إصلاح‭ ‬الدين‭ ‬أم‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني

الأحد 2017/01/01
لوحة: محمد الوهيبي

تبين‭ ‬لنا‭ ‬تداعيات‭ ‬المشهد‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬ست‭ ‬سنوات‭ ‬ماضية‭ ‬أن‭ ‬انهزام‭ ‬وانكسار‭ ‬الإسلاموية‭ ‬السياسية‭ ‬‭(‬السنية‭ ‬والشيعية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭ ‬وتوازٍ‭)‬‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬لانتصار‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬أنظمة‭ ‬القمع‭ ‬والاستبداد‭ ‬والفساد‭ ‬والإجرام‭ ‬في‭ ‬بلداننا‭. ‬لقد‭ ‬كشف‭ ‬أداء‭ ‬الإسلاموية‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬ومحاولاتها‭ ‬المحمومة‭ ‬والمسعورة‭ ‬أحياناً‭ ‬لامتطاء‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي،‭ ‬وتسلقها‭ ‬على‭ ‬أكتاف‭ ‬صانعيها‭ ‬وخزانها‭ ‬الأساس‭ ‬من‭ ‬الشبان‭ ‬والشابات،‭ ‬أبناء‭ ‬وبنات‭ ‬الجيل‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر،‭ ‬سعياً‭ ‬للوصول‭ ‬للسلطة،‭ ‬بأن‭ ‬الإسلاموية‭ ‬السياسية‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬المبرر‭ ‬والضامن‭ ‬الأول‭ ‬لبقاء‭ ‬أنظمة‭ ‬القمع‭ ‬والاستبداد‭ ‬وأنها‭ ‬بأدائها‭ ‬تماهت‭ ‬مع‭ ‬أداء‭ ‬تلك‭ ‬الأنظمة‭ ‬المذكورة‭ ‬حتى‭ ‬كادت‭ ‬تصبح‭ ‬المعادل‭ ‬الموضوعي‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬تدمير‭ ‬ربيع‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية‭ ‬وأحلامها‭. ‬ولنا‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬نموذج‭ ‬حَيٌّ‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬العداوة‭ ‬وذاك‭ ‬التكافل‭.‬

يدفع هذا‭ ‬الواقع‭ ‬وإدراكه‭ ‬العميق‭ ‬اليوم‭ ‬بعض‭ ‬الأصوات‭ ‬الثقافية‭ ‬والفكرية‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الساحات‭ ‬العامة‭ ‬للدعوة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬قراءة‭ ‬المشهد‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬الجدلية،‭ ‬أحياناً،‭ ‬والتكافلية،‭ ‬أحياناً‭ ‬أخرى،‭ ‬بالانتماء‭ ‬الديني‭ ‬ودور‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬الدنيوي‭ ‬وعلاقة‭ ‬الفكر‭ ‬الإيماني‭ ‬بالفكر‭ ‬العالمي‭ ‬والعلمي‭.‬

ويمكن‭ ‬للمراقب‭ ‬تقصّي‭ ‬ملامح‭ ‬مثل‭ ‬هكذا‭ ‬إدراك‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬الشرائح‭ ‬العلمانية‭ ‬واللادينية‭ ‬واليسارية‭ ‬العربية،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬بضعة‭ ‬ملامح‭ ‬جدية‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬ظهرانين‭ ‬الشرائح‭ ‬المتدينة‭ ‬والإسلاموية‭ ‬واليمينية‭ ‬العربية‭ ‬أيضاً‭. ‬لا‭ ‬بل‭ ‬ويمكن‭ ‬لهذا‭ ‬المراقب‭ ‬أن‭ ‬يسمع‭ ‬أصواتاً‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬تلك‭ ‬الشرائح‭ ‬الأخيرة‭ ‬تطالب‭ ‬بإعادة‭ ‬إحياء‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬وتقويم‭ ‬مساراته‭ ‬وبثّ‭ ‬الديمومة‭ ‬في‭ ‬عروقه‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ثورة‭ ‬على‭ ‬الدين‭ ‬وتمرد‭ ‬على‭ ‬تعاليمه‭ ‬وتهميش‭ ‬كليّ‭ ‬لدوره‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الشروع‭ ‬بإصلاح‭ ‬ديني‭ ‬جاد‭ ‬وشامل‭ ‬وتحويل‭ ‬مثل‭ ‬هكذا‭ ‬إصلاح‭ ‬ديني‭ ‬إلى‭ ‬حامل‭ ‬أساسي‭ ‬لعملية‭ ‬الإحياء‭ ‬المذكورة‭ ‬ورافعة‭ ‬قاعدية‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التقويم‭ ‬والديمومة‭ ‬المرجوّتين‭. ‬ويحاجج‭ ‬بعض‭ ‬هؤلاء‭ ‬بأن‭ ‬مثل‭ ‬هكذا‭ ‬إصلاح‭ ‬ديني‭ ‬مارسته‭ ‬دول‭ ‬الغرب‭ ‬الأوروبي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الإصلاح‭ ‬البروتستانتي‭ ‬ومارسته‭ ‬أميركا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الثورة‭ ‬الروحانية‭ ‬المتمثلة‭ ‬بحركتي‭ ‬“الصحوة‭ ‬العظيمة”‭ ‬اللتين‭ ‬قام‭ ‬بهما‭ ‬إنجيليون‭ ‬ومتدينون‭ ‬تقويون‭.‬

