غياب الفلسفة
تعود علاقتي بكتابات صادق جلال العظم إلى أكثر من ثلاثين سنة حيث قرأت معظم كتبه منها نقد الفكر الديني، الاستشراق والاستشراق معكوسا ، ودفاعا عن المادية التاريخية ، وفي الحب والحب العذري، والصهيونية والصراع الطبقي، وما بعد ذهنية التحريم، وكذلك كتابه في النقد الذاتي للهزيمة، وأصول مجادلات كانط في المتناقضات الصادر باللغة الإنكليزية عن منشورات جامعة أكسفورد البريطانية والذي يعد أحد أهم المراجع المهمة في الدراسات الكانطية في الغرب، وغيرها من الدراسات والكتب الأخرى.
يبدو واضحا أن المثقف جلال العظم ينتمي إلى اليسار الفكري في مشهد الفكر العربي المعاصر فضلا عن تميزه بالنزعة النقدية. لقد سعدت كثيرا بقراءة حوار الدكتور العظم مع «مجلة الجديد» وأعتقد أن هذا النوع من الحوارات الجدية هو بمثابة نشاط فكري مهم كفيل بإثارة النقاش حول أمهات القضايا الفكرية ذات الصلة بالواقع العربي وبمشكلات الثقافة العربية المعاصرة مهما اختلفنا مع صاحب هذا الحوار سواء في الموقف النظري أو في التشخيص أو في الأحكام التي يصدرها. في هذا الحوار الذي نشرته له مجلة «الجديد» في عددها الـ19 شبه خلاصة موجزة جدا عن رحلته النقدية، وهي بطبيعة الحال لا تغني عن دراسة إنتاجه الفكري والثقافي النقدي ولكن هذا يتطلب مساحة أكبر من مقال له صفة التعليق على حوار. نظرا لكثرة القضايا التي يعالجها صادق جلال العظم في هذا الحوار سأتوقف فقط عند أربع مسائل أثارت انتباهي أكثر من غيرها وهي :
1- قضية الإطار الفكري والأدبي العربي الذي يعتقد الدكتور العظم أنه غير متوفر في العالم العربي بما يؤهله لأن يحصل على التكريم الغربي، وجراء ذلك فإنه يرى أن منح جائزة نوبل للروائي المصري نجيب محفوظ هو تكريم لشخص نجيب محفوظ نفسه فقط وليس للرواية العربية. ويفهم من الدواعي التي يسوقها أن الرواية العربية بصيغة الجمع لا ترقى إلى العالمية شأن الجنس الروائي في أميركا اللاتينية الذي يقدمه كنموذج لتبرير حججه. بناء على هذه الفرضيات التي يسوقها فإنه يرى أن تكريمه مؤخرا من طرف الحكومة الألمانية ومنحه وسام الشاعر الألماني غوته هو تكريم شخصي له فقط وليس اعترافا بالإطار الفكري العربي، وهذا يعني أن جلال العظم ذاته يفصل نفسه عن هذا الإطار وهذا غير مبرر بأي شكل من الأشكال .
2- موقفه من كتاب الاستشراق للناقد المفكر الراحل إدوارد سعيد ومن مكانة هذا الأخير في مشهد الفكر العالمي وخاصة في الغرب.
3- وجهة نظر جلال العظم حول مساره الخاص به في حقل الفلسفة ، وحول واقع الفلسفة في العالم العربي حيث نجده يصدر أحكام قيمة تنتمي في مجملها في تقديرنا إلى النزعة التقليدية في النظر إلى الفلسفة ككل وكذا في ما يتعلق بتقييمه للوضع الفلسفي في مشهد الفكر العربي المعاصر كما سنبين لاحقا.
