معضلة المفكرين العرب مع الغرب
الحوار الذي نشرته مجلة الجديد اللندنية في 01/08/2016 مع صادق جلال العظم يعيد مرة أخرى إلى الواجهة معضلة تصوراتنا عن الغرب. هنا كلمة «الاستغراب» تمثل المقابل لكلمة الاستشراق، واقترحها بديلا لـ»الاستشراق معكوسا» التي يقترحها الأستاذ العظم في حواره مع «الجديد»، ولو كانت تتضمن التباسا مع الغربة وما تستدعيه من حالة وحشة. بيت القصيد في مقالي هنا هو أن الملاحظات اللاذعة التي سجلها الأستاذ العظم حول رؤية المفكرين العرب (بمن فيهم إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق») لـ»الغرب» تنطبق عليه أكثر من سواه. الأمر، في هذا السياق، لا يتوقف على القصور الشديد في فهم «الغرب» وما ينسحب على ذلك من خلط وتشويش بل يتعداه ليشمل أيضا فقر الأدوات المعرفية الدقيقة للتوصيف الدقيق ورصد المتغيرات وربطها بعلاقات محددة من أجل الوصول إلى نتائج صائبة.
إن من بين أبرز الأخطاء التي وقع فيها العظم في حواره، وهو خلاصة لأفكاره على مدى عقود، يمكن، على نحو عام، أن يضعها المرء في ثلاثة حقول: الوقوع تحت تأثير الصدمة وتبعاتها، المبالغة في تقدير الاختصاص، والخلط في المفاهيم، ولا سيما الحداثة والتحديث.
في ما يتعلق بالحقل الأول، يلاحظ القارئ لحوار صادق جلال العظم أنه كرر غير مرة أن مرارة الهزيمة الفادحة لحرب 1967 دفعته إلى تغيير مسار حياته الأكاديمية من دراسة الفلسفة الغربية إلى تفحص الأسباب التي سببت هذه الهزيمة. وعلى الرغم من أن العظم لم يكن غريبا عن الأوضاع العربية، كما قال، فإن هذه الحرب جعلته ينظر إلى الواقع العربي نظرة مختلفة بالكلية.
شدة الصدمة وقسوة النقد وتغيير المسار الأكاديمي تدفع المرء إلى تأمل آراء العظم بحذر. فحتى لو سلمنا بصواب آرائه تبقى هذه الآراء في جانب كبير منها رد فعل أكثر منها استقراء سليما ومتزنا للظواهر قيد الدرس. وإذا كان العظم يؤشر إلى غياب المقدمات الصحيحة والتراكم المعرفي الذي يتيح إنتاج فلسفة محكمة، فإن الأمر ينطبق عليه ولا سيما في ظل قسوة الهزيمة ومرارتها. لقد أشّر بشجاعة إلى شطط العرب في التعامل مع واقعهم بتجاهلهم وتصوراتهم الكليلة، ولكنه هو أيضا اشتط في رد فعله في بيئة مأزومة ومشحونة. اندفاع العظم وتقريعه العرب بسبب عدم عقلانيتهم هو أمر يفتقد للعقلانية بحد ذاته. لهذا الأمر تجلياته التي ستظهر في بقية الحقول التي بوّبت بها أبرز ثغرات تفكيره.
ثانيا؛ لقد بالغ صادق جلال العظم في تقدير أهمية اختصاصه. لا الفلسفة التي انشغل بها -ولا أيّ فرع من فروع المعرفة- قادرة وحدها على النهوض بأمّة أو شلّها. من المؤسف، أن الفلسفة بدت في كلامه حلا سحريا لو أخذ به العرب سينتقلون إلى واقع جديد مليء بالتقدم والسعادة. وعلى الرغم من أن مفهوم الفلسفة ليس جليا في كلامه، فإن المرء يستنتج أنه يقصد بها الفكر النقدي الذي يتفحص الظواهر بعقلانية وهدوء وانضباط ودقة، وهو الأمر الذي لا يفعله هو على أيّ حال. ومع ذلك، لا يبدو أن الفكر النقدي هو الذي أحدث أيّ قفزة اقتصادية معاصرة في أيّ دولة ممّن كانت ذات أحوال قريبة من الدول العربية منذ القرن الماضي وحتى يوم الناس هذا. أما إذا كانت الفلسفة متّصلة بأقسام الفلسفة في الأكاديميات التي انتقد العظم ضعفها، فحال هذه الأقسام ليست أفضل من نظيراتها في غير بلد غربي حيث بدأت تقفل أبوابها بسبب قلة حاجة سوق العمل لها. لا شك أن الفلسفة سواء كانت مجموعة مناهج التفكير النقدي أم مؤسسات أكاديمية تمتع بأهمية كبيرة ولكن ضمن سياقات محدّدة في مجمل الدول الغربية، وهذه السياقات لم يتطرق إليها العظم بل أطلق الكلام على عواهنه.