مما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬بأن‭ ‬الدعوة‭ ‬لإطلاق‭ ‬حملة‭ ‬“إصلاح‭ ‬ديني”‭ ‬دعوة‭ ‬مهمة‭ ‬جداً‭ ‬وبناءة‭ ‬ومثمرة،‭ ‬ومطلوبة‭. ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أيضاً‭ ‬بأنها‭ ‬ليست‭ ‬بالدعوة‭ ‬الجديدة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬المسبوقة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر‭. ‬فكلنا‭ ‬يذكر‭ ‬طبعاً‭ ‬دعوة‭ ‬“الإصلاح‭ ‬الديني”‭ ‬الشهيرة‭ ‬والمؤثرة‭ ‬التي‭ ‬دعا‭ ‬إليها‭ ‬سيد‭ ‬قطب‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬حسن‭ ‬البنا‭ ‬والتي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬تيار‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬أولاً‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬تقريباً‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬أنَّ‭ ‬جماعة‭ ‬الإخوان‭ ‬ستكون‭ ‬هي‭ ‬الطليعة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬الشعوب‭ ‬المسلمة‭ ‬العربية‭ ‬وتقويم‭ ‬إعوجاجات‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬يعيشون‭ ‬فيها‭ ‬وإنقاذها‭ ‬من‭ ‬غياهب‭ ‬الفقر‭ ‬والجهل‭ ‬والفساد‭ ‬والهزيمة‭ ‬والوهن‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬“إصلاح‭ ‬ديني”‭ ‬يقدم‭ ‬الإسلام‭ ‬بحدّ‭ ‬ذاته‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬الحل‭ ‬ومصدر‭ ‬الخلاص‭ ‬والحرية‭ ‬والتفوق‭ ‬والانتفاض‭ ‬والنصر‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬الوهن‭ ‬والهوان‭ ‬والهزيمة‭.‬

‭ ‬إذن،‭ ‬الدعوة‭ ‬لإنقاذ‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬انحطاطه‭ ‬وإحياء‭ ‬روح‭ ‬الثورة‭ ‬والانتفاض‭ ‬على‭ ‬الانحطاط‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬“إصلاح‭ ‬ديني”‭ ‬ليست‭ ‬بالفكرة‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬العربية‭ ‬المعاصرة‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نلتفت‭ ‬إليه‭ ‬ونفككه‭ ‬بتأنٍ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نتبنى‭ ‬تلك‭ ‬الدعوة‭ ‬أو‭ ‬نرفضها‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يلي‭: ‬ما‭ ‬هو‭ ‬المقصود‭ ‬بـ”الإصلاح‭ ‬الديني”‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬من‭ ‬يدعو‭ ‬إليه؛‭ ‬وهل‭ ‬ما‭ ‬يحتاجه‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬هو‭ ‬“إصلاح‭ ‬بدلالة‭ ‬وواسطة‭ ‬الدين”‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬يحتاج‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬“إصلاحا‭ ‬للدين‭ ‬بحد‭ ‬ذاته”؟‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬فرق‭ ‬بنيوي‭ ‬مفاهيمي‭ ‬ومنهجي‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬لحظه‭ ‬بين‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬إصلاح‭ ‬ديني‭ ‬بمعنى‭ ‬إجراء‭ ‬إصلاح‭ ‬ما‭ ‬بدلالة‭ ‬الفكر‭ ‬الديني‭ ‬وبالاعتماد‭ ‬عليه‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬جعله‭ ‬المرجع‭ ‬والمقياس‭ ‬والتوجه‭ ‬الفكري‭ ‬والاستراتيجي‭ ‬المسيطر‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬الإصلاح‭ ‬وآلياته‭ ‬ومنطلقاته‭ ‬وأهدافه‭ ‬ونفاذاته‭ ‬العملياتية،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬إجراء‭ ‬إصلاح‭ ‬ديني‭ ‬بمعنى‭ ‬القيام‭ ‬بعملية‭ ‬تعريض‭ ‬الفكر‭ ‬والخطاب‭ ‬الدينيين‭ ‬بحد‭ ‬ذاتهما‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ ‬تفكيك‭ ‬وتمحيص‭ ‬وتقييم‭ ‬وتصحيح‭ ‬وتقويم‭ ‬وتجديد‭ ‬وربما‭ ‬نقض‭ ‬وفق‭ ‬آليات‭ ‬ومنطلقات‭ ‬ومنهجيات‭ ‬تفكير‭ ‬وتحليل‭ ‬وتقييم‭ ‬وتفعيل‭ ‬وعمل‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬دائرة‭ ‬الدين‭ ‬والمخيال‭ ‬الديني‭ ‬بحد‭ ‬ذاته،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬دائرة‭ ‬الإرث‭ ‬الديني‭ ‬نفسه،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مقارنة‭ ‬ومواجهة‭ ‬مدارس‭ ‬دينية‭ ‬مختلفة‭ ‬ببعضها‭ ‬البعض‭ ‬وجعلها‭ ‬تتحدى‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬وتفككك‭ ‬ذاتها‭ ‬بذاتها‭ ‬وتعيد‭ ‬بناء‭ ‬ذاتها‭ ‬بذاتها،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

