الهيبي‭ ‬والعقيد

الأحد 2017/01/01
الصادق النيهوم: المثقف الذي توسط المسافة بين السلطة والناس

في‭ ‬بلاد‭ ‬البغتة‭ ‬والعجائب‭ ‬تُمطر‭ ‬السماء‭ ‬بالمصائب‭ ‬و‮»‬العصبان‮»‬‭ ‬أو‭ ‬تسحبك‭ ‬من‭ ‬أنفك‭ ‬إلى‭ ‬خيمة‭ ‬القائد‭ ‬سيان،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬المُمكنات‭ ‬يحدث‭ ‬لأن‭ ‬إرادة‭ ‬‮«‬القائد‮»‬‭ ‬فوق‭ ‬كل‭ ‬حساب‭ ‬ولا‭ ‬تقبل‭ ‬الطرح‭ ‬وتقبل‭ ‬الزيادة‭ ‬والضرب‭ ‬ولا‭ ‬تقبل‭ ‬القسمة،‭ ‬جاءني‭ ‬‮«‬الشاعر‭ ‬إدريس‭ ‬الطيب‮»‬‭ ‬رفقة‭ ‬الكاتب‭ ‬سعد‭ ‬نافو‭ ‬إلى‭ ‬بيتي‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ ‬ليبلغني‭ ‬أن‭ ‬القذافي‭ ‬استدعانا‭ ‬إلى‭ ‬خيمته‭ ‬بطرابلس،‭ ‬وأن‭ ‬علينا‭ ‬السفر‭ ‬في‭ ‬التوّ‭. ‬أخذنا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الكاتبة‭ ‬فوزية‭ ‬شلابي‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬إلى‭ ‬القذافي‭ ‬في‭ ‬خيمة‭ ‬بمزرعة‭ ‬بطريق‭ ‬المطار،‭ ‬فوجئنا‭ ‬في‭ ‬الخيمة‭ ‬بالكاتب‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬رفقة‭ ‬الدكتور‭ ‬رجب‭ ‬بودبوس‭.‬

في ‭ ‬مساء‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬أيضا‭ ‬قابلنا‭ ‬القذافي‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬عبدالسلام‭ ‬الزادمة‮»‬وهو‭ ‬من‭ ‬أعد‭ ‬العشاء،‭ ‬وكان‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬الجلسة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أريحية‭ ‬ووضحت‭ ‬العلاقة‭ ‬الخاصة‭ ‬بين‭ ‬النيهوم‭ ‬والقذافي،‭ ‬حيث‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬دخل‭ ‬في‭ ‬محادثة‭ ‬مع‭ ‬القذافي‭ ‬فيها‭ ‬التبسط‭ ‬والمزاح‭ ‬والألفة‭: ‬تعرف‭ ‬يا‭ ‬خيي‭ ‬معمر‭ ‬أنهم‭ ‬يتهمونني‭ ‬بتأليف‭ ‬كتابك‭ ‬الأخضر،‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬مش‭ ‬ممكن‭ ‬نكتبه‭ ‬وإلا‭ ‬لا؟‭ ‬وأخذ‭ ‬القذافي‭ ‬يضحك‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعلق‭ ‬على‭ ‬حديث‭ ‬النيهوم‭ ‬التهكمي،‭ ‬وحينها‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الكتاب‭ ‬الأخضر‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يُتهم‭ ‬النيهوم‭ ‬بكتابته،‭ ‬وأن‭ ‬النيهوم‭ ‬يتبرأ‭ ‬في‭ ‬حضورنا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬التهمة،‭ ‬وأن‭ ‬القذافي‭ ‬يمنح‭ ‬النيهوم‭ ‬هذا‭ ‬الحق‭ ‬كما‭ ‬يمنح‭ ‬السلطان‭ ‬نديمه‭. ‬لحظتها‭ ‬والساعة‭ ‬ومما‭ ‬طالعته‭ ‬وسمعته‭ ‬تبين‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬صاحب‭ ‬الكتابة‭ ‬والأفكار‭ ‬في‭ ‬مسودة‭ ‬أُعيدت‭ ‬صياغتها‭ ‬دون‭ ‬رضى‭ ‬النيهوم،‭ ‬ولعل‭ ‬لهذا‭ ‬منح‭ ‬القذافي‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬الاستثنائية‭.‬

الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬في‭ ‬أسر‭ ‬القذافي

حَظي‭ ‬أشهرُ‭ ‬الكتاب‭ ‬الليبيين،‭ ‬خليفة‭ ‬التليسي‭ ‬وأحمد‭ ‬إبراهيم‭ ‬الفقيه‭ ‬وإبراهيم‭ ‬الكوني‭ ‬وعلى‭ ‬الخصوص‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬بعلاقةٍ‭ ‬مميزةٍ‭ ‬مع‭ ‬العقيد‭ ‬معمر‭ ‬القذافي،‭ ‬الذي‭ ‬عَقِبَ‭ ‬استيلائه‭ ‬على‭ ‬السُلطة‭ ‬بانقلابه‭ ‬العسكري‭ ‬في‭ ‬سبتمبر‭ ‬1969‭ ‬عَقدَ‭ ‬لقاءً‭ ‬مُوسعاً‭ ‬بالمُثقفين‭ ‬الليبيين‭ ‬نُقلَ‭ ‬مُباشرةً‭ ‬عبر‭ ‬التلفزيون‭ ‬لعدةِ‭ ‬ساعات‭ ‬ولأيام‭ ‬وعُرف‭ ‬بـِ‮»‬ندوةِ‭ ‬الفكر‭ ‬الثوري‮»‬،‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬اللقاء‭ ‬تحدث‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬الكاتب‭ ‬النجم‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬القطيع‭ ‬بالملك،‭ ‬واصطدم‭ ‬بالرائد‭ ‬عمر‭ ‬المحيشي‭ ‬عضو‭ ‬مجلس‭ ‬قيادة‭ ‬الثورة‭ ‬المُشارك‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الندوة،‭ ‬وقد‭ ‬تدخلَ‭ ‬القذافي‭ ‬وانحازَ‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬‮«‬الكاتب‭ ‬النجم‮»‬،‭ ‬وعلى‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭ ‬توطدت‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما،‭ ‬بعدها‭ ‬بمدةٍ‭ ‬قصيرةٍ‭ ‬أمسى‭ ‬الكاتبُ‭ ‬المُتمرد‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬أمينَ‭ ‬لجنةِ‭ ‬الدعوةِ‭ ‬والفكر‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬التنظيم‭ ‬السياسي‭ ‬للعقيد‭ ‬القذافي‭ ‬لقيادة‭ ‬البلاد،‭ ‬لم‭ ‬يُرض‭ ‬ذلك‭ ‬الكاتب‭ ‬والفنان‭ ‬إلا‭ ‬لمدةٍ‭ ‬قصيرة،‭ ‬ليخرُج‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬قاصدا‭ ‬قبلة‭ ‬المُثقفين‭ ‬والمُبدعين‭ ‬العرب‭ ‬بيروت‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتركَ‭ ‬منصبه،‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬تلك‭ ‬كتب‭ ‬خُطاطةً‭ ‬فكريةً‭ ‬نظرية‭ ‬كحل‭ ‬للمشكل‭ ‬السياسي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬قُدمت‭ ‬في‭ ‬كُتيب‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬نقاش‮»‬‭ ‬للاتحاد‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬ولم‭ ‬يتمّ‭ ‬تداولها‭ ‬بشكلٍ‭ ‬عام‭ ‬في‭ ‬حينها،‭ ‬تقريبا‭ ‬هذه‭ ‬الخُطاطة‭ ‬المرجعية‭ ‬التي‭ ‬اعتمدها‭ ‬القذافي‭ ‬لما‭ ‬أسماه‭ ‬بـ‮»‬النظرية‭ ‬العالمية‭ ‬الثالثة‮»‬‭ ‬مع‭ ‬إضافات‭ ‬للبُعد‭ ‬القومي‭ ‬عند‭ ‬الكاتب‭ ‬المصري‭ ‬عصمت‭ ‬سيف‭ ‬الدولة،‭ ‬وإضافات‭ ‬للبُعد‭ ‬الإسلامي‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬السوداني‭ ‬بابكر‭ ‬كرار،‭ ‬وكل‭ ‬منهما‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬مميزة‭ ‬ومعروفة‭ ‬بالقذافي‭ ‬والدولة‭ ‬الليبية‭.‬

