غياب‭ ‬الفلسفة

السبت 2016/10/01
لوحة: فاضلابي

تعود‭ ‬علاقتي‭ ‬بكتابات‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬حيث‭ ‬قرأت‭ ‬معظم‭ ‬كتبه‭ ‬منها‭ ‬نقد‭ ‬الفكر‭ ‬الديني،‭ ‬الاستشراق‭ ‬والاستشراق‭ ‬معكوسا‭ ‬،‭ ‬ودفاعا‭ ‬عن‭ ‬المادية‭ ‬التاريخية‭ ‬،‭ ‬وفي‭ ‬الحب‭ ‬والحب‭ ‬العذري،‭ ‬والصهيونية‭ ‬والصراع‭ ‬الطبقي،‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬ذهنية‭ ‬التحريم،‭ ‬وكذلك‭ ‬كتابه‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الذاتي‭ ‬للهزيمة،‭ ‬وأصول‭ ‬مجادلات‭ ‬كانط‭ ‬في‭ ‬المتناقضات‭ ‬الصادر‭ ‬باللغة‭ ‬الإنكليزية‭ ‬عن‭ ‬منشورات‭ ‬جامعة‭ ‬أكسفورد‭ ‬البريطانية‭ ‬والذي‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬المراجع‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬الدراسات‭ ‬الكانطية‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬والكتب‭ ‬الأخرى‭.‬

يبدو ‭ ‬واضحا‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬اليسار‭ ‬الفكري‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬تميزه‭ ‬‮ ‬بالنزعة‭ ‬النقدية‭. ‬لقد‭ ‬سعدت‭ ‬كثيرا‭ ‬بقراءة‭ ‬حوار‭ ‬الدكتور‭ ‬العظم‭ ‬مع‭ ‬‮«‬مجلة‭ ‬الجديد‮»‬‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الحوارات‭ ‬الجدية‭ ‬هو‭ ‬بمثابة‭ ‬نشاط‭ ‬فكري‭ ‬مهم‭ ‬كفيل‭ ‬بإثارة‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬أمهات‭ ‬القضايا‭ ‬الفكرية‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬بالواقع‭ ‬العربي‭ ‬وبمشكلات‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭ ‬مهما‭ ‬اختلفنا‭ ‬مع‭ ‬صاحب‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الموقف‮ ‬‭ ‬النظري‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬التشخيص‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الأحكام‭ ‬التي‭ ‬يصدرها‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬الذي‭ ‬نشرته‭ ‬له‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬الجديد‮»‬‭ ‬في‭ ‬عددها‭ ‬الـ19‭ ‬شبه‭ ‬خلاصة‭ ‬موجزة‭ ‬جدا‭ ‬عن‭ ‬رحلته‭ ‬النقدية،‭ ‬وهي‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬لا‭ ‬تغني‭ ‬عن‭ ‬‮ ‬دراسة‭ ‬إنتاجه‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭ ‬النقدي‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬يتطلب‭ ‬مساحة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬مقال‭ ‬له‭ ‬صفة‭ ‬التعليق‭ ‬على‭ ‬حوار‭. ‬نظرا‭ ‬لكثرة‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬يعالجها‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬سأتوقف‭ ‬فقط‭ ‬عند‭ ‬أربع‭ ‬مسائل‭ ‬أثارت‭ ‬انتباهي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرها‭ ‬وهي‭ : ‬

1- ‬قضية‭ ‬الإطار‭ ‬الفكري‭ ‬والأدبي‭ ‬العربي‭ ‬الذي‭ ‬يعتقد‭ ‬الدكتور‭ ‬العظم‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬متوفر‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬بما‭ ‬يؤهله‭ ‬لأن‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬التكريم‭ ‬الغربي،‭ ‬وجراء‭ ‬ذلك‭ ‬فإنه‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬منح‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للروائي‭ ‬المصري‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬هو‭ ‬تكريم‭ ‬لشخص‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬نفسه‭ ‬فقط‭ ‬وليس‭ ‬للرواية‭ ‬العربية‭. ‬ويفهم‭ ‬‮ ‬من‭ ‬الدواعي‭ ‬التي‭ ‬يسوقها‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬بصيغة‭ ‬الجمع‭ ‬لا‭ ‬ترقى‭ ‬إلى‭ ‬العالمية‭ ‬شأن‭ ‬الجنس‭ ‬الروائي‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬اللاتينية‭ ‬الذي‭ ‬يقدمه‭ ‬كنموذج‭ ‬لتبرير‭ ‬حججه‭. ‬بناء‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الفرضيات‭ ‬التي‭ ‬يسوقها‭ ‬فإنه‭ ‬يرى‭ ‬أن‮ ‬‭ ‬تكريمه‭ ‬مؤخرا‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الحكومة‭ ‬الألمانية‭ ‬ومنحه‭ ‬وسام‭ ‬الشاعر‭ ‬الألماني‭ ‬غوته‭ ‬هو‭ ‬تكريم‭ ‬شخصي‭ ‬له‭ ‬فقط‭ ‬وليس‭ ‬اعترافا‭ ‬بالإطار‭ ‬الفكري‭ ‬العربي،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬ذاته‭ ‬يفصل‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬وهذا‭ ‬غير‭ ‬مبرر‭ ‬بأي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬الأشكال‭ . ‬

2- ‬موقفه‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الاستشراق‭ ‬للناقد‭ ‬المفكر‭ ‬الراحل‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬ومن‭ ‬مكانة‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬الفكر‭ ‬العالمي‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭. ‬

3- ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬‮ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬حول‭ ‬مساره‭ ‬الخاص‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬الفلسفة‭ ‬،‭ ‬وحول‭ ‬واقع‭ ‬‮ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬حيث‭ ‬نجده‭ ‬يصدر‭ ‬أحكام‭ ‬قيمة‭ ‬تنتمي‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬في‭ ‬تقديرنا‭ ‬إلى‭ ‬النزعة‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الفلسفة‭ ‬ككل‭ ‬وكذا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بتقييمه‭ ‬للوضع‭ ‬الفلسفي‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭ ‬كما‭ ‬سنبين‭ ‬لاحقا‭.‬

أبدأ‭ ‬الآن‭ ‬بمناقشة‭ ‬مسألة‭ ‬الإطار‭ ‬الفكري‭ ‬السابق‭ ‬ذكره‭. ‬مما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬الموهبة‭ ‬الفردية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬جنس‭ ‬فكري‭ ‬أو‭ ‬أدبي‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬أو‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬مرتبطة‭ ‬بواقع‭ ‬الأمة‭ ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬إليها‭ ‬هذه‭ ‬الموهبة‭ ‬‮ ‬والعصر‭ ‬الذي‭ ‬تعيش‭ ‬فيه‭ ‬معا‭. ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬‮ ‬صنع‭ ‬مفكر‭ ‬أو‭ ‬فيلسوف‭ ‬أو‭ ‬شاعر‭ ‬أو‭ ‬روائي‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬ثقافة‭ ‬المجمَع‭ ‬الروحي‭ ‬والحضاري‭ ‬الكلي‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه‭ ‬شخصيا‭ ‬ونبت‭ ‬في‭ ‬تربته‭ ‬،‭ ‬أما‭ ‬الروافد‭ ‬الفكرية‭ ‬والفنية‭ ‬التي‭ ‬تتجمع‭ ‬لديه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عمليات‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬التجارب‭ ‬الثقافية‭ ‬والفكرية‭ ‬والروحية‭ ‬والحضارية‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬فليست‭ ‬مجرد‭ ‬استيراد‭ ‬عشوائي‭ ‬أو‭ ‬حلية‭ ‬يمكن‭ ‬استيرادها‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬نتاج‮ ‬‭ ‬حاجة‭ ‬اجتماعية‭ ‬وتاريخية‭ ‬وحضارية‭ ‬لدى‭ ‬هذا‭ ‬المفكر‭ ‬أو‭ ‬الأديب‭ ‬الذي‭ ‬ينفتح‭ ‬عليها‭ ‬ولدى‭ ‬مجتمع‭ ‬هذا‭ ‬المفكر‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬الأديب‭. ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬الموهبة‭ ‬الكبرى‭ ‬ليست‭ ‬مقاطعة‮ ‬‭ ‬منقطعة‭ ‬عن‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬تنتمي‭ ‬إليه،‭ ‬وبعبارة‭ ‬‮ ‬أخرى‮ ‬‭ ‬فإن‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬نفسه‭ ‬كموهبة‭ ‬روائية‭ ‬كبيرة‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬تراكم‭ ‬السرد‭ ‬الروائي‭ ‬أو‭ ‬القصصي‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬الثقافي‭ ‬المصري‭ ‬وكذا‭ ‬التراث‭ ‬السردي‭ ‬الروائي‭ ‬والقصصي‭ ‬الذي‭ ‬تزخر‭ ‬به‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬معا‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬المكاسب‭ ‬التقنية‭ ‬الروائية‭ ‬الآتية‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬الأجنبية‭ ‬التي‭ ‬تفاعل‭ ‬معها‭. ‬وبهذا‭ ‬الخصوص‭ ‬فإن‭ ‬الإطار‭ ‬الفكري‭ ‬لفيلسوف‭ ‬مثل‭ ‬ابن‭ ‬رشد‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬جماع‭ ‬الحركة‭ ‬الفكرية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬للمجتمع‭ ‬العربي‭ ‬الإسلامي‭ ‬الكبير‭ ‬بكل‭ ‬تنوعاته‭ ‬الإثنية‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬الإطار‭ ‬الفكري‭ ‬لعصره‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‮ ‬‭ ‬الموروث‭ ‬الفلسفي‭ ‬اليوناني‭ ‬الذي‭ ‬تفاعل‭ ‬معه،‭ ‬واشتغل‭ ‬عليه‭ ‬تلخيصا‭ ‬وتأويلا‭ ‬ونقدا‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭.‬


