الباب‭ ‬الضيق

الثلاثاء 2016/11/01
لوحة: مروان قصاب باشي

للذاكرة الأدبية صفحات عميقة تبرز أن ثمة علاقة قديمة جديدة بين السياسة والأدب، بل إن الكثير من الأدباء اللامعين في العالم عملوا في السياسة، وانتموا إلى أحزاب وتجمعات. نعرف أن الروائي اليوناني الشهير نيكوس كازنتزاكي كان في مرحلة ما شيوعيا، ثم وجد أن العقيدة الشيوعية لا تتسع لرؤاه، فغادرها، ونعرف أن اتهامات عديدة وجّهت إلى الألمانيين شبنغلر، صاحب كتاب «سقوط الحضارة»، والفيلسوف العظيم نيتشه، بأنهما نازيان. ووجهت اتهامات إلى الروائي الكبير أرنست همنغواي أنه انخرط في أجهزة مخابرات عندما عمل مراسلا حربيا في أوروبا. أما الروائي آرثر كاستلر فقد اتهم بأنه محض عميل في الـ»سي آي إيه»، واتهم الروائي ميلان كونديرا بأنه مرتد بسبب لجوئه إلى فرنسا. والقائمة تطول.

أما الأدباء العرب، فإن نسبة كبيرة منهم عملت في السياسة، وتلقى الأدباء مديح السياسيين أو غضبهم، وتمتعوا بولاء أجهزة الإعلام الرسمية لإبداعهم أو عانوا من تجاهلها وتشويهها متى ما اختلف الأديب مع السياسيين الذين يديرون هذه الوسائل أو يوجهون تعليماتهم إليها.. لكن الأثر النهائي الذي يبقى للأديب هو تجربته الإبداعية ليس إلا، وقد حاولت مؤسسات سياسية وأحزاب متعددة أن تكسب الأدباء لأسباب تتعلق بتأثيرهم ونجوميتهم في المجتمع الذي ينتمون إليه، ولهذا غض السياسيون الطرف عن تصرّفات الأدباء، واتسع صدرهم لفردية الأديب ونزواته (حسب تعبيرهم) أملا في النتائج الايجابية التي يأملونها في انتماء الأدباء إلى حركاتهم السياسية.

وفي كل هذا كان السياسي الطرف المستفيد من العلاقة، وكان الأديب الطرف المتضرر فيها على الرغم من المميزات التي يتيحها العمل السياسي لهذا الأديب أو ذاك. ذلك أن الأديب ذو رؤية إبداعية تتصل بجوهر الحياة، وهو أبعد وأكثر فهما وشمولية من رؤية سياسية تبقى أسيرة التوازنات والمصالح في تعالقها بحركة المجتمع وتقلبات السياسة المحلية والدولية.

ولكن، هل يحمل الأدباء وعيا موحّدا لرؤيتهم، وعلاقتها بالعمل السياسي؟

من الصعب تصور حالة مثل هذه لاعتبارات أهمها أن الأديب ليس مطالبا بتوحيد رؤيته مع أحد، تلك خصوصيته، ومن العسير التخلّي عنها، فإذا كانت هذه هي الحال مع أقرانه في التجربة، فكيف يمكن التنازل عن الخصوصية لمصلحة تقنين سياسي يهدف إلى تحقيق نتائج منظورة وملموسة؟

ثمة حقيقة لا يمكن إغفالها، وخلاصتها الحاجة المادية للأديب العربي، فهو يحتاج إلى وظيفة تستوعب وضعه، ويحتاج إلى دخل يعينه على حياة مستقرة له ولعائلته، ويحتاج إلى وسائل لنشر نتاجه لا يكون الثمن فيها تنازله عن رؤيته الخاصة لصالح رؤى آخرين يمتلكون الإمكانات المادية، ويحتاج، ويحتاج.

كل ذلك ليس متيسّرا، وإذا ما تيسّر بعضه، فلذلك ثمن ينبغي على الأديب دفعه بشكل ما، سواء اعترف به أم لم يعترف.

دور النشر، ووسائل الإعلام، والأجهزة الثقافية تمتلك سياسات ظاهرة أو مستترة، وهي ليست مستعدة لتبني أيّ نتاج ثقافي لا يتفق مع منهجها أو في الأقل لا يتعارض معه.

وواضح أن الأزمة التي يعيشها الأديب العربي بشكل عام والأديب العراقي بشكل خاص تنبع من عدم قدرة نتاجه على تحقيق تسويق مربح يمكن أن يتيح له مردودات مالية تجعله في غنى عن كل مطبّ.

وإذا كانت هذه معاناة الأديب المتكوّن المعروف، فكيف تكون الحال مع أديب شاب يشقّ طريقه دون رعاية أو مساندة؟

إن كثيرا من الاتهامات التي توجّه للأديب تدور حول تساهله في النشر، والتنقل من صحيفة إلى أخرى، وكتابة موضوعات لا تتصل بتجربته. هذه الاتهامات توجّه للأدباء، ثم تحاول بناء قناعة أو استنتاج خاطئ مفاده أن الأديب مستعد للتنازل عن الكثير لقاء الفتات.

إنها اتهامات ظالمة، تنتهي إلى نتائج أكثر ظلماً، فعندما يكون الأديب طبيبا، لا أحد يتّهمه بأن عمله الطبي تنازل عن إبداعه.. وعندما يكون معلّما، لا أحد يتهمه بأن عمله التربوي تنازل عن إبداع، فلماذا يكون العمل الصحافي، وهو (مهنة من لا مهنة له من الأدباء) تنازلا عن الإبداع؟

إن الطريقة التي تتجاوز واقع الأديب، وطبيعة ظروفه، طريقة مطعونة بالظلم واللاواقعية، حتى وإن ارتدت ثوب التباكي على الأديب، ودوره، وتجربته، وآفاقها.

الأديب مسؤول عمّا يكتبه، مسؤول عن الآراء أو الاقتراحات التي يقدّمها، مسؤول عمّا ينضح من اعتقاداته التي يحاول نشرها.

أما محاولات محاصرته، وجعله مشروع شهيد في أمر لم يختره، فلا مصداقية لها، وهي محض كلام مترف يقال في غير زمانه أو مكانه.

ثمة مثل يقول «لا يضرّ صاحب المهنة إلا ممتهنها»، بمعنى أن الأديب أقدر من غيره على الإضرار بالأدباء، والفلاّح أقدر من غيره على الإضرار بالفلاّحين. وهكذا فإذا ما صح المثل، ألا تشفع الساعة الخامسة والعشرون التي نعيشها، ساعة الحرب، في كف الأذى؟ إن الأديب كأيّ مواطن، حرّ في اختياراته وانتماءاته وعقيدته. المهم أن دوره وقيمته في الحركة الثقافية لا تحدد على وفق انتماءاته السياسية، بل على وفق تجربته الإبداعية ونتاجاته.

«ما أضيق الباب، وأحرج الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون الذين يجدونه، من ثمارهم تعرفونهم».

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.