في‭ ‬لقائي‭ ‬مع‭ ‬القذافي‭ ‬بمعية‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬لاحظت‭ ‬أن‭ ‬الأول‭ ‬يُنصت‭ ‬للثاني،‭ ‬وأن‭ ‬ثمة‭ ‬إعجابا‭ ‬يُضمرهُ‭ ‬القذافي‭ ‬للنيهوم‭ ‬وعلاقة‭ ‬فيها‭ ‬حميمية‭ ‬بينة،‭ ‬وكأنما‭ ‬القذافي‭ ‬يعتبر‭ ‬النيهوم‭ ‬من‭ ‬أنارهُ‭ ‬ونورهُ‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬جعل‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الدكتاتور‭ ‬تضادا،‭ ‬فكأنما،‭ ‬وهو‭ ‬السلطة‭ ‬المطلقة،‭ ‬صنيعة‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الهيبي‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬علاقتهما‭ ‬كما‭ ‬علاقة‭ ‬المثقف‭ ‬بالسلطة‭ ‬فيها‭ ‬الفكر‭ ‬‮«‬رأس‭ ‬المال‭ ‬الرمزي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يُشكل‭ ‬سلطة‭ ‬تُقارع‭ ‬سلطة،‭ ‬وبمعية‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬المُشكل‭ ‬وقع‭ ‬النيهوم‭ ‬في‭ ‬الأسر‭.‬

الهيبي‭ ‬والكولونيل

كتب‭ ‬الكوني‭ ‬عن‭ ‬ذكرياته‭ ‬مع‭ ‬النيهوم‭ ‬‮«‬في‭ ‬بداية‭ ‬التسعينات،‭ ‬عندما‭ ‬جاورته‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬الألب،‭ ‬كنا‭ ‬نتسكع‭ ‬في‭ ‬الأمسيات،‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬الزهور‭ ‬في‭ ‬جنيف،‭ ‬ليروي‭ ‬لي‭ ‬الطرائف‭ ‬بأسلوبه‭ ‬الممتع،‭ ‬المستعار‭ ‬من‭ ‬روحه‭ ‬النقية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬أدلى‭ ‬لي‭ ‬فيه‭ ‬باعتراف‭ ‬لم‭ ‬أقرأ‭ ‬له‭ ‬حساباً،‭ ‬اعتراف‭ ‬أدهشني،‭ ‬ربما‭ ‬بسبب‭ ‬فكرتي‭ ‬الرومانسية‭ ‬القديمة‭ ‬عن‭ ‬الإبداع‭ ‬كقُدس‭ ‬أقداس‭. ‬قال‭ ‬لي‭ ‬يومها‭ ‬إن‭ ‬غايته‭ ‬كانت‭ ‬دوماً‭ ‬السلطة،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هنالك‭ ‬أن‭ ‬العسكر‭ ‬ذهبوا‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬أقصر‭ ‬طريق،‭ ‬وخسرها‭ ‬هو‭ ‬لأنه‭ ‬سعى‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬أبعد‭ ‬طريق‭! ‬لقد‭ ‬استنكرتُ‭ ‬أن‭ ‬يسعى‭ ‬مبدع‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬صادق‭ ‬يومها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬اعتبرته‭ ‬عملاً‭ ‬لا‭ ‬أخلاقياً‮»‬‭.‬