لوحة: أسعد فرزات

هذه‭ ‬نقطة‭ ‬أولى،‭ ‬أما‭ ‬النقطة‭ ‬الثانية‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬بهذه‭ ‬المسألة‭ ‬التي‭ ‬نرى‭ ‬أنها‭ ‬جديرة‭ ‬فعلا‭ ‬بالتحليل‭ ‬فهي‭ ‬قضية‭ ‬عالمية‭ ‬أو‭ ‬عدم‭ ‬عالمية‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬أو‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬بكل‭ ‬أجناسه‭ ‬وموقف‭ ‬الغرب‭ ‬المهيمن‭ ‬على‭ ‬الجوائز‭ ‬الكبرى‭ ‬تمويلا‭ ‬ودعاية‭ ‬وتوظيفا‭ ‬سياسيا‭ ‬وأيديولوجيا‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬مؤسسات‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬المدنية،‭ ‬ووزارات‭ ‬الثقافة‭ ‬فيه‭ ‬تتحمل‭ ‬مسؤولية‭ ‬جسيمة‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬إيصال‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬والأدبي‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬الفضاء‭ ‬الدولي‭ ‬ترجمة‭ ‬عالمة‭ ‬وتوزيعا‭ ‬مستمرا‭ ‬وفق‭ ‬منهجية‭ ‬مدروسة‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬عدم‭ ‬إقامة‭ ‬الغرب‭ ‬‮«‬الشعبي‮»‬‭ ‬و‮»‬النخبوي‮»‬‭ ‬للعلاقة‭ ‬مع‭ ‬الفكر‭ ‬والأدب‭ ‬العربيَّيْن‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬التقاعس‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬وإلى‭ ‬انغلاق‭ ‬الغرب‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬مركزيته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬التفوق‭ ‬وإلى‭ ‬ما‭ ‬أدعوه‭ ‬باللاوعي‭ ‬الاستعماري‭ ‬التقليدي‭ ‬والجديد‭ ‬النرجسي‭ ‬المثبت‭. ‬وهنا‭ ‬أسأل‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭: ‬أيهما‭ ‬أجدر‭ ‬بجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب‭ ‬،‭ ‬خليل‭ ‬حاوي‭ ‬أم‭ ‬برودسكي‭ ‬الروسي‭ ‬المنشق‭ ‬عن‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬جماليا‭ ‬وقيمة‭ ‬شعرية؟‭ ‬أيهما‭ ‬أهم‭ ‬أدبيا‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ ‬أم‭ ‬الشاعر‭ ‬الاسرائيلي‭ ‬عجنون‭ ‬الذي‭ ‬فاز‭ ‬بجائزة نوبل‭ ‬للآداب؟‭ ‬ماذا‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬الروائي‭ ‬الجزائري‭ ‬كاتب‭ ‬ياسين‭ ‬وتحفه‭ ‬الروائية‭ ‬العالمية‭ ‬المستوى‭ ‬وهل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نقارنه‭ ‬بالروائيين‭ ‬الكثيرين‭ ‬الغربيين‭ ‬الذين‭ ‬منحوا‭ ‬جائزة‭ ‬بل‭ ‬وهم‭ ‬أقل‭ ‬منه‭ ‬مستوى‭ ‬بكل‭ ‬معايير‭ ‬الجنس‭ ‬الروائي‭ ‬المعترف‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬ساحة‭ ‬النقد‭ ‬المتطور‭ ‬في‭ ‬العالم؟‭ ‬هذه‭ ‬أمثلة‭ ‬قليلة‭ ‬نسوقها‭ ‬هنا‭ ‬للقول‭ ‬بأن‭ ‬منح‭ ‬الجوائز‮ ‬‭ ‬ذات‭ ‬الصيت‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬يخضع‭ ‬باستمرار‭ ‬لانتقائية‭ ‬مرتبطة‭ ‬بأمور‭ ‬يعرفها‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬حق‭ ‬المعرفة‭. ‬ثم‭ ‬لماذا‭ ‬تصبح‭ ‬المعايير‭ ‬الأوروبية‭ ‬الغربية‭ ‬الرأسمالية‭ ‬عالمية‭ ‬وتُسحب‭ ‬هذه‭ ‬الصفة‭ ‬على‭ ‬المعايير‭ ‬الأفريقية‭ ‬أو‭ ‬الآسيوية‭ ‬أو‭ ‬الأميركية‭ ‬اللاتينية؟‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬ما‭ ‬تقدم‭ ‬فإن‭ ‬استبعاد‭ ‬أي‭ ‬مفكر‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬أديب‭ ‬عن‭ ‬إطاره‭ ‬الفكري‭ ‬الوطني‭ ‬أو‭ ‬الحضاري‭ ‬يظل‭ ‬مسألة‭ ‬خلافية‭ ‬حقا‭ ‬حيث‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع أن‭ ‬نحاجج‭ ‬موضوعيا‭ ‬بأن‭ ‬الروائي‭ ‬والشاعر‭ ‬والمسرحي‭ ‬النيجيري‭ ‬الحائز‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬إطار‭ ‬وطني‭ ‬وكأنه‭ ‬نزل‭ ‬بالمظلات‭ ‬السحرية‭ ‬من‭ ‬كوكب‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالخزان‭ ‬التاريخي‭ ‬والثقافي‭ ‬والحضاري‭ ‬الأفريقي‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬اختزال‭ ‬عالمية‭ ‬الفكر‭ ‬أو‭ ‬الأدب‭ ‬وفقا‭ ‬للمعايير‭ ‬الغربية‭ ‬يمثل‭ ‬استمرارا‭ ‬للنزعة‭ ‬الاستشراقية‭ ‬المتمركزة‭ ‬غربيا‭ ‬التقليدية‭ ‬بقفازات‭ ‬جديدة،‭ ‬وهي‭ ‬النزعة‭ ‬التي‭ ‬ينبهر‭ ‬بها‭ ‬ويصادق‭ ‬عليها‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الوعي‭ ‬واللاوعي‭ ‬العربيين‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬هذا‭.‬

انتقل‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬من‭ ‬المفكر‭ ‬الناقد‭ ‬الشهير‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬استيعابه‭ ‬لمجمل‭ ‬الإنتاج‭ ‬الفكري‭ ‬لهذا‭ ‬المثقف‭ ‬الفريد‭ ‬من‭ ‬نوعه‭. ‬يقيّم‭ ‬الدكتور‭ ‬العظم‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬هكذا‭:‬‮»‬وفي‭ ‬قراءتي‭ ‬لما‭ ‬كتبه‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬حول‭ ‬الغرب‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬شيئا‭ ‬جديدا‭ ‬عنده‭ ‬لم‭ ‬يقله‭ ‬الغرب‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭. ‬فالكتاب‭ ‬مليء‭ ‬بأقوال‭ ‬الغرب‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭. ‬لنأخذ‭ ‬تاريخ‭ ‬الفلسفة‭ ‬الحديثة‭ ‬،‭ ‬فهو‭ ‬يحكي‭ ‬عن‭ ‬ديكارت‭ ‬وسبينوزا‭ ‬وجون‭ ‬لوك‭ ‬وغيرهم‭ ‬ولم‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬معرفة‭ ‬بالغرب‭ ‬إضافة‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬غير‭ ‬غربي‭. ‬فالكثير‭ ‬مما‭ ‬يقال‭ ‬حول‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬القدح‭ ‬والتهجم‭ ‬والذم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬الجدية‭ ‬الموضوعية‮»‬‭. ‬ففي‭ ‬رأيي‭ ‬إن‭ ‬تحليل‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬للاستشراق‭ ‬المرتبط‭ ‬بالاستعمار‭ ‬التقليدي‭ ‬يمثل‭ ‬مقاومة‭ ‬ثقافية‭ ‬فكرية‭ ‬عربية‭ ‬معاصرة‭ ‬وتفكيكا‭ ‬لجزء‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬اللاغي‭ ‬للآخر‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تاريخية‭ ‬محددة‭ ‬منهجيا‭ ‬بشكل‭ ‬دقيق‭. ‬فإدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬لم‭ ‬يلغ‭ ‬الجزء‭ ‬الآخر‭ ‬العادل‭ ‬من‭ ‬الاستشراق‭ ‬الغربي‭ ‬بل‭ ‬نوه‭ ‬به‭ ‬واعتبره‭ ‬فكرا‭ ‬تنويريا‭ ‬وحوارا‭ ‬مع‭ ‬ثقافة‭ ‬وحضارة‭ ‬الآخر‭ ‬الشرقي‭ ‬بصيغة‭ ‬الجمع‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬‭ ‬الاستشراق‭ ‬المعكوس‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬استخدمه‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬واتهم‭ ‬به‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬غير‭ ‬مطابق‭ ‬لواقع‭ ‬الحال‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬المثقف‭ ‬قدم‭ ‬صورا‭ ‬جميلة‭ ‬عن‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬وعن‭ ‬الآداب‭ ‬الغربية‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬كتبه‭ ‬البارزة‮ ‬‭ ‬مثل‭ ‬‭(‬‭ ‬العالم‭ ‬،‭ ‬النص‭ ‬والناقد‭ ‬‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬أجمع‭ ‬عليه‭ ‬عدد‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬الغربيون‭ ‬ووصفوه‭ ‬كإضافة‭ ‬معتبرة‭ ‬للمتن‭ ‬النقدي‭ ‬النظري‭ ‬والتطبيقي‭ ‬ضمن‭ ‬التقاليد‭ ‬الحداثية‭ ‬للنقد‭ ‬الغربي‭ ‬الأكثر‭ ‬تطورا‭. ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬قال‭ ‬الناقد‭ ‬البريطاني‭ ‬الكبير‭ ‬ريموند‭ ‬وليامز‭ ‬‮«‬إنه‭ ‬ممتع‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬لأحد‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يدرس‭ ‬ويفكر‭ ‬فقط‭ ‬بإتقان‭ ‬ولكنه‭ ‬بدأ‭ ‬أيضا‭ ‬يدعم‭ ‬بالحجج‭ ‬والأدلة‭ ‬حيث‭ ‬يعلن‭ ‬حقيقة‭ ‬عن‭ ‬بروز‭ ‬طريقة‭ ‬تفكير‭ ‬متميزة‭ ‬‮«‬‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬استطاع‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬بيت‭ ‬النقد‭ ‬الفكري‭ ‬والأدبي‭ ‬الغربي‭ ‬لصالح‭ ‬تطوير‭ ‬هذا‭ ‬النقد‭. ‬وفي‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬‭ ‬الأدب‭ ‬والمجتمع‭ ‬‮«‬‭ ‬عمل‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬على‭ ‬إبراز‭ ‬القسمات‭ ‬المضيئة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الغربي‭ ‬مثلما‭ ‬فتح‭ ‬لهذا‭ ‬النقد‭ ‬دروبا‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تقدمه‭. ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬فإن‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬كتاباته‮ ‬‭ ‬النقدية‭ ‬والفكرية‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬جانبا‮ ‬‭ ‬قضيته‭ ‬الفلسطينية‭ ‬والاحتلال‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬حينما‭ ‬درس‭ ‬كتابات‭ ‬مفكرين‭ ‬وفلاسفة‭ ‬ونقاد‭ ‬يهود‭ ‬بموضوعية‭ ‬بل‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الاحتفاء‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواقع‭ ‬تقديرا‭ ‬لمواهبهم‭ ‬وكفاءتهم‭ ‬الفكرية‭ ‬مثل‭ ‬أدورنو،‭ ‬وفالتر‭ ‬بنيامين،‭ ‬وإدموند‭ ‬هوسرل،‭ ‬وفرانسوا‭ ‬يعقوب،‭ ‬وسجموند‭ ‬فرويد،‭ ‬ونعوم‭ ‬تشومسكي،‭ ‬وعمانويل‭ ‬ليفناص،‭ ‬والناقد‭ ‬أورباخ،‭ ‬وغيرهم‭ ‬كثير‭. ‬إن‭ ‬خلاف‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬مع‭ ‬روائية‭ ‬غربية‭ ‬كبيرة‭ ‬مثل‭ ‬جين‭ ‬أوستين‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬النوبلي‭ ‬ألبير‭ ‬كامو‭ ‬لم‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬‮ ‬إبراز‭ ‬معالم‭ ‬الاقتدار‭ ‬والشموخ‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬إنتاجيهما‭ ‬الروائيين‭. ‬إن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يخرج‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬من‭ ‬خانة‭ ‬‮«‬الاستشراق‭ ‬المعكوس‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يعممه‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬على‭ ‬المثقفين‭ ‬والنقاد‭ ‬والمفكرين‭ ‬العرب‭ ‬غالبا‭ ‬باستخدامه‭ ‬لكلمة‭ ‬‮«‬كثير‮»‬‭ ‬المشددة‭ ‬والمكتوبة‭ ‬بالحروف‭ ‬الغليظة‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬مثقفين‭ ‬ومفكرين‭ ‬عربا‭ ‬ينطبق‭ ‬عليهم‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬الاستشراق‭ ‬المعكوس‮»‬‭ ‬ولكن‭ ‬التعميم‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬محله‭ ‬لأن‭ ‬الواقع‭ ‬يقول‭ ‬بعكس‭ ‬ذلك‭ ‬حيث‭ ‬نجد‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬العرب‭ ‬‮«‬شغَلوا‮»‬‭ ‬أنفسهم‭ ‬ربما‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬حياتهم‭ ‬كلها‭ ‬بالتعريف‭ ‬بالثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬وتقديمها‭ ‬للعالم‭ ‬العربي‭ ‬ترجمة‭ ‬وعرضا‭ ‬وتحليلا،‭ ‬وإنه‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المنصف‭ ‬أيضا‭ ‬نكران‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬والفكر‭ ‬الغربيين‭ ‬في‭ ‬البرامج‭ ‬التعليمية‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬مزاحمة‭ ‬النصوص‭ ‬العربية‭ ‬الأصل‭ ‬أو‭ ‬تهميشها‭ ‬جراء‭ ‬فتح‭ ‬الفضاء‭ ‬واسعا‭ ‬للنماذج‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والفلسفة‭ ‬وعلم‭ ‬الاجتماع‭ ‬حتى‭ ‬اتهم‭ ‬هؤلاء‭ ‬ولا‭ ‬يزالون‭ ‬يتهمون‭ ‬بالغربنة‭ ‬المفرطة‭ ‬وينعتون‭ ‬بالمستلبين‭ ‬غربيا‭. ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الذين‭ ‬ظلموا‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬هم‭ ‬العرب‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬حيث‭ ‬أنهم‭ ‬يختزلونه‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬التالية‭: ‬‮«‬الاستشراق‮»‬،‭ ‬و‮»‬تغطية‭ ‬الإسلام‮»‬،‭ ‬و‮»‬الثقافة‭ ‬والامبريالية‮»‬‭ ‬وكذا‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬عن‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬علما‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬لا‭ ‬تشكل‭ ‬إلا‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬المعمار‭ ‬النقدي‭ ‬والفكري‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬الفكرية‭ ‬والنقدية‭ ‬الأدبية،‭ ‬والفنية‭ ‬أيضا‭ ‬باعتباره‭ ‬فنانا‭ ‬موسيقيا‭ ‬مرهفا‭ ‬ومن‭ ‬أهم‭ ‬محللي‭ ‬ونقاد‭ ‬الموسيقى‭ ‬الغربية‭.