أبدأ الآن بمناقشة مسألة الإطار الفكري السابق ذكره. مما لا شك فيه أن الموهبة الفردية الكبرى في أي جنس فكري أو أدبي سواء في الفلسفة أو في الشعر أو في الرواية أو النقد الأدبي مرتبطة بواقع الأمة التي تنتمي إليها هذه الموهبة والعصر الذي تعيش فيه معا. إنه لا يمكن صنع مفكر أو فيلسوف أو شاعر أو روائي خارج إطار ثقافة المجمَع الروحي والحضاري الكلي الذي ينتمي إليه شخصيا ونبت في تربته ، أما الروافد الفكرية والفنية التي تتجمع لديه من خلال عمليات الانفتاح على التجارب الثقافية والفكرية والروحية والحضارية الأخرى في العالم فليست مجرد استيراد عشوائي أو حلية يمكن استيرادها بل هي نتاج حاجة اجتماعية وتاريخية وحضارية لدى هذا المفكر أو الأديب الذي ينفتح عليها ولدى مجتمع هذا المفكر أو ذاك الأديب. ثم إن الموهبة الكبرى ليست مقاطعة منقطعة عن الفضاء الذي تنتمي إليه، وبعبارة أخرى فإن نجيب محفوظ نفسه كموهبة روائية كبيرة ليس إلا تعبيرا عن تراكم السرد الروائي أو القصصي الشعبي في التراث الثقافي المصري وكذا التراث السردي الروائي والقصصي الذي تزخر به الثقافة العربية الإسلامية معا إضافة إلى المكاسب التقنية الروائية الآتية من التجارب الأجنبية التي تفاعل معها. وبهذا الخصوص فإن الإطار الفكري لفيلسوف مثل ابن رشد ليس هو جماع الحركة الفكرية والاجتماعية والثقافية للمجتمع العربي الإسلامي الكبير بكل تنوعاته الإثنية فضلا عن الإطار الفكري لعصره بما في ذلك الموروث الفلسفي اليوناني الذي تفاعل معه، واشتغل عليه تلخيصا وتأويلا ونقدا في آن واحد.
لوحة: أسعد فرزات
انتقل الآن إلى موقف جلال العظم من المفكر الناقد الشهير إدوارد سعيد الصادر في تقديري عن عدم استيعابه لمجمل الإنتاج الفكري لهذا المثقف الفريد من نوعه. يقيّم الدكتور العظم إدوارد سعيد هكذا:»وفي قراءتي لما كتبه إدوارد سعيد حول الغرب لم أجد شيئا جديدا عنده لم يقله الغرب عن نفسه. فالكتاب مليء بأقوال الغرب عن نفسه. لنأخذ تاريخ الفلسفة الحديثة ، فهو يحكي عن ديكارت وسبينوزا وجون لوك وغيرهم ولم أشعر أن ثمة معرفة بالغرب إضافة من موقع غير غربي. فالكثير مما يقال حول الغرب في العالم العربي هو نوع من القدح والتهجم والذم أكثر من المعرفة الجدية الموضوعية». ففي رأيي إن تحليل إدوارد سعيد للاستشراق المرتبط بالاستعمار التقليدي يمثل مقاومة ثقافية فكرية عربية معاصرة وتفكيكا لجزء من الفكر الغربي اللاغي للآخر في الشرق في مرحلة تاريخية محددة منهجيا بشكل دقيق. فإدوارد سعيد لم يلغ الجزء الآخر العادل من الاستشراق الغربي بل نوه به واعتبره فكرا تنويريا وحوارا مع ثقافة وحضارة الآخر الشرقي بصيغة الجمع. ومن هنا فإن مصطلح « الاستشراق المعكوس» الذي استخدمه جلال العظم واتهم به إدوارد سعيد غير مطابق لواقع الحال لأن هذا المثقف قدم صورا جميلة عن الفكر الغربي وعن الآداب الغربية في عدد من كتبه البارزة مثل ( العالم ، النص والناقد ) الذي أجمع عليه عدد لا يستهان به من النقاد الغربيون ووصفوه كإضافة معتبرة للمتن النقدي النظري والتطبيقي ضمن التقاليد الحداثية للنقد الغربي الأكثر تطورا. عن هذا الكتاب قال الناقد البريطاني الكبير ريموند وليامز «إنه ممتع أن تقرأ لأحد ما لا يدرس ويفكر فقط بإتقان ولكنه بدأ أيضا يدعم بالحجج والأدلة حيث يعلن حقيقة عن بروز طريقة تفكير متميزة «. في هذا الكتاب استطاع إدوارد سعيد أن يعيد ترتيب بيت النقد الفكري والأدبي الغربي لصالح تطوير هذا النقد. وفي كتابه « الأدب والمجتمع « عمل إدوارد سعيد على إبراز القسمات المضيئة في الأدب الغربي مثلما فتح لهذا النقد دروبا أخرى من أجل تقدمه. وفي الحقيقة فإن إدوارد سعيد في كتاباته النقدية والفكرية قد وضع جانبا قضيته الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي حينما درس كتابات مفكرين وفلاسفة ونقاد يهود بموضوعية بل بنوع من الاحتفاء في الكثير من المواقع تقديرا لمواهبهم وكفاءتهم الفكرية مثل أدورنو، وفالتر بنيامين، وإدموند هوسرل، وفرانسوا يعقوب، وسجموند