المطرود من المسرح

الخميس 2016/12/01
تخطيط: حسين جمعان

ثمة مصائر وأقدار وأمزجة مشتركة بيننا وبين المكان الذي نسكنه ويسكننا، وفي مدينتي قامشلي التي تُعد توأم المسرح، لتزامن العروض المسرحية مع ولادتها في بداية العقد الثالث من القرن الفائت، لا يقتصر عشق المسرح فيها على شريحة معينة، فلقد كنا نحن الصغار قبل نصف قرن تقريباً نرتاد العروض المسرحية مثل الكبار، لنقوم، وبعد مغادرة المسرح،وفي زاوية ما من الشارع، بإعادة أداء مشاهد المسرحية التي حضرناها، ولم يكن هذا الفعل يقتصر على المسرح فقط، بل يشمل السينما أيضاً.

كان ذلك كلّه يحدث في جوّ من التهريج والمزاح واللعب، لينتهي بالنسبة إلى الجميع بانتهاء وغياب هذا الجو، إلا أنا، إذ أن هذا اللعب والمزاح راح يتحول لديّ إلى حلم الصعود على خشبة المسرح، والتمثيل أمام الجمهور، وما زاد في تعزيز هذا الحلم، نظرات إعجاب الأهل وضحكاتهم على تقليدي ضيوفنا بعد انتهاء السهرة ومغادرتهم بيتنا، ليكبر الحلم ويُصبح هدف حياتي.

ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟

- ممثل.

كان هذا جوابي السّريع على سؤال الكبار التقليدي للأطفال، لا طبيباً ولا مهندساً، الجواب التقليدي للأطفال الذين كانوا يرددون رغبات الكبار أنفسهم، وما يزالون. وحدث ذات يوم أن جاء مخرج مسرحي من المدينة إلى صفنا، وأعلن عن حاجته إلى أطفال ليشاركوا في عرض مسرحي.

ولكم أن تتخيلوا الضجة التي حصلت في الصف، ورغم تهديد المعلم لتهدئة الجو، وخجلي الذي ابتليت به، وما زلت، استطعت أن أسجّل أسمي لدى الوافد الفضائي. عدت إلى البيت وأنا أكاد أطير من شدة الفرح، وقبل أن أتناول طعامي خرجت إلى الشارع ورحت أتصيد رفاقي لأبلغهم بهذه الفرصة الذهبية، وبأنني سأمثل في المركز الثقافي مع كبار الفنانين.

وفي اليوم التالي ذهبت إلى مكان البروفة، وفي الطريق إلى هناك لم أكن أسير، بل كنت أُحلق، مررت بدكان الممثل عمر بصمجي، الذي لطالما كنت أقف أمام بابه لأتأمله وهو منهمك بِكيّ الملابس، وأجريت مشهداً متخيلاً بيني وبينه، ثم تابعت طريقي إلى المركز الثقافي، الذي دخلته وأنا نهب لمشاعر شتى: سعيدة وخائفة وحرجة.

كانت القاعة غاصة بأطفال وهم في حالة صخب، انتبذت مكاناً قصياً ورحت أنتظر، دخل المخرج وأعلن من فوره عن الاختبار، وراح يختبرنا من خلال تقديم مشاهد مرتجلة، وحركات وقراءة بصوت عال، أدّى بعض الأطفال بشكل جيد. وجاء دوري وطلب منّي المخرج تقديم مشهد أو تقليد حركات أو تصرفات بعض الناس، فأحسست بارتباك شديد وراح الدم يجري في عروقي سريعاً وحاراً، وجمدت كتمثال، كنت في الأثناء أتخيل المَشاهد وأجريها في مخيلتي بشكل مدهش، مشاهد لا أجمل ولا أحلى، لا أعرف كم من الوقت مضى، أو ماذا جرى حولي وأنا أهيم في عالمي الخيالي، فجأة انتبهت لوجه المخرج وهو ينقبض بضيق، وسمعته يقول بحنق: حل عنا يا، قال ممثل قال.

وحين غادرت المكان صَفَقَ الباب خلفي بقوة. لم أنمْ ليلتها وأنا أعيد مشهد طردي وصفق الباب، المرَّة تلو المرّة، وفي صباح اليوم التالي قالت لي أمي مستغربة: لقد كنت تهذي طول الليل. لم أعدْ أرتاد المسرح، خشية مصادفة ذلك المخرج هناك، الذي لا بدَّ أن يسخر مني حين يقع بصره عليَّ، وربما يلجأ إلى طردي ومنعي من الدخول. وفي الحيّ، كنت حين أجد رفاقي يعيدون تمثيل مسرحية حضروها، أتابع تمثيلهم بصمت وانكسار.

واستمر هذا الحال زمناً، حتى تعرفت على صديق في بيته مكتبة، وكم كانت فرحتي عظيمة حين وقع بصري على نصوص مسرحية، أعارني إياها بسرور، لم تكن سوى بضعة نصوص لتوفيق الحكيم، ثم قادني أخو هذا الصديق إلى مكتبة المركز الثقافي، فاستعرت منها كثيرا من النصوص المسرحية، العربية والأجنبية، وقرأتها بنهم وانفعال، وعدت بعدها لمتابعة العروض المسرحية، بتهيب وتردد، ثم بثقة راحت تزداد، إلى درجة أنني، وبعد انتهاء كل عرض أتابعه، أسارع إلى المشاركة في المناقشة، لأصبح في فترة وجيزة من أهم نقاد العروض في مدينتي، وبدأ كثير من المسرحيين في المدينة يخطبون ودي، وكان ذلك المخرج واحدا منهم، والذي لم يكن لوجودي أيّ أثر في ذاكرته، فيما كان حضوره في المكان مثار مشاعر مختلطة في داخلي، رغم حضوره المسرحي المتواضع جداً.

وتحول رد الفعل هذا، الذي ملأني انتشاء، بل غروراً، مع مرور الأيام إلى فعل قراءة واعية، وإلى هدف أسمى، لأكتب النصوص المسرحية بغزارة حتى بلغ عدد ما كتبته في ربع قرن أكثر من عشرين نصاً مسرحياً، إضافة للقصص والبحوث والدراسات المسرحية، وحصلت على أكثر من جائزة مسرحية كان آخرها المرتبة الأولى عن جائزة الهيئة العربية للمسرح سنة 2000 عن مسرحيتي «الطائر الحكيم»، وقُدمت نصوصي، الموجهة للأطفال خاصة، في أغلب مسارح الوطن العربي، من مشرقه حتى مغربه. ورغم ذلك، لمّا تزل تلك الأمنية العزيزة طازجة وحيّة في داخلي، وتلك الحادثة أيضاً.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.