ثالثا؛ من أهمّ أوجه الخلط في كلام صادق جلال العظم -وهو خلط متعدد ومتشابك- هو اختلاط مفهومي الحداثة والتحديث حين يتحدث عن الغرب الذي فاته تحديد مفهومه رغم أنّه انتقد غيره لأنّهم لم يحددوه.
سأحاول هنا أن أحدد الغرب على نحو عام مسرف في العمومية لما في ذلك من أهمية في هذا المقال. جغرافيا؛ الغرب لا يتعدى أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وربما كندا. أي الدول الغربية الصناعية. سيكون مضحكا مثلا لو اعتبرنا أميركا اللاتينية من «الغرب». وتاريخيا؛ منذ الثورة الصناعية وحتى الآن أوروبا عصر النهضة كانت في طور التشكل ومنهمكة في نفسها وقليلة التأثير فينا ولا تشمل كل الغرب (الولايات المتحدة). أما أوروبا الحروب الصليبية فهي تمثل وجها بدائيا جدا لأوروبا. إذن الغرب التاريخي هو الغرب الصناعي والإمبريالي. مفهوم الغرب، من ثم، جغرافيا وتاريخيا مرتبط بالصناعة وليس الفكر! قد يرد بعضهم ساخرا «ولكن الصناعة ليست سوى أحد مظاهر التفكير». حقا؟ إلى أيّ مدى هذا التصور يصدق على الواقع؟
الواقع إن للغرب منبعين فكريين أساسيين: المسيحية، والفلسفة الإغريقية، وكلاهما شرق أوسطي، ولكن العبرة ها هنا في الطريقة التي شكّل الغرب بها نفسه وهو يستقي من هذين المنبعين. هذه الطريقة خلقت غربا متنوعا ومتنافسا وغير متجانس تسبب بالحربين الكونيتين اللتين خلّفتا دمارا لم تشهد له البشرية مثيلا. قد يقول بعضهم إنه ومع تعدد الغرب، يمكن المرء أن يضع خطوطا عامة طبعته. ولكن شدة الاختلاف بين الدول الغربية على مستويات متعددة تدفعنا إلى اتخاذ وجهة نظر تقف على النقيض: الاختلاف مستحكم لدرجة أنه يشكل إحدى خواص الغرب، ولا سيما حين يتصل الأمر بالعلاقة بين الدين والمجتمع والدولة التي شغلت العظم كثيرا.
نأخذ معنا شدة الاختلاف بين الدول الغربية ونحن ننظر إلى الطريقة التي بنى بها الغرب صرح نهضته على أساسي المسيحية والفلسفة الإغريقية لنجد أن له مسارين في هذا الصدد:
المسار الأول هو التحديث وهو ما طبع تطور أوروبا بالدرجة الأساس. أعني بالتحديث الصناعة والأدوات المادية للحضارة بكل تفاصيلها. ما مهّد لهذا التحديث هو الحروب الدينية التي قادت إلى صلح وستفاليا في منتصف القرن السابع عشر الذي أفضى -من دون أن ينص صراحة- إلى فصل الدين عن الدولة. هذه الحروب اندلعت بسبب انتشار البروتستانتية التي كان من عوامل نشأتها ظهور الطباعة بوصفها نتيجة لجهد صناعي بحت. مثلما هو واضح، لا أثر للفلسفة ها هنا. الصراع قائم على أساس المصالح والعقائد مع ارتباط الصناعة بالجيوش وردود الفعل على أحداث تتوالى. فلاسفة مثل كانط وهيغل جاؤوا بفضل هذه الأحداث وبسبب من المجال المفتوح الذي ولدّه فصل الدين عن الدولة وليس العكس. واللافت أن هذين الفيلسوفين اللذين ذكرهما العظم هما فيلسوفان مثاليان ارتبطا بشكل أو بآخر بالبرج العاجي للأكاديميات وليس الواقع وحوادثه المجلجلة..
يلوم أتاتورك تارة لأنه لم يكن رائد حداثة ثم يمدحه لأنه بقوة التحديث قاد بلده للحداثة. والواقع أن التشخيص برمته غير دقيق. صياغة وصفة عامة للتطور تؤدي إلى التكلس الفكري والانغلاق
أما المسار الآخر فمن المفيد أن نستهل الحديث عنه بقول مارغريت تاتشر «أوروبا صنعها التاريخ وأميركا صنعتها الفلسفة». وهذا بالفعل كلام دقيق. هنا يبرز إسهام الفلسفة بوصفها -في هذا السياق تحديدا- أفكار الحداثة التي استلتها الولايات المتحدة من أوروبا. ولكن هذا لا يعدو في الحقيقة عن أفكار فيلسوف واحد هو جون لوك الذي يجد المتتبع أفكاره وحتى عباراته واضحة جدا في وثيقة الاستقلال بالدرجة الأساس وبالدستور الأميركي بشكل أقل. الإيمان بهذه الأفكار صاغ أميركا ورسّخ لديها حق الملكية ووضع اليد على الملك المشاع والحرية الفردية، وكلها مما دعا إليه لوك. ومع ذلك أسهم التحديث في الحفاظ على وحدة أميركا فلولا تركز القوة الصناعية في الشمال لنجح الجنوب الذي اعتمد أكثر على الزراعة بالانفصال أثناء الحرب الأهلية.