إن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقة‭ ‬المُبكرة‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والكاتب‭ ‬النجم‭ ‬تضرب‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬منذ‭ ‬أفلاطون‭ ‬وعلاقته‭ ‬بحاكم‭ ‬صقلية‭ ‬من‭ ‬قدم‭ ‬له‭ ‬تقارير‭ ‬ضد‭ ‬فلاسفة‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬شديد‭ ‬معهم،‭ ‬ولعل‭ ‬علاقة‭ ‬المتنبي‭ ‬بالسلطة‭ ‬أوضح‭ ‬مثال‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬وكافور‭ ‬الإخشيدي،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬المتنبي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬ولا‭ ‬يكتفي‭ ‬بأنه‭ ‬سلطان‭ ‬الشعر،‭ ‬المتنبي‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬السلطان‭ ‬حيث‭ ‬أنه‭ ‬السلطان‭ ‬الحق‭ ‬وسلطان‭ ‬الحق،‭ ‬سلطان‭ ‬المدينة‭ ‬الأفلاطونية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬منادمي‭ ‬سيف‭ ‬الدولة‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭ ‬كتابا‭: ‬المدينة‭ ‬الفاضلة‭ ‬للفارابي‭.‬

في‭ ‬لقائي‭ ‬مع‭ ‬القذافي‭ ‬بمعية‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬لاحظت‭ ‬أن‭ ‬الأول‭ ‬يُنصت‭ ‬للثاني،‭ ‬وأن‭ ‬ثمة‭ ‬إعجابا‭ ‬يُضمرهُ‭ ‬القذافي‭ ‬للنيهوم‭ ‬وعلاقة‭ ‬فيها‭ ‬حميمية‭ ‬بينة،‭ ‬وكأنما‭ ‬القذافي‭ ‬يعتبر‭ ‬النيهوم‭ ‬من‭ ‬أنارهُ‭ ‬ونورهُ‭ ‬وأن‭ ‬هذا‭ ‬جعل‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الدكتاتور‭ ‬تضادا،‭ ‬فكأنما،‭ ‬وهو‭ ‬السلطة‭ ‬المطلقة،‭ ‬صنيعة‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الهيبي‮»‬

هكذا‭ ‬منذ‭ ‬البدء‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬موقف‭ ‬المثقف‭ ‬المعارض‭ ‬للسلطة‭ ‬عند‭ ‬أمثال‭ ‬المتنبي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الاستحواذ‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬باعتبار‭ ‬أنها‭ ‬مشروع‭ ‬المثقف‭ ‬المشروع،‭ ‬وهذه‭ ‬المشروعية‭ ‬تستمد‭ ‬مشروعيتها‭ ‬من‭ ‬ذاتها‭ ‬لأن‭ ‬الإنسان‭ ‬كائن‭ ‬مفكر‭ ‬وأن‭ ‬الفكر‭ ‬ما‭ ‬يسوس‭ ‬البشر‭ ‬وبذلك‭ ‬فالمفكر‭ ‬هو‭ ‬القائد،‭ ‬ولقد‭ ‬تم‭ ‬توكيد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬الشمولية‭ ‬والطغاة‭ ‬فرادة‭ ‬منذ‭ ‬نيرون‭ ‬إلى‭ ‬لينين‭ ‬وماو‭. ‬وفي‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي‭ ‬أخذ‭ ‬هذا‭ ‬عند‭ ‬الشيعة‭ ‬مسوغه‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬ولاية‭ ‬الفقيه‮»‬‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الملك‭ ‬هو‭ ‬ظل‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬فالفقيه‭ ‬أولى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الملك‭.‬

لكن‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬المفكر‭ ‬استحوذ‭ ‬العسكري‭ ‬الطاغية‭ ‬على‭ ‬الفكر،‭ ‬وجعل‭ ‬معمر‭ ‬القذافي‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬القائد‭ ‬المفكر‭ ‬والمعلم‭ ‬الثائر‭ ‬والشعار‭ ‬ما‭ ‬ردده‭ ‬أتباعه‭ ‬وحشود‭ ‬الجماهير‭ ‬التي‭ ‬تحشد‭ ‬لتوكيد‭ ‬ذلك‭.‬