‬إن‭ ‬تحليل‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬للاستشراق‭ ‬المرتبط‭ ‬بالاستعمار‭ ‬التقليدي‭ ‬يمثل‭ ‬مقاومة‭ ‬ثقافية‭ ‬فكرية‭ ‬عربية‭ ‬معاصرة‭ ‬وتفكيكا‭ ‬لجزء‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬اللاغي‭ ‬للآخر‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تاريخية‭ ‬محددة‭ ‬منهجيا‭ ‬بشكل‭ ‬دقيق
إن‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬لم‭ ‬يُقرأ‭ ‬عربيا‭ ‬قراءة‭ ‬إبداعية‭ ‬ولم‭ ‬يستثمر‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يفعَل‭ ‬رصيده‭ ‬النظري‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬النظرية‭ ‬النقدية،‭ ‬وفي‭ ‬النقد‭ ‬الكولونيالي‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالي،‭ ‬وفي‭ ‬مجال‭ ‬التبصيرات‭ ‬الفلسفية‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬بدايات‭: ‬القصد‭ ‬والمنهج‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬السيرة‭ ‬الذاتية‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬فلسفي،‭ ‬ومن‭ ‬التنظير‭ ‬الفلسفي‭ ‬الثائر‭ ‬على‭ ‬تقاليد‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‭ ‬النسقية‭ . ‬فهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬يمثل‭ ‬إعادة‭ ‬تركيب‭ ‬للفلسفة‭ ‬الغربية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التجربة‭ ‬الشخصية‭. ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬‭ ‬تأملات‭ ‬حول‭ ‬المنفى‭ ‬ومقالات‭ ‬أخرى‮»‬‭ ‬من‭ ‬محاولة‭ ‬التفلسف‭ ‬وفتح‭ ‬السجال‭ ‬حول‭ ‬مشكلات‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‭. ‬ففي‭ ‬تقديري‭ ‬إن‭ ‬‮«‬العرب‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يستثمروا‭ ‬نظريا‭ ‬وممارسة‭ ‬في‭ ‬العلاقة‭ ‬المتبادلة‭ ‬الاعتماد‭ ‬والتأثير‭ ‬التي‭ ‬يقيمها‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬بين‭ ‬الفلسفة‭ ‬والنظرية‭ ‬النقدية‭ ‬وبين‭ ‬النقد‭ ‬الكولونيالي‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونيالي،‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭. ‬فهو‭ ‬يمارس‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬بمنظور‭ ‬الفيلسوف‭ ‬كما‭ ‬يمارس‭ ‬الفلسفة‭ ‬بحساسية‭ ‬الناقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والثقافي،‭ ‬والجدير‭ ‬بالذكر‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الفضاء‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬يفتقد‭ ‬كثيرا‭ ‬وبإصرار‭ ‬عجيب‭ ‬لهذه‭ ‬الخاصية‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬ظاهرة‭ ‬بارزة‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬وفي‭ ‬عدد‭ ‬مما‭ ‬يسمى‭ ‬في‭ ‬العرف‭ ‬السياسي‭ ‬بجغرافيا‭ ‬الجنوب‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭. ‬من‭ ‬الغريب‭ ‬جدا‭ ‬أن‭ ‬يوضع‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬‮«‬‭ ‬قفص‮»‬‭ ‬الاستشراق‭ ‬المعكوس‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬نجادل‭ ‬فيه‭ ‬بأنه‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬التكوين‭ ‬الفكري‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬أبناء‭ ‬الثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬الجادين‭ ‬وأنه‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الموقف‭ ‬الإنساني‭ ‬هو‭ ‬ابن‭ ‬الإنسانية‭ ‬المعذبة‭ ‬التي‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬حظوظ‭ ‬البشر‭ ‬للعيش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬العدالة‭ ‬والحرية‭. ‬وهنا‭ ‬ينبغي‭ ‬التوضيح‭ ‬بأن‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬المثقفين‭ ‬الأكثر‭ ‬استيعابا‭ ‬وتمثلا‭ ‬للثقافة‭ ‬الغربية‭ ‬وهو‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬المفكرين‭ ‬القلائل،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الغربي‭ ‬نفسه،‭ ‬الذين‭ ‬تمكنوا‭ ‬من‭ ‬ربط‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬المعاصر‭ ‬بجذوره‭ ‬الحديثة‭ ‬والقديمة‭ ‬في‭ ‬تركيبة‭ ‬تتميز‭ ‬بالحوار‭ ‬والسجال‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأقطاب‭ ‬والعناصر‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬سعيد‭ ‬متأثر‭ ‬تأثرا‭ ‬ملفتا‭ ‬للنظر‭ ‬بالمرجعيات‭ ‬النظرية‭ ‬لهذا‮ ‬‭ ‬الفكر‭ ‬الغربي‭ ‬ولكن‭ ‬تأثره‭ ‬منتج‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬قراءة‭ ‬مؤلفاته‭ ‬توضح‭ ‬لنا‭ ‬أنها‭ ‬تسحب‭ ‬معها‭ ‬معظم‭ ‬التراث‭ ‬الفكري‭ ‬الغربي‭ ‬بدءا‭ ‬من‭ ‬التقليد‭ ‬النقدي‭ ‬والفلسفي‭ ‬اليوناني‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬إلى‭ ‬راهن‮ ‬‭ ‬هذا‭ ‬الفكر‭ ‬في‭ ‬تطوراته‭ ‬ومشكلاته‭ ‬ومنعرجاته‭ ‬الكثيرة‭.‬