تبين‭ ‬لنا‭ ‬تداعيات‭ ‬المشهد‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬ست‭ ‬سنوات‭ ‬ماضية‭ ‬أن‭ ‬انهزام‭ ‬وانكسار‭ ‬الإسلاموية‭ ‬السياسية‭ ‬‭(‬السنية‭ ‬والشيعية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭ ‬وتوازٍ‭)‬‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬الوحيد‭ ‬لانتصار‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬أنظمة‭ ‬القمع‭ ‬والاستبداد‭ ‬والفساد‭ ‬والإجرام‭ ‬في‭ ‬بلداننا

هناك‭ ‬فرق‭ ‬إذن‭ ‬بين‭ ‬“إصلاح‭ ‬ديني”،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وبين‭ ‬“إصلاح‭ ‬الدين”،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬وهذا‭ ‬الفرق‭ ‬نلحظه‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬حين‭ ‬نقرأ‭ ‬وندرس‭ ‬تاريخ‭ ‬الإصلاح‭ ‬البروتستانتي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭. ‬فالإصلاح‭ ‬البروتستانتي‭ ‬بدأ‭ ‬كإصلاح‭ ‬للدين‭ ‬في‭ ‬بداياته،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مراحل‭ ‬تطوره‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬محاولة‭ ‬إصلاح‭ ‬المجتمع‭ ‬بواسطة‭ ‬الدين‭ ‬وبدلالة‭ ‬التديُّن‭.‬

بدأ‭ ‬الإصلاح‭ ‬البروتستانتي‭ ‬مع‭ ‬خطاب‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ ‬الإصلاحي‭ ‬في‭ ‬ألمانيا،‭ ‬والذي‭ ‬انطلق‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬مدرسة‭ ‬اللاهوت‭ ‬وصفوف‭ ‬التعليم‭ ‬اللاهوتي‭ ‬المعرفي‭ ‬والكهنوتي‭ ‬الصرف‭. ‬اكتشف‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬سوء‭ ‬فهم‭ ‬وتفسير‭ ‬وتوظيف‭ ‬للتعليم‭ ‬اللاهوتي‭ ‬المسيحي‭ ‬الكتابي‭ ‬والآبائي‭ ‬العقائدي‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬الكنيسة‭ ‬وفي‭ ‬ظهرانين‭ ‬لاهوتييها‭ ‬ومعلميها‭ ‬تقصى‭ ‬لوثر‭ ‬معالمه‭ ‬والبرهان‭ ‬على‭ ‬وجوده‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مراقبته‭ ‬النقدية‭ ‬لممارسات‭ ‬الإكليروس‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الكنيسة‭.

