فجر‭ ‬المسرح‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬المغرب‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬من‭ ‬كان‭ ‬يسمى‭ ‬زرياب‭ ‬القوم،‭ ‬والذي‭ ‬تشاء‭ ‬الصدف‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مطربا‭ ‬وممثلا‮»‬‮ ‬‭(‬منشورات‭ ‬اتحاد‭ ‬إذاعات‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬تونس‭ ‬1980،‭ ‬ص73‭ ‬‭)‬‭.‬

‮ ‬2‭-‬‭ ‬الخطيب‭ ‬السياسي‭: ‬سواء‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬النضال‭ ‬ضد‭ ‬المستعمر،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬النضال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إقرار‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬الديمقراطي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الباب‭ ‬دخل‭ ‬المسرح‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الزعماء‭ ‬ومن‭ ‬المصلحين‭ ‬ومن‭ ‬السياسيين،‭ ‬والذين‭ ‬اعتبروا‭ ‬المسرح‭ ‬منبرا‭ ‬آخر‭ ‬للخطابة،‭ ‬واعتبروه‭ ‬أداة‭ ‬ناجعة‭ ‬لتأطير‭ ‬المواطنين‭ ‬سياسيا،‭ ‬ولتوعيتهم‭ ‬أيضا‭ ‬بضرب‭ ‬الأمثال‭ ‬المجسّدة‭ ‬والمشخّصة‭ ‬والحيّة،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬السياسيين‭ ‬الزعيم‭ ‬الوحدوي‭ ‬عبدالخالق‭ ‬الطريس‭ ‬والفقيه‭ ‬محمد‭ ‬القري،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬‮«‬شاعرا‭ ‬وعالما‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الدينية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الشبان‭ ‬المتشبعين‭ ‬بالثقافة‭ ‬الأدبية‭ ‬والميل‭ ‬نحو‭ ‬التجديد‭ ‬والإصلاح‭ ‬وكان،‭ ‬فيما‭ ‬بعد،‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬شهداء‭ ‬الوطنية‭ ‬الأبرار‮»‬‭ ‬‭(‬المرجع‭ ‬نفسه،‭ ‬ص‭ ‬73‭)‬‭.‬

‮ ‬

3‭-‬‭ ‬الحكواتي‭ ‬الشعبي‭ ‬والراوية‭ ‬والحلايقي‭: ‬والذين‭ ‬اعتبروا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يشكل‭ ‬مجال‭ ‬اشتغالهم‭ ‬وإبداعهم‭ ‬الجديد،‭ ‬وقد‭ ‬انضموا‭ ‬إليه،‭ ‬لأنهم‭ ‬يملكون‭ ‬موهبة‭ ‬الحكي،‭ ‬ويملكون‭ ‬موهبة‭ ‬شد‭ ‬الانتباه‭ ‬إليهم‭.‬

‮ ‬

4‭-‬‭ ‬الأديب‭: ‬سواء‭ ‬أكان‭ ‬شاعرا‭ ‬ينظم‭ ‬القصائد،‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬ناثرا‭ ‬يجيد‭ ‬الحكي‭ ‬ويجيد‭ ‬السرد،‭ ‬ويعرف‭ ‬كيف‭ ‬يوجد‭ ‬الشخصيات‭ ‬المسرحية،‭ ‬ويعطيها‭ ‬أسماءها‭ ‬وكلامها،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬دخول‭ ‬هذا‭ ‬الأديب‭ ‬إلى‭ ‬الحقل‭ ‬المسرحي‭ ‬وجد‭ ‬فاعل‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬يسمى‭ ‬الكاتب‭ ‬المسرحي‭.‬

‮ ‬

5‭ ‬ـ‭ ‬المضحك،‭ ‬والفكاهي‭ ‬والمقلد‭ ‬وكل‭ ‬الذين‭ ‬لهم‭ ‬ملكة‭ ‬الإضحاك‭: ‬والذين‭ ‬وجدوا‭ ‬أنفسهم‭ ‬ينخرطون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬بتلقائية،‭ ‬وقد‭ ‬تشكّل‭ ‬بوجودهم‭ ‬مسرح‭ ‬شعبي‭ ‬فطري،‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬التيار‭ ‬الفطري‭ ‬في‭ ‬الفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬ولقد‭ ‬عرف‭ ‬المغرب‭ ‬دائما‭ ‬هؤلاء‭ ‬المضحكين‭ ‬والمبسطين،‭ ‬والذين‭ ‬كانوا‭ ‬جزءا‭ ‬أساسيا‭ ‬وحيويا‭ ‬من‭ ‬ثقافته‭ ‬الشعبية،‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬كل‭ ‬الأشكال‭ ‬الفنية‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬المغرب‭ ‬قديما،‭ ‬والتي‭ ‬نجد‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬الحلقة‭ ‬وسلطان‭ ‬الطلية‭ ‬وسيدي‭ ‬الكتفي،‭ ‬فهناك‭ ‬فن‭ ‬يسمى‭ ‬البساط‭ ‬ـمن‭ ‬البسط‭ ‬ـ‭ ‬ولقد‭ ‬كان‭ ‬المبسطون‭ ‬ـ‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬د‭. ‬عبدالله‭ ‬شقرون‭ ‬‮«‬يتخذون‭ ‬من‭ ‬معارفهم‭ ‬وبعض‭ ‬المشهورين‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬مواضيع‭ ‬لمستملحاتهم‭ ‬ومضحكاتهم،‭ ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يأتون‭ ‬بحركات‭ ‬وأفعال‭ ‬في‭ ‬تشخيصهم‭ ‬ـوإن‭ ‬بلغت‭ ‬السوقية‭ ‬ودرجة‭ ‬الاستبشاع‭ ‬أحياناـ‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬نطاق‭ ‬الفكاهة‮»‬‭ ‬‭(‬المرجع‭ ‬نفسه،‭ ‬ص‭ ‬30‭)‬‭.‬

هؤلاء‭ ‬المبسطون‭ ‬كان‭ ‬يتقدمهم‭ ‬كبيرهم‭ ‬الذي‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬البوهو‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬استعرته‭ ‬شخصيا،‭ ‬وقدمته‭ ‬في‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬عطيل‭ ‬والخيل‭ ‬والبارود‮»‬،‭ ‬وجعلته‭ ‬رسول‭ ‬المستضعفين‭ ‬إلى‭ ‬السلطان،‭ ‬يسوق‭ ‬الرسائل‭ ‬السياسية‭ ‬داخل‭ ‬فعل‭ ‬الإضحاك‭.‬