نجم‭ ‬النجوم

الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬النجم‭ ‬ظهر‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬جريدة‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ليكتب‭ ‬من‭ ‬هلسنكي‭ ‬عاصمة‭ ‬فنلندا‭ ‬عن‭ ‬الليبيين‭ ‬مقالات‭ ‬ساخرة‭ ‬ومثيرة،‭ ‬ولينشر‭ ‬مقالات‭ ‬صحفية‭ ‬مترجمة‭ ‬أعاد‭ ‬صياغتها،‭ ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬مواضيع‭ ‬الساعة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬وتمس‭ ‬القضايا‭ ‬الساخنة‭ ‬من‭ ‬العالم،‭ ‬وفي‭ ‬أسلوب‭ ‬ساخر‭ ‬وتهكّمي‭ ‬وطازج‭ ‬ومثير‭ ‬جذب‭ ‬القراء،‭ ‬وتحوّل‭ ‬صاحب‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬إلى‭ ‬كاتب‭ ‬الصحيفة‭ ‬الأول‭ ‬والمبرز؛‭ ‬علي‭ ‬يد‭ ‬صحفي‭ ‬قدير‭ ‬هو‭ ‬رشاد‭ ‬الهوني‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬صحيفة‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬تنشر‭ ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬مسلطة‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬كاتبها‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬صحفي‭ ‬جديد‭ ‬وجذاب‭.‬

وحين‭ ‬حققت‭ ‬الجريدة‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬النيهوم‭ ‬قد‭ ‬أمدها‭ ‬بروح‭ ‬جديدة،‭ ‬بأسلوبه‭ ‬المميز‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تركيب‭ ‬الجملة‭ ‬التي‭ ‬تغترف‭ ‬من‭ ‬الأساليب‭ ‬الصحفية‭ ‬العربية‭ ‬‮«‬البيروتية‮»‬‭ ‬ومن‭ ‬الأساليب‭ ‬الكتابية‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬إنكليزية‭ ‬اللغة،‭ ‬ومن‭ ‬الأدب‭ ‬الأميركي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬كما‭ ‬تمثل‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬أرنست‭ ‬هيمنجواي‭ ‬وترجماته‭ ‬العربية‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬منير‭ ‬البعلبكي‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬ترجم‭ ‬رواية‭ ‬هيمنجواي‭ ‬‮«‬الشيخ‭ ‬والبحر‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬إنجيل‭ ‬جيل‭ ‬النيهوم،‭ ‬لقد‭ ‬عجن‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تحولات‭ ‬جعلت‭ ‬أسلوبه‭ ‬متميزا‭ ‬وجملته‭ ‬مسبوكة‭ ‬مصبوغة‭ ‬بروحه‭ ‬التهكمية‭ ‬كابن‭ ‬لمدينة‭ ‬متوسطية‭ ‬صغيرة،‭ ‬تبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬ميناء‭ ‬لقراصنة‭ ‬غدوا‭ ‬أشباحا‭.‬

كان‭ ‬النيهوم‭ ‬يرسم‭ ‬شخصية‭ ‬كتاباته‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬رجل‭ ‬عاطل،‭ ‬ليس‭ ‬لديه‭ ‬ما‭ ‬يفعل‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يتكئ‭ ‬في‭ ‬ركينة‭ ‬شارع‭ ‬ليرمي‭ ‬المارة‭ ‬بنظرة‭ ‬ساخطة‭ ‬ولسان‭ ‬لاذع،‭ ‬وفي‭ ‬مقالاته‭ ‬الفكرية‭ ‬يبدو‭ ‬كمتفرّج‭ ‬استعار‭ ‬باروكة‭ ‬فلسفة‭ ‬العبث‭ ‬السائدة‭ ‬آنذاك‭ ‬التي‭ ‬تكرس‭ ‬مفاهيم‭ ‬اللامنتمي‭ ‬الحصيف‭.‬