‬لهذا‭ ‬تمرد‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ ‬على‭ ‬الكنيسة‭ ‬فكرياً‭ ‬ولاهوتياً‭ ‬وعلق‭ ‬اعتراضاته‭ ‬الخمسة‭ ‬والتسعين‭ ‬على‭ ‬بوابة‭ ‬كنيسة‭ ‬كلية‭ ‬اللاهوت‭ ‬كي‭ ‬يطرحها‭ ‬للنقاش‭ ‬العام‭ ‬ويطلق‭ ‬بواسطتها‭ ‬شرارة‭ ‬لإصلاح‭ ‬الفكر‭ ‬الإيماني‭ ‬المسيحي‭ ‬الكنسي‭ ‬والديني‭ ‬بحدّ‭ ‬ذاته‭. ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬بدأ‭ ‬بحملة‭ ‬لإصلاح‭ ‬الدين‭ ‬بحدّ‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬داخله‭. ‬سار‭ ‬في‭ ‬ركب‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر،‭ ‬وبعد‭ ‬حوالي‭ ‬العقد‭ ‬على‭ ‬بدء‭ ‬الأول‭ ‬لإصلاحه‭ ‬الدّيني،‭ ‬القانوني‭ ‬واللاّهوتي‭ ‬الفرنسي‭ ‬جون‭ ‬كالفن‭. ‬فكالفن‭ ‬أيضاً‭ ‬تبنّى‭ ‬وبقوة‭ ‬مشروع‭ ‬إصلاح‭ ‬الدين‭ ‬عينه‭ ‬من‭ ‬داخله‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬تفكيكه‭ ‬خطابه‭ ‬اللاهوتي‭ ‬والإيماني‭ ‬وإعادة‭ ‬تشكيله‭ ‬بشكل‭ ‬يصلح‭ ‬المؤسسة‭ ‬الإكليريكية‭ ‬والكنسية‭ ‬من‭ ‬داخلها‭ ‬كي‭ ‬تخدم‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬ولا‭ ‬تستعبده‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭.
‬بدأ‭ ‬كالفن‭ ‬بإصلاح‭ ‬للدين‭ ‬في‭ ‬ذاته،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬انجرف‭ ‬لاحقاً‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬آخر‭ ‬جعله‭ ‬يستخدم‭ ‬الدين‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭ ‬كأداة‭ ‬للإصلاح‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭. ‬قام‭ ‬كالفن‭ ‬بهذه‭ ‬التجربة‭ ‬وهذا‭ ‬التحوّل‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬جنيف‭ ‬في‭ ‬سويسرا،‭ ‬حين‭ ‬وصل‭ ‬إليها‭ ‬كمعلم‭ ‬لاهوتي‭ ‬ومشرِّع‭ ‬كنسي‭. ‬وبدل‭ ‬أن‭ ‬يدعو‭ ‬كالفن‭ ‬إلى‭ ‬إصلاح‭ ‬للفهم‭ ‬الإيماني‭ ‬والتعليم‭ ‬الديني‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الكنيسة‭ ‬في‭ ‬جنيف،‭ ‬عمل‭ ‬على‭ ‬استخدام‭ ‬رسالة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬تطبيق‭ ‬“إصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬وبواسطته”‭ ‬للحياة‭ ‬المدنية‭ ‬والعامة‭ ‬في‭ ‬المدينة‭. ‬تحول‭ ‬الفكر‭ ‬اللاهوتي‭ ‬من‭ ‬فكر‭ ‬هدفه‭ ‬إصلاح‭ ‬الإيمان‭ ‬الديني‭ ‬إلى‭ ‬فكر‭ ‬مرجعي‭ ‬أبوي‭ ‬تقريري‭ ‬هدفه‭ ‬استخدام‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬“إصلاح”‭ ‬المجتمع‭ ‬وفق‭ ‬مفاهيم‭ ‬وقيم‭ ‬وافتراضات‭ ‬ولغايات‭ ‬تقررها‭ ‬الدوغما‭ ‬الدينية‭ ‬والتشريع‭ ‬الروحي‭ ‬‭(‬فقهية‭ ‬مسيحية؟‭)‬‭. ‬أدّى‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬من‭ ‬“إصلاح‭ ‬للدين”‭ ‬إلى‭ ‬“إصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين”‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬أمور‭ ‬جيدة‭ ‬ومفيدة‭ ‬لمدينة‭ ‬جنيف‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه،‭ ‬وحين‭ ‬تم‭ ‬استغلاله‭ ‬والإسراف‭ ‬فيه‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬الوصاية‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭ ‬ورقابتها‭ ‬والأبوية‭ ‬على‭ ‬أخلاقيات‭ ‬وسلوكيات‭ ‬وممارسات‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية،‭ ‬تحول‭ ‬الدين‭ ‬إلى‭ ‬وسيلة‭ ‬وصاية‭ ‬وقمع‭ ‬وأدلجة‭ ‬وتدجين.
وقد‭ ‬انتهت‭ ‬قصة‭ ‬كالفن‭ ‬مع‭ ‬مدينة‭ ‬جنيف‭ ‬بالفشل‭ ‬الذريع‭ ‬لفكرة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني،‭ ‬فالنظام‭ ‬الديمقراطي‭ ‬‭(‬القائم‭ ‬على‭ ‬قرار‭ ‬الجماعة‭ ‬بالتصويت‭ ‬على‭ ‬كافة‭ ‬شؤون‭ ‬المدينة‭ ‬وحياة‭ ‬الناس‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬أسسه‭ ‬كالفن‭ ‬كأول‭ ‬نظام‭ ‬ديمقراطي‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬كان‭ ‬بعينه‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬صوّت‭ ‬على‭ ‬طرد‭ ‬كالفن‭ ‬خارج‭ ‬المدينة‭ ‬وتجريده‭ ‬من‭ ‬موقعه‭ ‬فيها‭ ‬ونفيه‭ ‬منها‭.‬