III

إن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬تضافر‭ ‬الفلسفة‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والثقافي‭ ‬عند‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬يقودني‭ ‬حتما‭ ‬إلى‭ ‬الجزء‭ ‬الأبرز‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬وهو‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬مشروعه‭ ‬الفلسفي‭ ‬الذي‭ ‬توقف‭ ‬الجزء‭ ‬التأملي‭ ‬منه‭ ‬واستمر‭ ‬الجزء‭ ‬المرتبط‭ ‬بنقده‭ ‬للواقع‭ ‬العربي‭ ‬حسب‭ ‬تأكيده‭ ‬وهذا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬نظر‭ ‬وتدقيق‭. ‬إجمالا‭ ‬فإن‭ ‬انشغال‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬بالتفلسف‭ ‬قد‭ ‬توقف‭ ‬عند‭ ‬الفلسفة‭ ‬الإبستيمولوجية‭ ‬النسقية‭ ‬التي‭ ‬يمثلها‭ ‬هنري‭ ‬برغسون،‭ ‬وعمانويل‭ ‬كانط‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬تركيزا‭ ‬وتخصصا‭. ‬وبخصوص‭ ‬علاقته‭ ‬مع‭ ‬كانط‭ ‬فهي‭ ‬بدورها‭ ‬جزئية‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬تركيز‭ ‬الدكتور‭ ‬العظم‭ ‬على‭ ‬مرحلة‭ ‬نقد‭ ‬العقل‭ ‬المجرد‭ ‬في‭ ‬إطارها‭ ‬النظري‭ ‬النسقي،‭ ‬أما‭ ‬الخطوة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬خطاها‭ ‬كانط‭ ‬والمتمثلة‭ ‬في‭ ‬تجسير‭ ‬نظرية‭ ‬الفهم،‭ ‬والنظرية‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬والجمالية‭ ‬التي‭ ‬يعتبرها‭ ‬التحقق‭ ‬الفعلي‭ ‬للسابقتين‭ ‬فلم‭ ‬يدرسها‭ ‬باستفاضة‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يسحبها‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬الفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬العربي‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬بأنه‭ ‬استثمرها‭ ‬في‭ ‬كتابيه‭ ‬نقد‭ ‬الفكر‭ ‬الديني‭ ‬‮ ‬والنقد‭ ‬الذاتي‭ ‬للهزيمة‭ ‬العربية‭ ‬أمام‭ ‬إسرائيل‭ ‬عام‭ ‬1976،‭ ‬وذلك‮ ‬‭ ‬بعد‭ ‬تخليه‭ ‬عن‭ ‬التجريد‭ ‬الفلسفي‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاستثمار‭ ‬قد‭ ‬غلب‭ ‬عليه‭ ‬القاموس‭ ‬النضالي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الفحص‭ ‬الفلسفي‭ . ‬كما‮ ‬‭ ‬أن‮ ‬‭ ‬فلسفات‭ ‬كانط‮ ‬‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬والقانون‭ ‬الدولي،‭ ‬ومفهوم‭ ‬وعقبات‭ ‬التنوير،‭ ‬والتاريخ‭ ‬الكلي،‭ ‬والأنتروبولوجيا‭ ‬ببعدها‭ ‬الثقافي،‭ ‬وعلم‭ ‬الفلك،‭ ‬ونظرية‭ ‬الذوق‭ ‬الجمالي‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬كتابيه‭ ‬‭(‬‭ ‬ملاحظات‭ ‬حول‭ ‬الشعور‭ ‬بالجميل‭ ‬والمتسامي‭)‬‭ ‬و‭(‬‭ ‬نقد‭ ‬ملكة‭ ‬الحكم‭)‬‭ ‬لم‭ ‬تأخذ‭ ‬حظها‭ ‬من‭ ‬الدراسة‭ ‬التحليلية‭ ‬عند‭ ‬الدكتور‭ ‬العظم‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬توظيف‭ ‬متنها‭ ‬المفهومي‭ ‬والنظري‭ ‬في‭ ‬تحليل‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭. ‬إنه‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬هاجس‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭ ‬النضالي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬جرَّه‭ ‬إلى‭ ‬الاعتراف‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭ ‬قائلا‭: ‬‮«‬انحرف‭ ‬اهتمامي‭ ‬من‭ ‬المسائل‭ ‬الفكرية‭ ‬المجردة،‭ ‬ومن‭ ‬المسائل‭ ‬الثقافية‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬أعلى‭ ‬إلى‭ ‬أمور‭ ‬كانت‭ ‬تمثل‭ ‬أولويات‭ ‬التفكير‭ ‬حولها‭ ‬والرد‭ ‬على‭ ‬الإبهام‭ ‬والإشكاليات‭ ‬الآنية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مطروحة‭ ‬‮«‬،‭ ‬ثم‭ ‬يضيف‭ ‬موضحا‭: ‬‮«‬‭ ‬لقد‭ ‬توجه‭ ‬اهتمامي‭ ‬إلى‭ ‬المشكلات‭ ‬الثقافية‭ ‬والسياسية‭ ‬المطروحة‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دراسات‭ ‬ومحاضرات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بيروت‭ ‬ودمشق‭ ‬خاصة‭ ‬ونشرت‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬دراسات‭ ‬وبحوث‭ ‬حول‭ ‬المسائل‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالقضايا‭ ‬العربية‭ ‬وفي‭ ‬صلبها‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‮»‬‭.‬