‮ ‬الضحك‭ ‬والتساؤلات‭ ‬الوجودية

‮ ‬إن‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬المسرحية،‭ ‬أيّ‭ ‬مسرحية،‭ ‬سواء‭ ‬أكانت‭ ‬مسرحية‭ ‬الوجود‭ ‬والحياة،‭ ‬أم‭ ‬كانت‭ ‬مسرحية‭ ‬الأدب‭ ‬والفن،‭ ‬أنها‭ ‬مجرد‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬السائرة‭ ‬والعابرة‭ ‬والمعبّرة،‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬فقط،‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬الاستثنائي‭ ‬الذي‭ ‬يختصر‭ ‬كل‭ ‬الأيام‭ ‬والليالي،‭ ‬ويختزل‭ ‬كل‭ ‬الجغرافيا‭ ‬والتاريخ،‭ ‬ويتضمن‭ ‬كل‭ ‬المواقع‭ ‬والوقائع،‭ ‬ويخفي‭ ‬كل‭ ‬الحالات‭ ‬والمقامات،‭ ‬ويشي‭ ‬بكل‭ ‬أشكال‭ ‬الحوارات‭ ‬والخطابات‭ ‬المختلفة‭ ‬والمخالفة‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬المؤسس،‭ ‬سواء‭ ‬لحياة‭ ‬المسرح‭ ‬أو‭ ‬لمسرح‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬لحياة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسرح،‭ ‬والذي‭ ‬هو‭ ‬يوم‭ ‬وجودي‭ ‬ومسرحي‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الآن،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬الأبدي‭ ‬والسرمدي‭ ‬يحضر‭ ‬النور‭ ‬وتحضر‭ ‬الظلمة‭ ‬معه،‭ ‬ويحضر‭ ‬الليل‭ ‬والنهار‭ ‬إلى‭ ‬جانبه،‭ ‬ويحضر‭ ‬الفرح‭ ‬والأسى‭ ‬يتعقبه‭ ‬مثل‭ ‬ظله،‭ ‬ويحضر‭ ‬الجمال‭ ‬والقبح‭ ‬يلاحقه،‭ ‬ويحضر‭ ‬الحضور‭ ‬والغياب‭ ‬يهدده،‭ ‬وأمام‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬التناقضات‭ ‬التي‭ ‬تؤسس‭ ‬عيش‭ ‬الناس‭ ‬وعيش‭ ‬الشخصيات‭ ‬وعيش‭ ‬كل‭ ‬الكائنات‭ ‬الحيّة،‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬واجبنا‭ ‬أن‭ ‬نسأل‭ ‬الأسئلة‭ ‬الأساسية‭ ‬والحيوية‭ ‬التالية‭:‬

•‭ ‬من‭ ‬يضحك‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يضحك؟

‭ ‬•‭ ‬ومن‭ ‬يضحك‭ ‬من،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬يضحك‭ ‬على‭ ‬من،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬ماذا؟

‭ ‬•‭ ‬ولماذا‭ ‬يضحك‭ ‬الحاضر‭ ‬على‭ ‬الغائب‭ ‬عادة؟

•‭ ‬وهل‭ ‬معنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الغياب‭ ‬خطأ‭ ‬اجتماعي‭ ‬تعاقب‭ ‬عليه‭ ‬المجتمعات‭ ‬بالضحك؟

في‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬يضحك‭ ‬الإنسان‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد،‭ ‬وذلك‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬حيوان‭ ‬ضاحك،‭ ‬وباعتبار‭ ‬أن‭ ‬لهذا‭ ‬الضحك‭ ‬فوائد‭ ‬نفسية‭ ‬وذهنية‭ ‬وعلاجية‭ ‬كثيرة‭ ‬جدا،‭ ‬ولولاه‭ ‬لماتت‭ ‬شعوب‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬القهر،‭ ‬ولانقرضت‭ ‬أمم‭ ‬كثيرة‭ ‬بفعل‭ ‬الأسى‭ ‬والهم‭ ‬والغم،‭ ‬ويضحك‭ ‬الإنسان‭ ‬ولسان‭ ‬حاله‭ ‬يقول‭ ‬دائما‭ ‬‮«‬ربنا‭ ‬ما‭ ‬خلقت‭ ‬هذا‭ ‬الضحك‭ ‬باطلا‭ ‬سبحانك‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬نتساءل‭ ‬أيضا‭:‬

•‭ ‬هذا‭ ‬الضحك‭ ‬المسرحي‭ ‬ماذا‭ ‬يعني؟‭ ‬وماذا‭ ‬يشكل‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬ذوات‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات؟

•‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬لحظات‭ ‬للاستراحة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منها؟

•‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬بريئة‭ ‬أم‭ ‬حالة‭ ‬عدوانية؟

•‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬موقف‭ ‬نفسي‭ ‬وذهني‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬ومن‭ ‬سلوكهم‭ ‬ومن‭ ‬تفكيرهم؟

•‭ ‬وهذا‭ ‬الضحك،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬فعل‭ ‬أخلاقي‭ ‬دائما،‭ ‬أم‭ ‬إنه‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يرقى‭ ‬ليصل‭ ‬درجة‭ ‬الموقف‭ ‬الفكري‭ ‬والفلسفي،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬السياسية،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬مجتمع‭ ‬من‭ ‬المجتمعات،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬حقبة‭ ‬من‭ ‬حقب‭ ‬التاريخ؟

•‭ ‬ثم‭ ‬أيضا،‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الضحك‭ ‬مجرد‭ ‬تقليد‭ ‬ومحاكاة‭ ‬للطبيعة‭ ‬الضاحكة‭ ‬والباكية؟

•‭ ‬وهل‭ ‬هذا‭ ‬المسرح،‭ ‬في‭ ‬معناه‭ ‬الحقيقي‭ ‬والشامل‭ ‬والكامل،‭ ‬إلا‭ ‬التقليد‭ ‬والمحاكاة؟

لقد‭ ‬قال‭ ‬الشاعر‭ ‬البحتري‭:‬

أتاك‭ ‬الربع‭ ‬الطلق‭ ‬يختال‭ ‬ضاحكا‮ ‬‭ ‬

من‭ ‬الحسن‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬أن‭ ‬يتكلم

‮ ‬•‭ ‬وهذا‭ ‬الضحك‭ ‬أيضا،‭ ‬أليس‭ ‬كلاما‭ ‬وتعبيرا،‭ ‬أو‭ ‬شكلا‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الكلام،‭ ‬والتي‭ ‬لها‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬عدّ‭ ‬ولا‭ ‬حصر؟