فرويد، ونعوم تشومسكي، وعمانويل ليفناص، والناقد أورباخ، وغيرهم كثير. إن خلاف إدوارد سعيد مع روائية غربية كبيرة مثل جين أوستين أو مع النوبلي ألبير كامو لم يمنعه من إبراز معالم الاقتدار والشموخ الأدبي في إنتاجيهما الروائيين. إن كل هذا يخرج إدوارد سعيد من خانة «الاستشراق المعكوس» الذي يعممه جلال العظم على المثقفين والنقاد والمفكرين العرب غالبا باستخدامه لكلمة «كثير» المشددة والمكتوبة بالحروف الغليظة. صحيح أن هناك مثقفين ومفكرين عربا ينطبق عليهم مصطلح «الاستشراق المعكوس» ولكن التعميم ليس في محله لأن الواقع يقول بعكس ذلك حيث نجد المئات من المثقفين العرب «شغَلوا» أنفسهم ربما على مدى حياتهم كلها بالتعريف بالثقافة الغربية وتقديمها للعالم العربي ترجمة وعرضا وتحليلا، وإنه من غير المنصف أيضا نكران الاحتفاء بالإبداع الأدبي والفكر الغربيين في البرامج التعليمية العربية إلى حد مزاحمة النصوص العربية الأصل أو تهميشها جراء فتح الفضاء واسعا للنماذج العربية في الشعر والنقد الأدبي والفلسفة وعلم الاجتماع حتى اتهم هؤلاء ولا يزالون يتهمون بالغربنة المفرطة وينعتون بالمستلبين غربيا. أعتقد أن الذين ظلموا إدوارد سعيد هم العرب بالدرجة الأولى حيث أنهم يختزلونه في كتبه التالية: «الاستشراق»، و»تغطية الإسلام»، و»الثقافة والامبريالية» وكذا في كتبه عن القضية الفلسطينية، علما أن هذه الكتب لا تشكل إلا جزءا من المعمار النقدي والفكري من تجربة إدوارد سعيد الفكرية والنقدية الأدبية، والفنية أيضا باعتباره فنانا موسيقيا مرهفا ومن أهم محللي ونقاد الموسيقى الغربية.
إن تحليل إدوارد سعيد للاستشراق المرتبط بالاستعمار التقليدي يمثل مقاومة ثقافية فكرية عربية معاصرة وتفكيكا لجزء من الفكر الغربي اللاغي للآخر في الشرق في مرحلة تاريخية محددة منهجيا بشكل دقيق
III
إن الحديث عن تضافر الفلسفة والنقد الأدبي والثقافي عند إدوارد سعيد يقودني حتما إلى الجزء الأبرز في حوار صادق جلال العظم وهو حديثه عن مشروعه الفلسفي الذي توقف الجزء التأملي منه واستمر الجزء المرتبط بنقده للواقع العربي حسب تأكيده وهذا يحتاج إلى نظر وتدقيق. إجمالا فإن انشغال جلال العظم بالتفلسف قد توقف عند الفلسفة الإبستيمولوجية النسقية التي يمثلها هنري برغسون، وعمانويل كانط بشكل أكثر تركيزا وتخصصا. وبخصوص علاقته مع كانط فهي بدورها جزئية حيث كان كل تركيز الدكتور العظم على مرحلة نقد العقل المجرد في إطارها النظري النسقي، أما الخطوة الكبيرة التي خطاها كانط والمتمثلة في تجسير نظرية الفهم، والنظرية الأخلاقية، والجمالية التي يعتبرها التحقق الفعلي للسابقتين فلم يدرسها باستفاضة كما لم يسحبها إلى الواقع الفكري والسياسي العربي رغم أنه يقول في هذا الحوار بأنه استثمرها في كتابيه نقد الفكر الديني والنقد الذاتي للهزيمة العربية أمام إسرائيل عام 1976، وذلك بعد تخليه عن التجريد الفلسفي. غير أن هذا الاستثمار قد غلب عليه القاموس النضالي أكثر من الفحص الفلسفي . كما أن فلسفات كانط في السياسة والقانون الدولي، ومفهوم وعقبات التنوير، والتاريخ الكلي، والأنتروبولوجيا ببعدها الثقافي، وعلم الفلك، ونظرية الذوق الجمالي كما في كتابيه ( ملاحظات حول الشعور بالجميل والمتسامي) و( نقد ملكة الحكم) لم تأخذ حظها من الدراسة التحليلية عند الدكتور العظم على ضوء توظيف متنها المفهومي والنظري في تحليل الثقافة العربية. إنه يمكن القول بأن هاجس هذا العمل النضالي هو الذي جرَّه إلى الاعتراف في هذا الحوار قائلا: «انحرف اهتمامي من المسائل الفكرية المجردة، ومن المسائل الثقافية على مستوى أعلى إلى أمور كانت تمثل أولويات التفكير حولها والرد على الإبهام والإشكاليات الآنية التي كانت مطروحة «، ثم يضيف موضحا: « لقد توجه اهتمامي إلى المشكلات الثقافية والسياسية المطروحة وذلك من خلال دراسات ومحاضرات في كل من بيروت ودمشق خاصة ونشرت لي في ذلك الوقت دراسات وبحوث حول المسائل المرتبطة بالقضايا العربية وفي صلبها القضية الفلسطينية».