لا‭ ‬مكان‭ ‬هنا‭ ‬للاستطراد‭ ‬أو‭ ‬الإسهاب‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬تجربة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬عصر‭ ‬النهضة‭ ‬البروتستانتية،‭ ‬وأنا‭ ‬لست‭ ‬أبداً‭ ‬بمعرض‭ ‬إطلاق‭ ‬حكم‭ ‬قيمة‭ ‬سلبي‭ ‬أو‭ ‬إيجابي‭ ‬على‭ ‬تجربة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الكالفيني‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬جنيف‭. ‬هي‭ ‬تجربة‭ ‬تعلم‭ ‬منها‭ ‬البروتستانت‭ ‬المُصـلَح‭ ‬ومازال‭ ‬الكثير‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الدروس‭ ‬والعِبَر‭ ‬اللاهوتية‭ ‬والمجتمعية‭ ‬والتاريخية‭.‬ المهم‭ ‬هنا‭ ‬أنني‭ ‬ألفت‭ ‬انتباه‭ ‬من‭ ‬يقولون‭ ‬بأنَّ‭ ‬أوروبا‭ ‬اختبرت‭ ‬إصلاحاً‭ ‬دينياً‭ ‬في‭ ‬تاريخها‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬اختبرته‭ ‬أوروبا‭ ‬يصلح‭ ‬لنختبره‭ ‬نحن‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬ألفت‭ ‬انتباههم‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬اختبرته‭ ‬أوروبا‭ ‬متمثلاً‭ ‬بالفكر‭ ‬المذكور‭ ‬في‭ ‬الأعلى‭ ‬كان‭ ‬أمرين‭ ‬“إصلاح‭ ‬للدين‭ ‬المسيحي‭ ‬بحد‭ ‬ذاته”‭ ‬و”إصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬المسيحي‭ ‬وبدلالته”‭. ‬هاتان‭ ‬التجربتان‭ ‬متمايزتان‭ ‬بالطبيعة‭ ‬والتوجهات‭ ‬والمفهوم‭ ‬ولا‭ ‬يجب‭ ‬الخلط‭ ‬بينهما‭ ‬أبداً‭ ‬ولا‭ ‬التعامل‭ ‬معهما‭ ‬على‭ ‬أنهما‭ ‬ظاهرة‭ ‬واحدة‭. ‬خلقَ‭ ‬إصلاح‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬حالة‭ ‬عميقة‭ ‬وفاعلة‭ ‬وعظيمة‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬والتقدم‭ ‬والتحرر‭ ‬مهدت‭ ‬السبيل‭ ‬وفتحته‭ ‬كاملاً‭ ‬لمرحلة‭ ‬عصر‭ ‬الأنوار‭ ‬والحداثة‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬اللاحقين‭ ‬وأوصلت‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية‭ ‬عموماً‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وصلت‭ ‬إليه‭ ‬اليوم‭. ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬سببَّ‭ ‬الإصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬وبفرضه‭ ‬كمرجع‭ ‬تقريري‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬مشاكل‭ ‬وعثرات‭ ‬وتحديات‭ ‬سلبية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الأوروبي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬عشر‭ ‬‭(‬قاد‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬ومع‭ ‬خلق‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬إصلاحاً‭ ‬مضاداً‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬وبواسطة‭ ‬سلطته‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬الثلاثين‭ ‬عاما‭ ‬وإلى‭ ‬مذابح‭ ‬دينية‭ ‬بشعة‭)‬‭ ‬واجهها‭ ‬الشارع‭ ‬العام‭ ‬الغربي‭ ‬بثورات‭ ‬وانتفاضات‭ ‬شعبية‭ ‬وعلمية‭ ‬وسياسية‭ ‬ومعرفية‭ ‬وتعلم‭ ‬منها‭ ‬الكثير‭. ‬وأهم‭ ‬ما‭ ‬تعلمه‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬“إصلاح‭ ‬الدين”‭ ‬وبين‭ ‬“الإصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين”‭. ‬يوجد‭ ‬اليوم‭ ‬إصلاح‭ ‬ديني‭ ‬مستمر‭ ‬وحي‭ ‬وديناميكي‭ ‬ومتعدد‭ ‬الأوجه‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الوجود‭ ‬الديني‭ ‬الغربي‭ ‬المسيحي‭ ‬واليهودي‭ ‬وضمن‭ ‬معاهد‭ ‬التعليم‭ ‬اللاهوتي‭ ‬ودور‭ ‬العبادة‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الكنسية‭ ‬والمجمعية‭ ‬الصرفة‭. ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الإصلاح‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بأيّ‭ ‬مظهر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬الإصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭. ‬تعلم‭ ‬الغرب‭ ‬أن‭ ‬يفرِّق‭ ‬بين‭ ‬الاثنين‭ ‬وأن‭ ‬يفصل‭ ‬بينهما‭ ‬بشكل‭ ‬واعٍ‭ ‬وعميق‭ ‬وبنَّاء‭.‬

في‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬وصلت‭ ‬فكرة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني،‭ ‬كما‭ ‬ذكرت‭ ‬في‭ ‬الأعلى،‭ ‬إلى‭ ‬شواطئنا،‭ ‬فدعا‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الإسلامويين‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬سيد‭ ‬قطب‭ ‬وحسن‭ ‬البنا‭ ‬وسواهما‭ ‬إلى‭ ‬إصلاح‭ ‬ديني‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬الدارس‭ ‬المتمعن‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬أولئك‭ ‬المفكرين‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬سيد‭ ‬قطب‭ ‬وحسن‭ ‬البنا‭ ‬وآخرين‭ ‬من‭ ‬خطهم‭ ‬الفكري‭ ‬يشعر‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬دعوا‭ ‬إليه‭ ‬‭(‬ومازال‭ ‬يتم‭ ‬تبنيه‭ ‬وتسويقه‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الإخوان‭ ‬المسلمين‭ ‬والسلفيين‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬ومصر‭ ‬على‭ ‬الأقل‭)‬‭ ‬هو‭ ‬إصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬وبدلالة‭ ‬مرجعيته،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬إصلاح‭ ‬للدين‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭. ‬شعار‭ ‬“الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الحل”‭ ‬يعبِّر‭ ‬بشكل‭ ‬بليغ‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الميل‭ ‬وهذا‭ ‬الخلط‭ ‬للإصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬بمسألة‭ ‬إصلاح‭ ‬الدين‭. ‬يصعب‭ ‬على‭ ‬الإسلاموي‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬هذا‭ ‬الشعار‭ ‬أن‭ ‬يدرك‭ ‬بسهولة‭ ‬هذا‭ ‬التفريق،‭ ‬فمن‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬ديناً‭ ‬بعينه‭ ‬هو‭ ‬“حلّ”‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬بديهياً‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬أن‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬يعتبره‭ ‬“حلاً”‭ ‬لإصلاح‭ ‬خلل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬“إصلاح”‭ ‬وكأن‭ ‬به‭ ‬خللا‭. ‬ولكن،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المنطق‭ ‬المغلق‭ ‬للفكر‭ ‬الإسلاموي‭ ‬السياسي‭ ‬فهم‭ ‬إشكالي‭ ‬لماهية‭ ‬الدين‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭. ‬فالدين‭ ‬ليس‭ ‬موضوع‭ ‬العبادة‭ ‬في‭ ‬الإيمان‭. ‬موضوع‭ ‬العبادة‭ ‬في‭ ‬الإيمان‭ ‬هو‭ ‬الله،‭ ‬وما‭ ‬الدين‭ ‬سوى‭ ‬خطاب‭ ‬يشهد‭ ‬عن‭ ‬الله‭ ‬‭(‬موضوع‭ ‬العبادة‭)‬‭ ‬ويحاول‭ ‬تفسيره‭ ‬للإنسان‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الدين‭ ‬وسيلة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬والشهادة‭ ‬على‭ ‬حقيقة‭ ‬أعمق‭ ‬وأسمى‭ ‬وأكثر‭ ‬قاعدية‭ ‬منه‭. ‬وكل‭ ‬وسيلة‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬شيء‭ ‬محدود‭ ‬بطبيعته‭ ‬ونسبي‭ ‬بماهيته‭ ‬وخاضع‭ ‬لمشروطات‭ ‬ومحدودية‭ ‬وظرفية‭ ‬التاريخ‭ ‬والسياق‭ ‬والتحدي‭ ‬الوجودي‭ ‬والعقل‭ ‬البشري‭ ‬التي‭ ‬أنتجته‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬فإن‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الدين،‭ ‬أيّ‭ ‬دين‭ ‬كان،‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬“حل”‭ ‬لأي‭ ‬شيء‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬سوء‭ ‬فهم‭ ‬لماهية‭ ‬ظاهرة‭ ‬“الدين“‭. ‬الدين‭ ‬لا‭ ‬يحلّ‭ ‬أيّ‭ ‬شيء؛‭ ‬الدين‭ ‬يعكس‭ ‬حاجة‭ ‬شيء‭ ‬معين‭ ‬لحل‭ ‬ما‭. ‬الدين‭ ‬لا‭ ‬يعطي‭ ‬حلولا‭ ‬مطلقة‭ ‬أو‭ ‬ناجزة‭ ‬لمصير‭ ‬الإنسان‭ ‬ومآلاته‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬الدين‭ ‬يعمل‭ ‬كالعدسة‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬الإنسان‭ ‬لتأمل‭ ‬مصيره‭ ‬وفهم‭ ‬مآلات‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬علاقة‭ ‬البشري‭ ‬بالمقدس‭ ‬الإلهي‭. ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬مفهوم‭ ‬“إصلاح‭ ‬ديني”‭ ‬مفهوم‭ ‬متناقض،‭ ‬فالدين‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬الخبرات‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬للنظر‭ ‬فيها‭ ‬وتمحيصها‭ ‬إصلاحياً‭. ‬ولهذا‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬منطقياً‭ ‬عن‭ ‬“إصلاح‭ ‬للدين”‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬شيء‭ ‬فعلي‭ ‬ومقبول‭ ‬منطقياً‭ ‬اسمه‭ ‬“إصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين”‭.‬