وقد‭ ‬يحدث‭ ‬أن‭ ‬نضحك‭ ‬أيضا،‭ ‬عندما‭ ‬تضحك‭ ‬لنا‭ ‬الحياة،‭ ‬وقد‭ ‬يحدث‭ ‬أن‭ ‬نضحك‭ ‬نحن‭ ‬أولا،‭ ‬حتى‭ ‬تضحك‭ ‬لنا‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬ألم‭ ‬يقل‭ ‬المغنّي‭ ‬‮«‬اضحك‭ ‬للدنيا‭ ‬تضحك‭ ‬لك‮»‬،‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬تتمنّع‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬على‭ ‬الإنسان،‭ ‬ولا‭ ‬تظهر‭ ‬له‭ ‬إلا‭ ‬جانبها‭ ‬السيئ‭ ‬والمحزن،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬حقه‭ ‬في‭ ‬الضحك،‭ ‬وبمرارة‭ ‬يضحك‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬يضحك‭ ‬ضحكا‭ ‬كالبكاء‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬المتنبي‭.‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نواصل‭ ‬فعل‭ ‬السؤال،‭ ‬وأن‭ ‬نقول‭ ‬ما‭ ‬يلي‭:‬

–‭ ‬وفعل‭ ‬الضحك‭ ‬هذا،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬المسرح،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬فعل‭ ‬آلي،‭ ‬ميكانيكي،‭ ‬يصدر‭ ‬عنّا‭ ‬رغما‭ ‬عنّا،‭ ‬أم‭ ‬إنه‭ ‬فعل‭ ‬نأتيه‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬واختيار‭ ‬وعن‭ ‬سابق‭ ‬إصرار‭ ‬وترصد‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬فقهاء‭ ‬القانون؟

إنّ‭ ‬الضحك‭ ‬مستويات‭ ‬بلا‭ ‬شك،‭ ‬مستويات‭ ‬بعضها‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬وأبعد‭ ‬من‭ ‬بعض،‭ ‬وفي‭ ‬أدنى‭ ‬درجات‭ ‬هذا‭ ‬الضحك‭ ‬نجد‭ ‬الضحك‭ ‬المادي‭ ‬الحسّي،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬درجاته‭ ‬فإنّنا‭ ‬نجد‭ ‬الضحك‭ ‬العقلي‭ ‬والفكري،‭ ‬وتشكّل‭ ‬السخرية‭ ‬الوجودية،‭ ‬كما‭ ‬مارسها‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬والمبدعين‭ ‬المتفلسفين،‭ ‬قمّة‭ ‬الضحك‭ ‬والإضحاك‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الضحك‭ ‬دائما،‭ ‬وكما‭ ‬يعرف‭ ‬الجميع،‭ ‬تلتقي‭ ‬كل‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمم،‭ ‬ولكن‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة،‭ ‬وذلك‭ ‬بحكم‭ ‬أنّ‭ ‬استجابة‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمم‭ ‬لا‭ ‬تتم‭ ‬دائما‭ ‬بنفس‭ ‬القوة‭ ‬وبنفس‭ ‬الحماس‭ ‬وبنفس‭ ‬الإيمان‭ ‬بالضحك،‭ ‬فهناك‭ ‬شعوب‭ ‬مبتسمة،‭ ‬وهناك‭ ‬شعوب‭ ‬ضاحكة،‭ ‬وهناك‭ ‬شعوب‭ ‬مقهقهة،‭ ‬وهناك‭ ‬شعوب‭ ‬غنيّة‭ ‬برصيدها‭ ‬في‭ ‬بنك‭ ‬الضحك،‭ ‬وهناك‭ ‬شعوب‭ ‬أخرى‭ ‬فقيرة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المادة‭ ‬الحيوية،‭ ‬فقيرة‭ ‬لحدّ‭ ‬البؤس‭.‬

وفي‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وعبر‭ ‬كل‭ ‬المراحل‭ ‬المختلفة‭ ‬والمتعاقبة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ،‭ ‬ظهرت‭ ‬حقب‭ ‬خاصة‭ ‬ازدهر‭ ‬فيها‭ ‬الضحك‭ ‬بشكل‭ ‬واضح،‭ ‬وظهرت‭ ‬حقب‭ ‬أخرى‭ ‬لحقها‭ ‬الحرب‭ ‬والدمار،‭ ‬ولفّها‭ ‬الهمّ‭ ‬والغمّ‭ ‬والأسى،‭ ‬ولقد‭ ‬تمّت‭ ‬ترجمة‭ ‬القلق‭ ‬الوجودي‭ ‬الإغريقي‭ ‬إلى‭ ‬تراجيديا‭ ‬فيها‭ ‬عنف‭ ‬وقوة،‭ ‬وفيها‭ ‬أسئلة‭ ‬ومسائل‭ ‬فلسفية،‭ ‬وفيها‭ ‬خوف‭ ‬ورعب،‭ ‬أما‭ ‬الدراما‭ ‬الرومانية،‭ ‬وبحكم‭ ‬فقرها‭ ‬الفكري‭ ‬والفلسفي،‭ ‬فقد‭ ‬نظرت‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬مختلفة،‭ ‬ونظرت‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬بعين‭ ‬ضاحكة‭.‬

وفي‭ ‬السينما‭ ‬العالمية‭ ‬الحديثة،‭ ‬اشتهرت‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الحربين‭ ‬العالميتين‭ ‬بالضحك،‭ ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬السنوات‭ ‬المقهقهة،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬الموسم‭ ‬الضاحك‭ ‬والمقهقه‭ ‬صالت‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬وجالت،‭ ‬وأضحكت‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مكان،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هؤلاء‭ ‬الضاحكين‭ ‬المضحكين‭ ‬شارلي‭ ‬شابلن‭ ‬ولوريل‭ ‬وهاردي،‭ ‬وبودابوط‭ ‬ولو‭ ‬كسطلو‭ ‬وهارولد‭ ‬لويد‭ ‬وبيستر‭ ‬كيتون‭ ‬والإخوان‭ ‬ماركس‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثير،‭ ‬أما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬وبعد‭ ‬كل‭ ‬المآسي‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬الغرب‭ ‬الأوروبي،‭ ‬فقد‭ ‬اختفى‭ ‬ذلك‭ ‬الضحك‭ ‬الأبيض‭ ‬وظهر‭ ‬مكانه‭ ‬ضحك‭ ‬آخر‭ ‬أسود،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬جيل‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬المسرحيين‭ ‬الذين‭ ‬أطلق‭ ‬مارتن‭ ‬إيسلن‭ ‬على‭ ‬مسرحهم‭ ‬اسم‭ ‬مسرح‭ ‬العبث،‭ ‬وسماه‭ ‬غيره‭ ‬مسرح‭ ‬الطليعة،‭ ‬وسماه‭ ‬الباحثون‭ ‬والدارسون‭ ‬العرب‭ ‬مسرح اللامعقول‭.‬