لوحة: أسعد فرزات
في معرض مناقشته لواقع حال الفلسفة في العالم العربي تدريسا وإنتاجا يرى جلال العظم أن ثمة شروطا غائبة لبروز فلسفة عربية لها مفاهيمها الخاصة ووجهة نظرها المتفردة، كما يحاجج بأن تدريس الفلسفة في المنظومة التعليمية في بلداننا إما يحاط بالمنع حينا وإما يمارس بشكل تقليدي وتلقيني. لا شك أن هذا صحيح جزئيا أيضا، ولكن المشكلة المفصلية في تقديري ليست محصورة في هذا فقط بل إن العقبة الكبرى أمام الإبداع الفلسفي تتمثل في عدم التمييز بين تعليم تاريخ الفلسفة والأفكار الفلسفية، وسير الفلاسفة، ومعاني المفاهيم الفلسفية، وأبرز مدارسها وتياراتها، وبين توجيه الطلاب للقيام بالتفلسف الذاتي وتدريب النفس على بناء الإشكاليات الفلسفية والخوض في تحليلها. أما شروط الدكتور العظم لبروز الفلسفة فتتمثل في تقديره في توفر الحريات السياسية والاجتماعية والدينية، والتراكم المعرفي الذاتي والمكتسب، والقاعدة العلمية مسبقا. لا شك أن هذه الشروط معقولة جزئيا وأقول جزئيا فقط. وهنا نتساءل: أليست الفلسفة نتاجا للأزمات الروحية والحضارية الكبرى؟ أليست الفلسفة كفعل نقدي تحريري هي التي تصنع الحرية ؟ هل كتب كانط، مثلا، ضمن مناخ بحبوحة الحرية في عصره أم أن فلسفته هي نقد للقيود التي تقيد العقل بما هو حرية بما في ذلك القيود التي عانى منها عندما كتب نقده الشهير للدين؟ وهل تفلسف سقراط داخل حدائق الحرية أم أن تفلسفه هو الذي أدى به إلى الموت قهرا بالسم؟ وهل كتب هوسرل ضمن كورال نعمة الحريات أم أنه عانى من الزجر والنفي ومن الحرمان من دخول حتى مكتبة الجامعة التي كان أحد كبار فلاسفتها؟ ألم يطارد البوليس الفرنسي سارتر وميشال فوكو؟ أليست الفلسفة بنت الأزمات الكبرى وفي المقدمة محنة الحريات المغيبة؟ فالفلسفة مشروطة تاريخيا والشرط التاريخي المتكرر في المجتمعات البشرية هو الصراع من أجل توسيع رقعة الحرية. على ضوء هذا نجد على سبيل المثال أن الدافع الحيوي الذي صنع فلسفة فيلسوف معاصر مثل لوي ألتوسير هو نقده فلسفيا للرأسمالية وللمنظومات الأيديولوجية الناعمة التي تشكل الذاتيات وفقا لمصالح الطبقات السائدة والمسيطرة، وللأيديولوجية العنيفة التي تفرض بوسائل الزجر والإكراه. ماذا نقول عن فلسفة الفيلسوف الايطالي أنطونيو غرامشي وهل هي منتوج ظلمات السجن أم أنها منتوج بذخ الحرية؟ أما شرط توفر العلم في المجتمع لإنتاج الفلسفة الذي يثبّته جلال العظم كسياج فهو خلافي بالضرورة. ألم ينتج فلاسفة الإغريق الفلسفة داخل مجتمع كانت تفسر فيه الأمور أسطوريا؟ ثمّ هل العلم نتاج للفلسفة أم أن هذه الأخيرة هي بنت العلم بمعناه التقني والمادي؟ لا شك أن تزامن الفلسفة مع العلوم نسبيا يمكن الإقرار به أيضا وفي هذه الحالة لا يبقى العلم صرفا ومكتفيا بذاته بل إنه ينتج مشكلاته المعرفية والأخلاقية التي تنتج بدورها الأسئلة الفلسفية من داخله، وهكذا نصبح نتحدث عن فلسفة الفيزياء، وفلسفة الطب، وفلسفة الرياضيات، وفلسفة الأخلاقيات القانونية وهلم جرا.