ما تقدّم في الحديث عن الغرب ليس سرّا بل معلومات متاحة للجميع في متون كثير من المصادر ويدرسها طلاب الثانويات والجامعات بشكل أو بآخر. ومع ذلك، يندهش المرء من أن مفكرين «كبارا» يغفلون عنها ويتخبطون في تصورات مغلوطة نتيجة قراءات خاطئة. ولذلك، يجدهم المرء مشوشين في آرائهم ويخلطون بين العوامل ولا يفرقون بين ما هو تاريخي وفلسفي ويبالغون في أهمية عامل على حساب عوامل أخرى. من ذلك ما ذكره العظم بشأن أتاتورك فتراه يذمه «فهذا الأخير حاول بدافع مركّب نقص محاكاة النمط الغربي بكل مواصفاته. لاحظت أن الشرق بدوره سينتج نفس الصورة الخاطئة والمشوّهة للغرب» ثم يمدحه بعد ذلك «فهو قد تمكن من أن يبدأ ويفتح سيرورات مستمرة منذ ثمانين سنة إلى يومنا هذا، وعمله هذا حفر في عمق الثقافة والمجتمع التركي الإسلامي المهيمن منذ قرون. فقد استطاع هذا القائد أن يغير من مسار هذا المجتمع بقوة الإرادة السياسية التي تبنّاها».
إن سر هذا التخبط هو عدم التفريق بين الحداثة والتحديث، فالأستاذ العظم يلوم أتاتورك تارة لأنه لم يكن رائد حداثة ثم يمدحه لأنه بقوة التحديث قاد بلده للحداثة. والواقع أن التشخيص برمته غير دقيق. صياغة وصفة عامة للتطور تؤدي إلى التكلس الفكري والانغلاق. ومثلما مرّ ذكره في حالتي أوروبا وأميركا، فقد صاغ طرفا الغرب على ضفاف الأطلسي طريقين مختلفين للتطوير. لو رأينا التطور في اليابان وكوريا الجنوبية، وحديثا في الصين، فإنه يرجح كفة التحديث، وهكذا الحال مع النمور الآسيوية والهند وتركيا. في كثير من هذه الحالات، يحافظ البلد على شيء من تراثه وينطلق مع التحديث ويغيّر نمط حياته ويتبنّى الرأسمالية من أجل الوصول إلى الرفاهية والمدنية. إن تحديد نمط معين للتطوير وجلد الآخرين لأنهم لم يتخذوه وإحالة كل فشلهم إلى الانحراف عن هذا النمط لهو أمر يستدعي الدهشة. فكل بلد مرهون بظروفه وفتح كل السبل أمامه لشق طريقه أفضل من حصره بقالب يظل عادة مبهما في ذهن المفكرين. إن الواقع وتشعّباته وارتباط التحديث بالحداثة بأشكال مختلفة يحتّم على المرء أن يترك الآفاق مفتوحة أمام الجميع ولا سيما مع طبيعة العصر التي جعلت العالم قرية صغيرة حافلة بالتأثر والتأثير.
في حوار العظم كثير ممّا يستدعي النقاش والردّ ولكن التركيز منذ البداية جرى على مفهوم الغرب عنده، وهذا ما يعني هذا المقال بصورة جوهرية. إن الغرب ليس طلّسما ولا عالما مسحورا بل إن واحدا من أهم مظاهر الغرب هو أنه ليس كذلك. ليس الغرب واحدا وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يكشف أنه لا يسير بخطى ثابتة نحو الاندماج. الغرب له نقاط نيّرة وأخرى مظلمة وتلفّه التحديات مثل غيره. في الغرب من المفكرين مستغلقي الذهن أكثر من أيّ منطقة بالعالم وفيه قدرة على نقد الذات تستحق التقدير العالي. ليس المطلوب أن نقلد الغرب أو ألاّ نقلده؛ المطلوب أن نتحرر من تصوراتنا الغريبة عن الغرب، وأن نفيد من تجربته وتجربة سواه ونحن نشق طريقنا بالوسائل التي تلائمنا نحو ما هو أفضل.