وفي‭ ‬المسرح‭ ‬المصري‭ ‬تزدهر‭ ‬الكوميديا‭ ‬منذ‭ ‬الفصول‭ ‬المضحكة‭ ‬التي‭ ‬كتب‭ ‬عنها‭ ‬د‭. ‬علي‭ ‬الراعي‭ ‬ومنذ‭ ‬نجيب‭ ‬الريحاني‭ ‬وعلي‭ ‬الكسار‭ ‬وشرفنطح‭ ‬وماري‭ ‬منيب‭ ‬وزينات‭ ‬صدقي‭ ‬وحسن‭ ‬فايق‭ ‬وإسماعيل‭ ‬يس‭ ‬وعبدالسلام‭ ‬النابلسي‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثير،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬قبل‭ ‬زمن‭ ‬النكسة،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الضحك‭ ‬له‭ ‬علاقة‭ ‬بالرخاء‭ ‬وبالفرح‭ ‬وبالأمان‭ ‬وبالسلم‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬مواسم‭ ‬الضحك‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬مباشرة،‭ ‬وكانت‭ ‬ممثلة‭ ‬بفرق‭ ‬مسرحية‭ ‬تجوب‭ ‬البلاد‭ ‬شمالا‭ ‬وجنوبا‭ ‬وشرقا‭ ‬وغربا،‭ ‬وتنقل‭ ‬البهجة‭ ‬والفرحة‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬كافة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬وظهر‭ ‬ممثلون‭ ‬كبار‭ ‬يمتلكون‭ ‬روح‭ ‬النكتة‭ ‬الشعبية،‭ ‬ولهم‭ ‬قدرة‭ ‬كبيرة‭ ‬على‭ ‬الضحك‭ ‬والإضحاك،‭ ‬وعلى‭ ‬نقد‭ ‬المغرب‭ ‬القديم،‭ ‬وذلك‭ ‬بكل‭ ‬تقاليده‭ ‬القديمة‭ ‬والبالية‭ ‬والمتحفية،‭ ‬والتبشير‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬بالقيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬المعاصرة‭ ‬والجديدة،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬الكاتب‭ ‬والممثل‭ ‬الكبير‭ ‬أحمد‭ ‬الطيب‭ ‬العلج‭ ‬والممثلون‭ ‬أحمد‭ ‬العلوي‭ ‬وأحمد‭ ‬العماري‭ ‬وحمادي‭ ‬عمور‭ ‬والعربي‭ ‬الدغمي،‭ ‬كما‭ ‬ازدهر‭ ‬شكل‭ ‬مسرحي‭ ‬شعبي‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬وقريب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأشكال‭ ‬الاحتفالية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬الشعبية‭ ‬وفي‭ ‬الساحات‭ ‬العامة،‭ ‬مثل‭ ‬جامع‭ ‬الفنا،‭ ‬وفي‭ ‬المواسم‭ ‬الدينية‭ ‬السنوية،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬وراء‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬العصاميين‭ ‬ومن‭ ‬الموهوبين‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الإضحاك،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬بوشعيب‭ ‬البيضاوي‭ ‬والبشير‭ ‬العلج‭ ‬وأحمد‭ ‬القدميري‭ ‬والحبيب‭ ‬القدميري‭ ‬والصويري‭ ‬والمفضل‭ ‬الحريزي‭ ‬وعبدالجبار‭ ‬الوزير‭ ‬ومحمد‭ ‬بلقاس‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثير‭.‬

وقد‭ ‬أتت‭ ‬على‭ ‬المسرح‭ ‬العربي‭ ‬مواسم‭ ‬كثيرة‭ ‬عرف‭ ‬فيها‭ ‬غيابا‭ ‬ملحوظا‭ ‬للضحك‭ ‬الصادق‭ ‬والخالص‭ ‬والحقيقي،‭ ‬وشاع‭ ‬فيه‭ ‬الهم‭ ‬السياسي‭ ‬والنضالي،‭ ‬وعلت‭ ‬النبرة‭ ‬الاتهامية‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬تحريضي،‭ ‬وأصبح‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬بين‭ ‬حدّين‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يتحرر‭ ‬منهما،‭ ‬حد‭ ‬الخطابة‭ ‬عالية‭ ‬الصوت،‭ ‬وحد‭ ‬الغنائية‭ ‬الباكية،‭ ‬وقد‭ ‬زادت‭ ‬حدة‭ ‬هذه‭ ‬الخطابية‭ ‬وتلك‭ ‬الغنائية‭ ‬مع‭ ‬الجرح‭ ‬الفلسطيني‭ ‬النازف،‭ ‬وأصبح‭ ‬المسرحيّ‭ ‬العربيّ‭ ‬تفضحه‭ ‬قضيته،‭ ‬وتمنعه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يضحك‭ ‬ضحكا‭ ‬خالصا،‭ ‬وإذا‭ ‬حضر‭ ‬هذا‭ ‬الضحك،‭ ‬فإنه‭ ‬يصبح‭ ‬ضحكا‭ ‬ملوّنا،‭ ‬ويكون‭ ‬بكاء‭ ‬أو‭ ‬تباكيا‭ ‬على‭ ‬الذات‭ ‬العربية‭ ‬الجماعية‭ ‬وعلى‭ ‬حالها‭ ‬السياسي،‭ ‬ونتساءل‭ ‬الآن‭:‬

•‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬هل‭ ‬انتهت‭ ‬حقا؟

•‭ ‬هل‭ ‬دخلنا‭ ‬عهدا‭ ‬مسرحيا‭ ‬جديدا‭ ‬يقطع‭ ‬مع‭ ‬المرحلة‭ ‬الحزيرانية؟

•‭ ‬وهل‭ ‬من‭ ‬حقننا‭ ‬أن‭ ‬نؤسس‭ ‬لمرحلة‭ ‬أخرى‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬الضحك‭ ‬المسرحي‭ ‬العربي،‭ ‬مرحلة‭ ‬تكون‭ ‬أكثر‭ ‬واقعية‭ ‬وعقلانية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬المراحل‭ ‬الفطرية‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬المسرح‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬قبل؟

هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬وأخرى‭ ‬غيرها‭ ‬كثير،‭ ‬ننتظر‭ ‬أن‭ ‬يجيب‭ ‬عنها‭ ‬المسرح‭ ‬العربي‭ ‬مستقبلا،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬يتحرر‭ ‬من‭ ‬تقليد‭ ‬الجديد‭ ‬عند‭ ‬الآخرين،‭ ‬بدل‭ ‬تأسيسه‭ ‬وإنتاجه،‭ ‬وعندما‭ ‬يتحرر‭ ‬من‭ ‬التبعية‭ ‬ومن‭ ‬الشكلانية‭ ‬التي‭ ‬يقدمها‭ ‬المسرح‭ ‬التجريبي،‭ ‬حيث‭ ‬تغيب‭ ‬روح‭ ‬المسرح‭ ‬الحق،‭ ‬وتبقى‭ ‬الكلمة‭ ‬للأشكال‭ ‬والألوان‭ ‬والأضواء‭ ‬والحركات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬معنى‭ ‬أو‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يكون‭.‬

وعندما‭ ‬ألتقى‭ ‬صاحبي‭ ‬الممثل،‭ ‬في‭ ‬رحلتي‭ ‬الافتراضية‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي‭ ‬في‭ ‬‮«‬الرحلة‭ ‬البرشيدية‮»‬‭ ‬وأسأله‭:‬

–‭ ‬‮«‬وأنت‭ ‬يا‭ ‬صاحبي‭ ‬ماذا‭ ‬تختار؟‮»‬‭.‬

فإنني‭ ‬أجده‮ ‬‭ ‬يقول‭ ‬لي‭:‬

–‭ ‬‮«‬أنا؟‭ ‬أنا‭ ‬أختار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جاد‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬تجهّم،‭ ‬وأختار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إضحاك‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬إسفاف،‭ ‬وأختار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬طبيعي‭ ‬وواقعي،‭ ‬وأعرف‭ ‬أن‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬غناها،‭ ‬وأن‭ ‬أروع‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬شاعريته،‭ ‬وأختار‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬بسيط‭ ‬وسهل‭ ‬أيضا،‭ ‬وأعرف‭ ‬أن‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬البساطة‭ ‬صعوبتها‭ ‬الخفية،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬عليها‭ ‬إلا‭ ‬القادرون‭..‬‮»‬‭ ‬‭(‬الرحلة‭ ‬البرشيدية،‭ ‬رحلة‭ ‬افتراضية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬افتراضي،‭ ‬مخطوط‭)‬‭.‬

‮ ‬ثنائية‭ ‬المضحك‭ ‬المبكي

‮ ‬هي‭ ‬ثنائية‭ ‬أخرى‭ ‬صادفتني‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬مسرحي،‭ ‬وحضرت‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬حياتي،‭ ‬وهي‭ ‬ثنائية‭ ‬المضحك‭ ‬المبكي،‭ ‬وقد‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬دائما‭ ‬بين‭ ‬حدّين‭ ‬متقابلين‭ ‬ومتعارضين‭ ‬و‭(‬متناقضين‭)‬‭: ‬حد‭ ‬الفرح‭ ‬وحد‭ ‬الحزن،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬حدّ‭ ‬التراجيديا‭ ‬والكوميديا،‭ ‬ولقد‭ ‬تساءلت‭ ‬دائما‭.. ‬نعم،‭ ‬أنا‭ ‬الكاتب‭ ‬الباحث‭ ‬المفكر‭ ‬المسرحي‭ ‬تساءلت‭:‬

•‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أبدأ‭ ‬في‭ ‬فعل‭ ‬هذه‭ ‬الكتابة‭ ‬الحية؟

•‭ ‬وأيّ‭ ‬الحدين‭ ‬هو‭ ‬الصحيح‭ ‬والسليم،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬والحياة،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والإبداع،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬اليقظة‭ ‬والمنام؟

•‭ ‬وأيّ‭ ‬المسرحين‭ ‬هو‭ ‬الواقعي‭ ‬والحقيقي‭: ‬المسرح‭ ‬الكوميدي‭ ‬الضاحك،‭ ‬أم‭ ‬المسرح‭ ‬المأساوي‭ ‬الباكي؟‮ ‬‭ ‬المسرح‭ ‬الجاد‭ ‬لحد‭ ‬التجهّم،‭ ‬أم‭ ‬المسرح‭ ‬الفكاهي‭ ‬لحد‭ ‬الإسفاف‭ ‬والتهريج؟

•‭ ‬وهل‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية‭ ‬مأساة‭ ‬حقيقية‭ ‬أم‭ ‬إنها‭ ‬مجرد‭ ‬مهزلة‭ ‬وجودية؟

وكما‭ ‬كسرت‭ ‬ثنائية‭ ‬اليمين‭ ‬واليسار‭ ‬في‭ ‬وعيي‭ ‬السياسي،‭ ‬وكما‭ ‬تجاوزت‭ ‬ثنائية‭ ‬الدين‭ ‬والدولة‭ ‬في‭ ‬رؤيتي‭ ‬الفكرية،‭ ‬وكما‭ ‬قفزت‭ ‬على‭ ‬ثنائية‭ ‬التفاؤل‭ ‬والتشاؤم‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬الوجدانية،‭ ‬فقد‭ ‬راجعت‭ ‬ثنائية‭ ‬النحن‭ ‬والآخر‭ ‬أيضا،‭ ‬وراجعت‭ ‬ثنائية‭ ‬الهنا‭ ‬والهناك،‭ ‬وثنائية‭ ‬الأصيل‭ ‬والدخيل،‭ ‬وثنائية‭ ‬الواقعي‭ ‬والتاريخي،‭ ‬وثنائية‭ ‬الطبيعي‭ ‬والماورائي،‭ ‬وثنائية‭ ‬العامي‭ ‬والفصيح،‭ ‬وبذلك‭ ‬فقد‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أدري‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬أدري،‭ ‬أدمّر‭ ‬ثنائية‭ ‬المضحك‭ ‬والمبكي‭ ‬أيضا،‭ ‬ولقد‭ ‬جاء‭ ‬هذا‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬عقيدتي‭ ‬الإسلامية‭ ‬الموحدة‭ ‬أولا،‭ ‬ومن‭ ‬إيماني‭ ‬الصوفي‭ ‬بالحلول‭ ‬ثانيا،‭ ‬ومن‭ ‬قناعتي‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬أصدّق‭ ‬كل‭ ‬الأمور‭ ‬أسى‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يضحك‭ ‬ولا‭ ‬يبكي‮»‬‭ ‬ثالثا،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬الأساسي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬نحيا‭ ‬وكفى‭.. ‬نحيا‭ ‬بصدق‭ ‬وكفى‭.‬