لوحة: أسعد فرزات

في‭ ‬معرض‭ ‬مناقشته‭ ‬لواقع‭ ‬حال‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬تدريسا‭ ‬وإنتاجا‭ ‬يرى‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬شروطا‭ ‬غائبة‭ ‬لبروز‭ ‬فلسفة‭ ‬عربية‭ ‬لها‭ ‬مفاهيمها‭ ‬الخاصة‭ ‬ووجهة‭ ‬نظرها‭ ‬المتفردة،‭ ‬كما‭ ‬يحاجج‭ ‬بأن‭ ‬تدريس‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬المنظومة‭ ‬التعليمية‭ ‬في‭ ‬بلداننا‭ ‬إما‮ ‬يحاط‭ ‬بالمنع‭ ‬حينا‭ ‬وإما‭ ‬يمارس‭ ‬بشكل‭ ‬تقليدي‭ ‬وتلقيني‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬صحيح‭ ‬جزئيا‭ ‬أيضا،‭ ‬ولكن‭ ‬المشكلة‭ ‬المفصلية‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬ليست‭ ‬محصورة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬العقبة‭ ‬الكبرى‭ ‬أمام‭ ‬الإبداع‭ ‬الفلسفي‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬تعليم‭ ‬تاريخ‭ ‬الفلسفة‭ ‬والأفكار‭ ‬الفلسفية،‭ ‬وسير‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬ومعاني‭ ‬المفاهيم‭ ‬الفلسفية،‭ ‬وأبرز‭ ‬مدارسها‭ ‬وتياراتها،‭ ‬وبين‭ ‬توجيه‭ ‬الطلاب‭ ‬للقيام‭ ‬بالتفلسف‭ ‬الذاتي‭ ‬وتدريب‭ ‬النفس‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬الإشكاليات‭ ‬الفلسفية‭ ‬والخوض‭ ‬في‭ ‬تحليلها‭. ‬أما‭ ‬شروط‭ ‬الدكتور‭ ‬العظم‭ ‬لبروز‭ ‬الفلسفة‭ ‬فتتمثل‭ ‬في‭ ‬تقديره‭ ‬في‭ ‬توفر‭ ‬الحريات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والدينية،‭ ‬والتراكم‭ ‬المعرفي‭ ‬الذاتي‭ ‬والمكتسب،‭ ‬والقاعدة‭ ‬العلمية‭ ‬مسبقا‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الشروط‭ ‬معقولة‭ ‬جزئيا‭ ‬وأقول‭ ‬جزئيا‭ ‬فقط‭. ‬وهنا‭ ‬نتساءل‭: ‬أليست‭ ‬‮ ‬الفلسفة‭ ‬نتاجا‭ ‬للأزمات‭ ‬الروحية‭ ‬والحضارية‭ ‬الكبرى؟‭ ‬أليست‭ ‬الفلسفة‭ ‬كفعل‭ ‬نقدي‭ ‬تحريري‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تصنع‭ ‬الحرية‭ ‬؟‭ ‬هل‭ ‬كتب‭ ‬كانط،‭ ‬مثلا،‭ ‬ضمن‭ ‬مناخ‭ ‬بحبوحة‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬عصره‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬فلسفته‭ ‬هي‭ ‬نقد‭ ‬للقيود‭ ‬التي‭ ‬تقيد‭ ‬العقل‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬حرية‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬عانى‭ ‬منها‭ ‬عندما‭ ‬كتب‭ ‬نقده‭ ‬الشهير‭ ‬للدين؟‭ ‬وهل‭ ‬تفلسف‭ ‬سقراط‭ ‬داخل‭ ‬حدائق‭ ‬الحرية‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬تفلسفه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬قهرا‭ ‬بالسم؟‭ ‬وهل‭ ‬كتب‭ ‬هوسرل‭ ‬ضمن‭ ‬كورال‭ ‬‮ ‬نعمة‭ ‬الحريات‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬عانى‭ ‬من‭ ‬الزجر‭ ‬والنفي‭ ‬ومن‭ ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬حتى‭ ‬مكتبة‭ ‬الجامعة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬كبار‭ ‬فلاسفتها؟‭ ‬ألم‮ ‬‭ ‬يطارد‭ ‬البوليس‭ ‬الفرنسي‭ ‬سارتر‭ ‬وميشال‭ ‬فوكو؟‭ ‬أليست‭ ‬الفلسفة‭ ‬‮ ‬بنت‭ ‬الأزمات‭ ‬الكبرى‭ ‬وفي‭ ‬المقدمة‭ ‬محنة‭ ‬الحريات‭ ‬المغيبة؟‭ ‬فالفلسفة‭ ‬مشروطة‭ ‬تاريخيا‭ ‬والشرط‭ ‬التاريخي‭ ‬المتكرر‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬البشرية‭ ‬هو‭ ‬الصراع‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬توسيع‭ ‬رقعة‭ ‬الحرية‭. ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬هذا‭ ‬نجد‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬أن‭ ‬الدافع‭ ‬الحيوي‭ ‬‮ ‬الذي‭ ‬صنع‭ ‬فلسفة‭ ‬فيلسوف‭ ‬معاصر‭ ‬مثل‭ ‬لوي‭ ‬ألتوسير‭ ‬هو‭ ‬نقده‭ ‬فلسفيا‭ ‬للرأسمالية‭ ‬وللمنظومات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬الناعمة‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬الذاتيات‭ ‬وفقا‭ ‬لمصالح‭ ‬الطبقات‭ ‬السائدة‭ ‬والمسيطرة،‭ ‬وللأيديولوجية‭ ‬العنيفة‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬بوسائل‭ ‬الزجر‭ ‬والإكراه‭. ‬ماذا‭ ‬نقول‭ ‬عن‭ ‬فلسفة‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الايطالي‭ ‬أنطونيو‭ ‬غرامشي‭ ‬وهل‭ ‬هي‭ ‬منتوج‭ ‬ظلمات‭ ‬السجن‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬منتوج‭ ‬بذخ‭ ‬الحرية؟‭ ‬أما‭ ‬شرط‭ ‬توفر‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬لإنتاج‭ ‬الفلسفة‭ ‬الذي‭ ‬يثبّته‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬كسياج‭ ‬فهو‭ ‬خلافي‭ ‬بالضرورة‭. ‬ألم‭ ‬ينتج‭ ‬فلاسفة‭ ‬الإغريق‭ ‬الفلسفة‭ ‬داخل‭ ‬مجتمع‭ ‬كانت‭ ‬تفسر‭ ‬فيه‭ ‬الأمور‭ ‬أسطوريا؟‭ ‬ثمّ‭ ‬هل‭ ‬العلم‭ ‬نتاج‭ ‬للفلسفة‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الأخيرة‭ ‬هي‭ ‬بنت‭ ‬العلم‭ ‬بمعناه‭ ‬التقني‭ ‬والمادي؟‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬تزامن‭ ‬الفلسفة‭ ‬مع‭ ‬العلوم‭ ‬نسبيا‭ ‬يمكن‭ ‬الإقرار‭ ‬به‭ ‬أيضا‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬العلم‭ ‬صرفا‭ ‬ومكتفيا‭ ‬بذاته‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬ينتج‭ ‬مشكلاته‭ ‬المعرفية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬التي‭ ‬تنتج‭ ‬بدورها‭ ‬الأسئلة‭ ‬الفلسفية‭ ‬من‭ ‬داخله،‭ ‬وهكذا‭ ‬نصبح‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬فلسفة‭ ‬الفيزياء،‭ ‬وفلسفة‭ ‬الطب،‭ ‬وفلسفة‭ ‬الرياضيات،‭ ‬وفلسفة‭ ‬الأخلاقيات‭ ‬القانونية‭ ‬وهلم‭ ‬جرا‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.