الديني والدنيوي والصراع على الأجيال الجديدة

الثلاثاء 2016/11/01
لوحة: ياسر صافي

كنت قد شرعت في كتاب افتتاحية هذا العدد عندما بلغني نبأ رحيل مروان قصاب باشي، الفنان التشكيلي البرليني بامتياز، والابن الغائب لدمشق المحترقة اليوم بنار الحرب. أيّ خبر هذا، رحيل فنان عظيم صنع أسطورته ضربة وراء ضربة من ريشة بارعة وألوان حارة، وروح متأججة.

عندما يغب مبدع يوصد الموت نافذة في جدار الوجود. وغياب مروان قصاب باشي حدث يظهّر، اليومَ، في الأبصار وجْهَ منْ جرَحَ بريشته السطوح ليظهر تلك الوجوه القلقة السابحة في تيهها وكوابيسها وحطام أحلامها، وجوه في لوحات كل واحدة منها أيقونة للمصائر القاسية لإنسان العصر الحديث.

لم يكن مروان قصاب باشي الطالع، كرونولوجياً، هو ومخيلته، من نور دمشق الظليل، رساما نوستالجياً يستعيد بعاطفة شرقية وجوه الدمشقيين الذين غادرهم ليصنع أسطورته الفنية في الشمال الأوروبي. ولكنه فنان إنساني النزعة نحت ملامح وانتباهات من تلك الوجوه في كل بؤرة للقوة في بورتريهات اشتهرت بعد كفاح فني طويل، وصلت إلى جدران كبريات متاحف الفن في العالم، “تيت غاليري” في لندن، و”متحف الفن الحديث في نيويورك” ومتاحف أخرى في شيكاغو، وطوكيو وبرلين وباريس ومدريد وغيرها.

بين تلك الوجوه في حالاتها القلقة التي صوّرتها ريشته نحت وجهه المفعم بالأسئلة، وجهاً اكتنز أسراراً وشت بها انتباهات وتعبيرات وتأمّلات تسكن نظرات في كل مرة تمنحك انطباعاً جديداً، أو هي تجدد حيرتك من ذلك الانطباع.

بحث لا يتوقف، مع الخطوط والألوان والمنظورات والأبعاد والعجائن اللونية، عبر الطبقات المتعاقبة للزمن ترافق كل ضربة فرشاة ومسحة لون وراء أخرى سبقتها لأيام وأسابيع، على مدار أيام وأسابيع وشهور، وصولا إلى تلك اللوحة التي لم تعد على براءتها الأولى، ولكنها اختزنت المشاعر الحرة والتوترات النفسية والشعورية والأفكار المصطرعة في كيان الفنان، إنها تلك الخلاصة التي صارت لوحة.

يتحدث نقاد الفن الذين رافقوا تجربة مروان قصاب باشي عن الوجوه والدمى في أعماله، والواقع أنّ كلاّ من الدمى والوجوه هي كيانات تشترك لدى هذا الفنان في ما يستنطقها به، وما يجمع بينها، عبر حدسه التراجيدي، من مصائر صاعقة في عالم لم يكفّ مروان قصاب باشي عن استقباله، من جهة الألم أولاً، حتى لكأنّ أعماله التي تقدم أشخاصا يدافعون عن وجودهم بالهروب إلى كياناتهم العزلاء، هم أشخاص مهزومون في عالم عدواني بامتياز.

ليس ثم استاتيكية تباهي بذاتها، ولا مرة، على سطح أعماله. بل إن أعماله التي تنقلت به عبر مدارس الفن التشكيلي من الواقعية، إلى التجريدية والسوريالية بميزات خاصة، لا تريد حتى أن تُرى من أول نظرة، ولا هي تريد أن تستدرج من الناظر إعجاباً، لكنها تسعى إلى أن تتحقق بحرية خاصة. ولو كان من قصد بارز تمكن الإشارة إليه في عمله، فهو نزوعه المستمر في إخفاء الآثار، فهو يرسم لوحاته ليخفي الانطباعات الأولى وراء انطباعات أخرى تتغير تدريجياً إلى أن ينفذ الفنان إلى الجهة الأخرى من موضوعه، حيث يمكن للوحة أن تشعّ بتلك الفكرة الملازمة له، فكرته وهاجسه عن وجود تراجيدي للإنسان في عالم كل ما يمكن أن يقدمه للإنسان هو القلق الوجودي.

غربة مروان قصاب باشي عن دمشق لم تكن، حقيقة، مجرد غربة جغرافية لشرقيّ في عالم غربيّ، ولكنها غربة صوفي في كوكب مهدّد. فهو شرقي وغربي معا. لم يخلع في برلين جلده الشرقي ليكتسي بجلد غربي ويصبح عالميا.

لكن كيف لمن عرف قصاب باشي أن يشيح بوجهه عن تلك المرارة التي سكنت روحه جراء الحريق الذي شبّ وراح يلتهم وطنه الأم سوريا، وقد تنبّه الفنان الذي ما برحت آلام فلسطين والعراق تسكن وجدانه وتحرك مواجعه، ليستيقظ مجدداً على جغرافية جديدة للحريق طالت هذه المرة وطنه الأم، لتهبّ في وجهه مجدداً نار العلاقة الشيطانية بين الاستعمار والاستبداد، وقد انعكست، مراراً، في نظرات أشخاصه نارَ جحيم متصل كان سبباً جوهرياً في غربته الممتدة بعيدا عن مسقط الرأس. ودمشق لدمشقي هي مدينة الأبدية، فكيف به وهو يودّع العالم بأبدية تحترق.