لوحة: إسماعيل نصرة

وفي‭ ‬عالم‭ ‬هذا‭ ‬المسرح‭ ‬عشت‭ ‬دائما،‭ ‬وتعوّدت‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬أقيم‭ ‬الحدود‭ ‬والسدود‭ ‬بين‭ ‬المأسوي‭ ‬والملهاوي،‭ ‬وعلى‭ ‬ألا‭ ‬أضع‭ ‬الحرس‭ ‬والعسس‭ ‬بينهما،‭ ‬ولا‭ ‬يغريني‭ ‬اللعب‭ ‬بالتصنيفات‭ ‬والتفريعات‭ ‬المدرسية،‭ ‬فالمهم‭ ‬عندي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أحيا‭ ‬وأكتب،‭ ‬وأن‭ ‬أكتب‭ ‬وأحيا،‭ ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬تكتب‭ ‬أمّنا‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وكما‭ ‬تكتب‭ ‬الأيام‭ ‬والليالي،‭ ‬وكما‭ ‬يكتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬وهل‭ ‬الإبداع‭ ‬إلا‭ ‬التأريخ‭ ‬الوجداني‭ ‬لما‭ ‬أهمله‭ ‬التاريخ،‭ ‬ولما‭ ‬نسيه‭ ‬السادة‭ ‬المؤرخون؟

وأعترف‭ ‬أن‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬كتبته‭ ‬بالأمس،‭ ‬وأن‭ ‬كلّ‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬أكتبه‭ ‬اليوم،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬احتفاليات‭ ‬مسرحية‭ ‬وكفى،‭ ‬وأيّ‭ ‬نعت‭ ‬آخر‭ ‬لها‭ ‬غير‭ ‬هذا‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يعنيني،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الاحتفاليات‭ ‬الدرامية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتوقع‭ ‬حدوث‭ ‬أيّ‭ ‬شيء،‭ ‬وأن‭ ‬نسمع‭ ‬كلّ‭ ‬كلام،‭ ‬وأن‭ ‬تثير‭ ‬لدينا‭ ‬كل‭ ‬الحالات‭ ‬المختلفة‭ ‬والمتناقضة‭ ‬والمتضاربة‭ ‬والغامضة‭ ‬والمبهمة،‭ ‬فالحال‭ ‬أحادي‭ ‬البعد‭ ‬واللون‭ ‬ممنوع‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬الاحتفالية‭ ‬وفي‭ ‬الإبداع‭ ‬الاحتفالي،‭ ‬والرأي‭ ‬أحادي‭ ‬البعد‭ ‬لا‭ ‬مكان‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الاحتفالي‭ ‬أيضا،‭ ‬ولهذا‭ ‬يقول‭ ‬الحكواتي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الاحتفالية‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬المقامات‭ ‬البهلوانية‮»‬‭ ‬الكلمة‭ ‬التالية‭:‬

–‭ ‬‮«‬من‭ ‬حقك‭ ‬أن‭ ‬تفرح،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬مجال‭ ‬للفرح،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬حقك‭ ‬أن‭ ‬تحزن‭ ‬أيضا،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يدعو‭ ‬للحزن‭.. ‬الفرح‭ ‬هو‭ ‬الأصل‭ ‬يا‭ ‬صاحبي،‭ ‬والحزن‭ ‬حالة‭ ‬عابرة،‭ ‬فحاول‭ ‬ألا‭ ‬تسرقك‭ ‬الحالات‭ ‬العابرة‮»‬‭ ‬‭(‬عبدالكريم‭ ‬برشيد،‭ ‬الأعمال‭ ‬المسرحية‭ ‬الكاملة،‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة،‭ ‬الرباط،‭ ‬2009‭)‬‭.‬

وهذه‭ ‬الاحتفالية‭ ‬لا‭ ‬تمارس‭ ‬الإضحاك‭ ‬عن‭ ‬سابق‭ ‬قصد،‭ ‬وقديما‭ ‬قال‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬بلدي‭ ‬‮«‬الضحك‭ ‬بلا‭ ‬سبب‭ ‬من‭ ‬قلة‭ ‬الأدب‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬تستبعد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬اللقاء‭ ‬المسرحي‭ ‬جلسة‭ ‬للضحك‭ ‬الخالص،‭ ‬وهل‭ ‬هناك‭ ‬فعلا‭ ‬ضحك‭ ‬خالص؟

كما‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تؤمن،‭ ‬بأن‭ ‬مجرد‭ ‬إثارة‭ ‬الخوف‭ ‬والشفقة‭ ‬والرعب،‭ ‬في‭ ‬التراجيديا،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬معنى‭ ‬لدى‭ ‬المتلقي،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬ضيّعت‭ ‬فيه‭ ‬الأشياء‭ ‬والكلمات‭ ‬والعبارات‭ ‬والحالات‭ ‬بساطتها‭ ‬وشفافيتها،‭ ‬وأصبح‭ ‬للضحك‭ ‬أصناف‭ ‬وألوان‭ ‬وأصباغ‭ ‬بعدد‭ ‬لا‭ ‬يحصى،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬الضحك‭ ‬الأبيض،‭ ‬ومرورا‭ ‬بالضحك‭ ‬الأصفر،‭ ‬وانتهاء‭ ‬إلى‭ ‬الضحك‭ ‬الأسود‭.‬

يقول‭ ‬نفس‭ ‬ذلك‭ ‬الحكواتي،‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬ذلك‭ ‬الاحتفال‭ ‬المسرحي‭:‬

‮«‬اعلم‭ ‬يا‭ ‬صاحبي‭ ‬أن‭ ‬الضحك‭ ‬حربائي‭ ‬وزئبقي،‭ ‬فقد‭ ‬تراه‭ ‬أنت‭ ‬مدحا‭ ‬وهو‭ ‬هجاء،‭ ‬وقد‭ ‬تراه‭ ‬فرحا‭ ‬وهو‭ ‬بكاء،‭ ‬وقد‭ ‬تراه‭ ‬امتلاء‭ ‬وهو‭ ‬خواء،‭ ‬وقد‭ ‬يحسه‭ ‬الواهمون‭ ‬ضحكا‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬وهو‭ ‬ضحك‭ ‬عليهم‭.. ‬يضحكون‭ ‬ضحكا‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬بكاء‭ ‬أو‭ ‬يشبه‭ ‬البكاء‮»‬‭ ‬‭(‬الأعمال‭ ‬المسرحية‭ ‬الكاملة‭)‬‭.‬