في‭ ‬سياق‭ ‬التاريخ‭ ‬العربي‭ ‬المعاصر،‭ ‬استمرت‭ ‬فكرة‭ ‬“الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الحل”‭ ‬هي‭ ‬الفكرة‭ ‬الناظمة‭ ‬لمفهوم‭ ‬“الإصلاح‭ ‬الديني”‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬الإسلاموية‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭. ‬وقد‭ ‬تمت‭ ‬محاولات‭ ‬لتطبيقها‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬كمصر‭ ‬وتونس‭ ‬وليبيا‭ ‬وهناك‭ ‬محاولات‭ ‬لفرضها‭ ‬في‭ ‬المغرب‭ ‬واليمن‭ ‬وسوريا‭ ‬والأردن،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬تطبيق‭ ‬فعلي‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬وإيران‭ ‬وتركيا‭. ‬من‭ ‬يراقب‭ ‬تلك‭ ‬النماذج‭ ‬يلحظ‭ ‬برأيي‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬منها‭ ‬يمثل‭ ‬نموذجاً‭ ‬ناجحاً‭ ‬فعلاً‭ ‬في‭ ‬تمثيل‭ ‬الأحلام‭ ‬والطموحات‭ ‬والمبادئ‭ ‬والدعوات‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬ثورات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬أساسها‭ ‬والتي‭ ‬نادى‭ ‬بها‭ ‬وحلم‭ ‬بتحقيقها‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬والشابات‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬قاموا‭ ‬بتلك‭ ‬الثورات‭.‬

في‭ ‬عالم‭ ‬يخيّر‭ ‬الإنسان‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬“الله”‭ ‬و”التديـُّن”،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأيّ‭ ‬ربيع‭ ‬عربي‭ ‬أن‭ ‬ينمو‭ ‬ويزدهر‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬يدعو‭ ‬إليه‭ ‬لن‭ ‬يهدد‭ ‬فقط‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬والفاسدة،‭ ‬بل‭ ‬وسيهدد‭ ‬أيضاً‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬ترهن‭ ‬وجودها‭ ‬برمته‭ ‬بمرجعية‭ ‬خطابها‭ ‬الديني‭ ‬وليس‭ ‬بخدمتها‭ ‬للإنسان

أحد‭ ‬الأسباب‭ ‬لهذا‭ ‬الفشل‭ ‬في‭ ‬النمذجة‭ ‬برأيي‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬السياقات‭ ‬العربية‭ ‬تخلط‭ ‬بشكل‭ ‬مدمر‭ ‬ويحمل‭ ‬عناصر‭ ‬تفككه‭ ‬وفشله‭ ‬الذاتي‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬“إصلاح‭ ‬الدين”‭ ‬و”الإصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين”‭. ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬يدفعون‭ ‬باتجاه‭ ‬الخيار‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬فرضية‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬على‭ ‬الدين‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ذا‭ ‬سلطة‭ ‬كي‭ ‬يتواجد‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬ويلعب‭ ‬دوراً‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭. ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬يحتاج‭ ‬الدين‭ ‬حقاً‭ ‬لسلطة،‭ ‬وهل‭ ‬عليه‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬السلطة،‭ ‬كي‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬المجتمع؟‭ ‬لماذا‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬قرن‭ ‬مسألة‭ ‬“الدور”‭ ‬بشرط‭ ‬“السلطة”؟‭ ‬هل‭ ‬لأن‭ ‬الدين‭ ‬يقف‭ ‬عاجزاً‭ ‬ومتعرياً‭ ‬تماماً‭ ‬أمام‭ ‬العالم‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يتمتع‭ ‬بسلطة،‭ ‬وهل‭ ‬هذا‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬فقدان‭ ‬الدور‭ ‬بسبب‭ ‬عدم‭ ‬امتلاك‭ ‬سلطة‭ ‬دلالة‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬محدودية‭ ‬الدين‭ ‬وبعده‭ ‬عن‭ ‬المطلقية‭ ‬والعصمة‭ ‬في‭ ‬طبيعته‭ ‬وعدم‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬ترك‭ ‬تأثير‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬يتم‭ ‬فرضه‭ ‬عليهم‭ ‬بدلالة‭ ‬مرجعية‭ ‬وسلطة؟‭ ‬باعتقادي‭ ‬أن‭ ‬إصرار‭ ‬الإسلاموية‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬مسخ‭ ‬“الإصلاح‭ ‬الديني”‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬مشروع‭ ‬إصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬وبدلالة‭ ‬سلطته،‭ ‬وخوف‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدينية‭ ‬المتمسكة‭ ‬بهذا‭ ‬التوجه‭ ‬من‭ ‬إصلاح‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬داخله،‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬دعوة‭ ‬حتمية‭ ‬لأيّ‭ ‬مراقب،‭ ‬بل‭ ‬وتشجيع‭ ‬له‭ ‬أو‭ ‬لها،‭ ‬لطرح‭ ‬تلك‭ ‬التساؤلات‭ ‬ووضعها‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬البحث‭.‬

في‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬حيث‭ ‬يعبد‭ ‬الناس‭ ‬أديانهم‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير‭ ‬مما‭ ‬يعبدون‭ ‬الله‭ ‬ويتعبدون‭ ‬لتديُّنهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تعبّدهم‭ ‬للرحمن‭ ‬الرحيم،‭ ‬وحيث‭ ‬الدين‭ ‬يمثل‭ ‬“مالك‭ ‬الحقيقة”‭ ‬عوضاً‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬“الشاهد‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬ما”،‭ ‬وحيث‭ ‬الدين‭ ‬“طوق‭ ‬نجاة”‭ ‬وليس‭ ‬“مساحة‭ ‬حرية”،‭ ‬وحيث‭ ‬التديُّن‭ ‬مقياسه‭ ‬الخضوع‭ ‬وليس‭ ‬العلاقة،‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬نحتاجه‭ ‬هو‭ ‬“إصلاح‭ ‬باسم‭ ‬الدين‭ ‬وبدلالته”،‭ ‬فالدين‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭ ‬هو‭ ‬أحد‭ ‬العوامل‭ ‬المهددة‭ ‬لحياة‭ ‬المؤمنين‭ ‬بالله‭ ‬والمتمسكين‭ ‬بالتديـُّن،‭ ‬إذ‭ ‬تراه‭ ‬يخيّرهم‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬التحول‭ ‬لأتباع‭ ‬يتم‭ ‬تعريفهم‭ ‬بدلالة‭ ‬طاعتهم‭ ‬العمياء‭ ‬لخطاب‭ ‬ديني‭ ‬مسيَّس‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬العيش‭ ‬كأفراد‭ ‬يتم‭ ‬تعريفهم‭ ‬بدلالة‭ ‬أخلاقهم‭ ‬وإنسانيتهم‭ ‬الملتصقة‭ ‬بعلاقة‭ ‬مع‭ ‬المقدس‭.‬

في‭ ‬عالم‭ ‬يخيّر‭ ‬الإنسان‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬“الله”‭ ‬و”التديـُّن”،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأيّ‭ ‬ربيع‭ ‬عربي‭ ‬أن‭ ‬ينمو‭ ‬ويزدهر‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬يدعو‭ ‬إليه‭ ‬لن‭ ‬يهدد‭ ‬فقط‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬والفاسدة،‭ ‬بل‭ ‬وسيهدد‭ ‬أيضاً‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬التي‭ ‬ترهن‭ ‬وجودها‭ ‬برمته‭ ‬بمرجعية‭ ‬خطابها‭ ‬الديني‭ ‬وليس‭ ‬بخدمتها‭ ‬للإنسان‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬العامة‭. ‬نحتاج‭ ‬بشكل‭ ‬ملموس‭ ‬إلى‭ ‬إصلاح‭ ‬للدين،‭ ‬إلى‭ ‬إصلاح‭ ‬ديني‭ ‬يبدأ‭ ‬بتصحيح‭ ‬الدين‭ ‬نفسه‭ ‬وبتعريض‭ ‬الدين‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭ ‬للتقييم‭ ‬والدراسة‭ ‬والنقد‭ ‬والتفكيك‭ ‬من‭ ‬داخله‭. ‬طالما‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬“الدين‭ ‬هو‭ ‬الحل”‭ ‬لن‭ ‬ينجح‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لأنه‭ ‬يمسخ‭ ‬الدين‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬وما‭ ‬ليس‭ ‬بدوره‭. ‬وطالما‭ ‬نصرُّ‭ ‬على‭ ‬ألاّ‭ ‬نصلح‭ ‬الدين‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬نفرض‭ ‬الدين‭ ‬كحل‭ ‬إصلاحي،‭ ‬لن‭ ‬ينجو‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬المستنقع‭ ‬الذي‭ ‬غرق‭ ‬فيه‭ ‬حين‭ ‬ركب‭ ‬عليه‭ ‬الإسلامويون‭ ‬وقدموه‭ ‬لقمة‭ ‬سائغة‭ ‬لأنظمة‭ ‬القمع‭ ‬والطغيان‭ ‬والفساد‭ ‬والأبويات‭ ‬العربية‭ ‬وجعلوه‭ ‬حجة‭ ‬لعودتها‭ ‬إلى‭ ‬الساحة‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬العربي‭ ‬‭(‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وما‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬نماذج‭ ‬ساطعة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭)‬‭. ‬فلنصلح‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬داخله‭ ‬وعندها‭ ‬فلنأمل‭ ‬بأن‭ ‬ينعكس‭ ‬هذا‭ ‬إصلاحاً‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬والتاريخ‭ ‬وسيرورة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.