أخيراً لا بد لي من أن أشير، هنا، إلى أن “الجديد” احتفت، منذ أعدادها الأولى، بتجربة مروان قصاب باشي. فكرّست له غلافين من أغلفة سنتها الأولى، وأفردت وما تزال صفحات من أعدادها لعرض رسومه. وهو عبّر عن ابتهاجه بصدور “الجديد” وباهتمامها المتواصل بالفن التشكيلي العربي.

أرض المغامرة والحريق

أعود إلى مبتدأ الكلام، لأتساءل مع المتسائلين في ملفّ “التلاعب بالعقول” المنشور في هذا العدد: كيف أمكن للعنف أن يتفجّر في المجتمعات العربية بالصور المرعبة التي هجمت على الناس في السنوات القليلة الماضية، وبالبربرية التي ظهرت مع ابتكارات الخيال الجرائمي وقد تجلّى في شراكة شريكين: أنظمة استبداد سجنت مواطنيها في كهوف العبودية، ودعاة استبدال الحاضر بالماضي والعيش في كهوفه العمياء. شريكان عسكرا المجتمعات المدنية واعتاشا على العنف وجعلا من الموت لغتهما الوحيدة، ومن الناس قطعانا من الأضاحي.

كيف أمكن لشركة القتل الدولية المسماة “داعش”، أن تنشأ وتتمدد وتسود في سرعة خيالية، وتمارس أعمالها تحت أبصار الجميع من حكام دول وأقاليم ومراكز قرار دولي، وهيئات أممية عابرة للقارات قادرة بشبكاتها الدقيقة على اصطياد حتى البعوض. وها هي تستجلب على نفسها الجيوش والأساطيل وشبكات الإعلام ومعها المنظمات الدولية المطالبة بالقضاء على هذا الوحش العجيب الرهيب المسمّى “داعش”، مخلفة من حولها غباراً كثيفاً حجب عروش الاستبداد والطائفية ولصوص الأرض والدم وبقايا الأحلام.

على أن السؤال الأكثر عمقا وحقيقية والذي يجب أن يطرح اليوم، هو: كيف حدث أن تفجّر كل هذا العنف بصوره البربرية في مساحات من المشرق العربي لم تكن يوما مجرد تراب، ولكن أخصب أرض للمغامرة الإنسانية، ونشأة العلوم والفنون والقيم والديانات ونهوض المدن والحضارات؟ كيف أمكن للعنف أن يتفشّى ويسود في نسل تحدّر من صلب هذه الجغرافيا الحضارية بأقوامها الماهرة والمبدعة، لولا تلك الطبقات العميقة من المكبوتات التاريخية التي تراكمت على مدار عقود من الفشل الفردي والجماعي، وعقود من عسكرة الدول والمجتمعات، واحتلال الإرادة الوطنية، ونشر الفساد، وهيمنة القلّة على الكثرة، واللون الواحد على حديقة الألوان في منظومات إنسانية امتازت بالتنوّع، وانتشار النهب واللصوصية والتهميش وتسييد قيم الوضاعة، ونشر الفن الهابط والأدب الرخيص وثقافة الخضوع وممالأة الحاكم، جنبا إلى جنب مع انتهاج سياسة القسوة المفرطة في قمع المعارضين وتكميم الأفواه وقتل المبادرات الفردية، بل وتحطيم كل روح تنزع إلى الابتكار وهو ما أدّى إلى لجم الشخصية العربية، وتفشّي الشعور بالجرح النرجسي لدى الأنا والجماعة معا، وهو ما أدّى إلى تمزيق وشائج العلاقة بين الذات الفردية والذات الجماعية، ووأد أحلام أجيال متعاقبة هي وتطلّعاتها، وقد طحنت بين حجري رحى الاستبداد والظلام والاستعمار الأجنبي لأجزاء من الجغرافيا العربية.

مسؤولية النخب

إن القيمة الحقّ للسؤال الجوهري عن أسباب تفجّر ينابيع العنف بدلا من ينابيع الخصب في مجتمعات عربية خصبة في كل شيء، إنما هو كامن في الإجابة الصريحة والحقيقية عن الأسئلة السابقة على هذا العنف والمنتجة له، وفي المقدم منها أزمة الحرية والكرامة، وهو ما تحاول مقالات هذا الملف التصدي له لتضع تحت ضوء الأسئلة ثقافة المجتمع ومصادر العنف المتسللة إلى ثقافة النشء الجديد، وقد بات واضحاً أن الأزمات الثقافية والسياسية الضاربة في المجتمعات العربية، وفي صلبها أزمة إقحام الديني في الدنيوي في الصراع المجتمعي، مصنعا للعنف وولادة لا تتوقف للشخصية العنيفة. وبالتالي فإن الوصول إلى الدواء إنما هو كامن في التشخيص الدقيق للداء، بعيداً عن المكابرة والتكاذب على الذات، وسياسات التملص من المسؤولية التي تبديها النخب العربية أكانت الحاكمة أو تلك التي تنافسها على الحكم، وبينهما قطعاً النخب التي تصف نفسها بالمهمّشة وتستكين إلى مواقعها في هوامش المجتمعات مجترة الأحزان بينما هي تطلق لسان الهجاء للظلامي والمستبد، من دون أن تبتكر لنفسها الصيغ التي تكفل لها تأثيراً حقيقياً في جمهور بات ضحية الجميع.

إنها الأسئلة الحارقة، الأسئلة المحرجة، الأسئلة التي تنتظر من النخب المنادية بالتغيير النزول إلى ساحة الفعل للإجابة عنها لا البقاء في هوامش العطالة عن العمل، والقعود بلا أمل في غدٍ، مسترخية كسلى في ظلال قدر جماعي أليم.

لندن في تشرين الثاني/ أكتوبر 2016

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.