إن‭ ‬الضحك‭ ‬الحقيقي‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬البكاء‭ ‬الصادق،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البكاء‭ ‬الذي‭ ‬يرتقي‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬الحزن‭ ‬وأقصاها،‭ ‬والذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬حدّه،‭ ‬لينقلب‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ضدّه،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬وجهه‭ ‬الثاني،‭ ‬أي‭ ‬إلى‭ ‬الضحك‭ ‬العاقل‭ ‬والمتأمل‭ ‬والمتفلسف،‭ ‬هذا‭ ‬الضحك‭ ‬العاقل‭ ‬تمثله‭ ‬السخرية‭ ‬دائما،‭ ‬وهي‭ ‬موجودة‭ ‬عند‭ ‬كبار‭ ‬المفكرين‭ ‬والمبدعين‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬تصرفهم‭ ‬العيوب‭ ‬الجسدية‭ ‬والاختلالات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬عن‭ ‬القبض‭ ‬عن‭ ‬المفارقات‭ ‬الوجودية‭ ‬الكبرى،‭ ‬والذين‭ ‬يرتقون‭ ‬بالسؤال‭ ‬الصغير‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬المسألة‭ ‬الكبرى،‭ ‬ولهذا،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬الحكواتي‭ ‬الاحتفالي‭ ‬‮«‬كن‭ ‬متفائلا‭ ‬لحدّ‭ ‬التشاؤم،‭ ‬وكن‭ ‬متشائما‭ ‬لحدّ‭ ‬التفاؤل،‭ ‬واضحك‭ ‬لحدّ‭ ‬البكاء،‭ ‬وابك‭ ‬لحدّ‭ ‬الضحك،‭ ‬وادفع‭ ‬بكل‭ ‬الحالات‭ ‬إلى‭ ‬أقصاها‭ ‬وأعلاها،‭ ‬وفي‭ ‬أقصى‭ ‬أيّ‭ ‬حالة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تجد‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬يخالفها‭ ‬ويناقضها‮»‬‭ ‬‭(‬الأعمال‭ ‬المسرحية‭ ‬الكاملة‭)‬‭.‬

في‭ ‬زمن‭ ‬من‭ ‬الأزمان،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬المهرج‭ ‬التقليدي‭ ‬القديم‭ ‬يسعى‭ ‬لإضحاك‭ ‬ذلك‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬كان،‭ ‬وكان‭ ‬لذلك‭ ‬المهرج‭ ‬بذلته‭ ‬الغريبة‭ ‬والعجيبة،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬حذاء‭ ‬كبير‭ ‬عملاق،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬أنف‭ ‬منتفخ‭ ‬أحمر،‭ ‬وكانت‭ ‬له‭ ‬مقالبه‭ ‬وشقلباته‭ ‬وشطحاته‭ ‬البهلوانية،‭ ‬وفي‭ ‬السينما‭ ‬الصامتة‭ ‬أيضا،‭ ‬كانت‭ ‬لشارلي‭ ‬شابلن‭ ‬قامته‭ ‬القصيرة‭ ‬بين‭ ‬العمالقة،‭ ‬وكانت‭ ‬له‭ ‬بذلته‭ ‬وطربوشه،‭ ‬وكان‭ ‬له‭ ‬عكازه‭ ‬ومشيته‭ ‬الغريبة،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬ضحكه‭ ‬فيلسوفا،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬فلسفته‭ ‬ضاحكا،‭ ‬وكان‭ ‬حكيما،‭ ‬وكان‭ ‬مقنعا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مغامراته‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬خصوماته‭ ‬التي‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬التكافؤ‭ ‬وإلى‭ ‬المنطق،‭ ‬وكان‭ ‬جمهوره،‭ ‬ولا‭ ‬يزال،‭ ‬مقتنعا‭ ‬بما‭ ‬يقدم‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬مفارقات‭ ‬بريئة‭ ‬ومضحكة،‭ ‬ذلك‭ ‬المهرج‭ ‬إذن،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬صورته‭ ‬‮«‬السيركية‮»‬‭ ‬أو‭ ‬السينمائية،‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬ضحكا‭ ‬خالصا،‭ ‬وكان‭ ‬الحزن‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يشكّل‭ ‬عمق‭ ‬الصورة‭ ‬في‭ ‬حركته‭ ‬وكلامه‭ ‬وفي‭ ‬حياته‭ ‬دائما،‭ ‬وقد‭ ‬يبكي‭ ‬هذا‭ ‬المهرج‭ ‬في‭ ‬ضحكه‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬ندري،‭ ‬وقد‭ ‬ننخدع‭ ‬بأصباغ‭ ‬الوجه،‭ ‬وتلهينا‭ ‬عن‭ ‬ألوان‭ ‬الداخل‭ ‬الخفية،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬الأصدق‭ ‬دائما،‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬ذلك‭ ‬الاحتفال‭ ‬المسرحي‭ ‬دائما،‭ ‬والذي‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬مقامات‭ ‬بهلوانية‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬ختام‭ ‬احتفالية‭ ‬السيرك‭ ‬اليومية،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أدّى‭ ‬المهرج‭ ‬نمرته،‭ ‬وأضحك‭ ‬كل‭ ‬الأطفال،‭ ‬نجده‭ ‬ينسحب‭ ‬إلى‭ ‬مقصورته‭ ‬تشيّعه‭ ‬ضحكات‭ ‬الأطفال‭ ‬البريئة،‭ ‬وعندما‭ ‬ندخل‭ ‬خلفه‭ ‬خلسة،‭ ‬نفاجأ‭ ‬إذ‭ ‬نراه‭ ‬جالسا‭ ‬إلى‭ ‬مرآته‭ ‬وهو‭ ‬يبكي‭.. ‬يبكي‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬ألم‭ ‬المرض،‭ ‬وعندما‭ ‬يسأل‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬يقول‭:‬

–‭ ‬‮«‬إنني‭ ‬أبكي‭ ‬يا‭ ‬ولدي‭.. ‬فرحا‭ ‬أبكي،‭ ‬ودموع‭ ‬الفرح‭ ‬أصدق‭ ‬الدموع‭ ‬وأنبل‭ ‬كل‭ ‬الدموع‮»‬‭ ‬‭(‬الأعمال‭ ‬المسرحية‭ ‬الكاملة‭)‬‭.‬

وآخر‭ ‬الكلام،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفقرة‭ ‬من‭ ‬الكلام،‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الطرق‭ ‬تلتقي‭ ‬عند‭ ‬ملتقى‭ ‬الطرق،‭ ‬وأنها‭ ‬كلها‭ ‬تفترق‭ ‬عند‭ ‬مفترق‭ ‬الطرق‭ ‬أيضا،‭ ‬والملتقى‭ ‬والمفترق‭ ‬هما‭ ‬معا‭ ‬نفس‭ ‬النقطة،‭ ‬ونحن‭ ‬ننطلق‭ ‬منها‭ ‬ونعود‭ ‬إليها،‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬ندري،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬ندري،‭ ‬وتتعدد‭ ‬الأسماء‭ ‬في‭ ‬كلامنا‭ ‬وفي‭ ‬كتاباتنا‭ ‬والمسمى‭ ‬دائما‭ ‬واحد‭ ‬أوحد،‭ ‬مما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬نختلف‭ ‬عليه،‭ ‬هو‭ ‬نفس‭ ‬ما‭ ‬نتفق‭ ‬عليه‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬اليوم،‭ ‬يلتقي‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بأيّ‭ ‬شيء،‭ ‬يلتقي‭ ‬المضحك‭ ‬والمبكي،‭ ‬نعم،‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوجه‭ ‬وفي‭ ‬نفس‭ ‬العين‭ ‬يلتقيان،‭ ‬وأمام‭ ‬نفس‭ ‬المشاهد‭ ‬المرعبة‭ ‬والقاسية‭ ‬والمجنونة‭ ‬يلتقيان،‭ ‬فهل‭ ‬نضحك‭ ‬أم‭ ‬نبكي،‭ ‬أم‭ ‬نضحك‭ ‬ضحكا‭ ‬كالبكاء‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الحكيم‭ ‬المتنبي؟

‮ ‬حدود‭ ‬المأساة‭ ‬والملهاة

‮‬بين‭ ‬المأساوي‭ ‬والملهاوي‭ ‬شعرة‭ ‬رقيقة‭ ‬ودقيقة‭ ‬جدا،‭ ‬فوراء‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منها‭ ‬حالة‭ ‬مختلفة‭ ‬ومخالفة،‭ ‬والمرور‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬نفسية‭ ‬ووجدانية‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬الصعب،‭ ‬سواء‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الكاتب‭ ‬أو‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الممثل‭ ‬أو‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المخرج‭ ‬أو‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المتلقي‭ ‬أو‭ ‬المتلاقي‭ ‬في‭ ‬الاحتفال‭ ‬المسرحي،‭ ‬فهم‭ ‬جميعهم‭ ‬يعيشون‭ ‬العمر‭ ‬المسرحي‭ ‬باعتباره‭ ‬ديوانا‭ ‬واحدا‭ ‬موحّدا،‭ ‬وباعتباره‭ ‬مأدبة‭ ‬حسية‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬كلّ‭ ‬الحواس،‭ ‬ومفتوحة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الحالات‭ ‬والمقامات،‭ ‬ومفتوحة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الممكنات‭ ‬والاحتمالات،‭ ‬وكل‭ ‬العناصر‭ ‬متفاعلة‭ ‬ومتغيرة‭ ‬ومتحوّلة‭ ‬ومتجدّدة‭ ‬في‭ ‬كيمياء‭ ‬الاحتفال‭ ‬المسرحي،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬ثابت‭ ‬فيه‭ ‬إلا‭ ‬مساره‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يشبه‭ ‬مسار‭ ‬النهر‭ ‬المتدفق‭ ‬مياها‭ ‬لا‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬التجدد‭ ‬أبدا‭.‬

شيء‭ ‬مؤكد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يحزن‭ ‬اليوم‭ ‬قد‭ ‬يضحك‭ ‬غدا،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬يضحك‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يضحك‭ ‬ذاك،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يُسعد‭ ‬هنا‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يُسعد‭ ‬هناك،‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬نسبي‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الناس‭ ‬وفي‭ ‬عالم‭ ‬المسرح‭ ‬المتحرك،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتوقف‭ ‬لحظة‭ ‬عن‭ ‬الحركة،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬مؤكد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الضحك‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يسبق‭ ‬دائما،‭ ‬وأن‭ ‬فعل‭ ‬البكاء‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬الفرح‭ ‬مداه،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬يبلغ‭ ‬أعلى‭ ‬درجة‭ ‬فيه،‭ ‬وكأنه‭ ‬بذلك‭ ‬يستجيب‭ ‬للمثل‭ ‬ـ‭ ‬القاعدة‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬حدّه‭ ‬ينقلب‭ ‬إلى‭ ‬ضدّه‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬عادة‭ ‬الإنسان‭ ‬المغربي،‭ ‬مثلا،‭ ‬عندما‭ ‬يكثر‭ ‬من‭ ‬الضحك،‭ ‬أن‭ ‬ينتابه‭ ‬فجأة‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬والقلق،‭ ‬وبذلك‭ ‬نسمعه‭ ‬يردد‭ ‬لازمة‭ ‬‮«‬اللهم‭ ‬اجعل‭ ‬ختام‭ ‬هذا‭ ‬الضحك‭ ‬خيرا‮»‬‭.‬

وعليه،‭ ‬فإنني‭ ‬أرى‭ ‬من‭ ‬البلادة‭ ‬أن‭ ‬ينعت‭ ‬كاتب‭ ‬مسرحية‭ ‬من‭ ‬مسرحياته،‭ ‬وأن‭ ‬يكتب‭ ‬على‭ ‬غلافها‭ ‬بأنها‭ ‬كوميديا‭ ‬أو‭ ‬تراجيديا‭ ‬أو‭ ‬تراجيكوميديا،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الفعل،‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬حدوثه،‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬مصادرة‭ ‬صريحة‭ ‬لحق‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬نصه‭ ‬كما‭ ‬يشاء‭ ‬هو،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬تشاء‭ ‬له‭ ‬ثقافته‭ ‬أو‭ ‬حضارته،‭ ‬وكما‭ ‬تشاء‭ ‬له‭ ‬شروطه‭ ‬وظروفه‭ ‬الخاصة،‭ ‬ومثل‭ ‬هذا‭ ‬الفعل‭ ‬دائما،‭ ‬هو‭ ‬وصاية‭ ‬على‭ ‬جهاز‭ ‬التلقّي‭ ‬لدى‭ ‬المتلقّي،‭ ‬وهو‭ ‬إلغاء‭ ‬لحرية‭ ‬القراءة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الوجه‭ ‬الثاني‭ ‬لحرية‭ ‬المبدع،‭ ‬وتصل‭ ‬هذه‭ ‬المصادرة‭ ‬أقصاها‭ ‬عندما‭ ‬ترفع‭ ‬بعض‭ ‬المسرحيات‭ ‬التجارية‭ ‬الشعار‭ ‬التالي‭ ‬‮«‬ثلاث‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬الضحك‭ ‬المتواصل‮»‬‭ ‬وكأنها‭ ‬بهذا‭ ‬تصدر‭ ‬فرمانا‭ ‬يلزم‭ ‬الجمهور‭ ‬بأن‭ ‬يضحك‭ ‬عددا‭ ‬معينا‭ ‬من‭ ‬الساعات،‭ ‬أو،‭ ‬ربما،‭ ‬عددا‭ ‬معينا‭ ‬من‭ ‬الضحكات‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.