فيلسوف‭ ‬هيبي

لقد‭ ‬أشارت‭ ‬‭-‬حينها‭-‬‭ ‬صحيفة‭ ‬الصن‭ ‬البريطانية‭ ‬إلى‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬‭-‬في‭ ‬مقالة‭ ‬صحفية‭ ‬عن‭ ‬ليبيا‭-‬‭ ‬بأنه‭ ‬يبدو‭ ‬كما‭ ‬فيلسوف‭ ‬هيبي‭: ‬الفيلسوف‭ ‬الهيبي‭ ‬الذي‭ ‬وراء‭ ‬كولونيل‭ ‬ليبيا،‭ ‬وكان‭ ‬الكاتب‭ ‬علي‭ ‬فهمي‭ ‬خشيم‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬مقالة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الظاهرة‭ ‬النيهومية‮»‬‭.‬

النيهوم‭ ‬في‭ ‬سيرته‭ ‬غير‭ ‬الموثقة‭ ‬وغير‭ ‬الموثوق‭ ‬فيها‭ ‬‭-‬لأنها‭ ‬مليئة‭ ‬بالثغرات‭ ‬ولأن‭ ‬صاحبها‭ ‬نجم‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬رمز‭ ‬لهذا‭ ‬حشاها‭ ‬محبوه‭ ‬بما‭ ‬يحبون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬عليه‭ ‬نجمهم‭ ‬الساطع‭-‬‭ ‬أنه‭ ‬حين‭ ‬تخرّج‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬الليبية‭ ‬قد‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭ ‬كي‭ ‬يعد‭ ‬رسالة‭ ‬الماجستير‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬مقارنة‭ ‬الأديان‭ ‬وأنه‭ ‬اصطدم‭ ‬هناك‭ ‬بالدكتورة‭ ‬عائشة‭ ‬بنت‭ ‬الشاطئ،‭ ‬الشخصية‭ ‬المعروفة‭ ‬حينها‭ ‬بكتاباتها‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الإسلامي‭ ‬وأستاذة‭ ‬الجامعة‭ ‬المبرزة،‭ ‬التي‭ ‬كما‭ ‬يشيعون‭ ‬كانت‭ ‬أقل‭ ‬مقدرة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تستوعب‭ ‬الأفكار‭ ‬الطازجة‭ ‬والمميزة‭ ‬للصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬الذي‭ ‬قفل‭ ‬راجعا،‭ ‬متخطيا‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬إلى‭ ‬أصقاع‭ ‬أوروبا‭ ‬متوجها‭ ‬إلى‭ ‬فنلندا‭ ‬حيث‭ ‬أعد‭ ‬رسالته‭ ‬المفترضة‭ ‬في‭ ‬مقارنة‭ ‬الأديان،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬أي‭ ‬معلومات‭ ‬عنها‭ ‬حتى‭ ‬معلومات‭ ‬صحفية‭ ‬ولا‭ ‬أي‭ ‬إشارة‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬حصوله‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الشهادة‭ ‬العلمية‭.‬

هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬ستترادف‭ ‬مع‭ ‬الكاتب‭ ‬وتمتزج‭ ‬عند‭ ‬المتلقي‭ ‬مع‭ ‬كتاباته‭ ‬التي‭ ‬ستصير‭ ‬أكثر‭ ‬إثارة،‭ ‬والتي‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬النيهوم‭ ‬ظاهرة‭ ‬يتزاحم‭ ‬الناس‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬الصحيفة‭ ‬الأسبوعي‭ ‬الذي‭ ‬ينشر‭ ‬مقالته،‭ ‬وحتى‭ ‬الأميّ‭ ‬سيتأبط‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العدد،‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد‭ ‬سيقفز‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬قفزة‭ ‬مميزة‭ ‬في‭ ‬كتاباته؛‭ ‬حيث‭ ‬سينحو‭ ‬للكتابة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬الديني،‭ ‬وقدم‭ ‬أطروحات‭ ‬صادمة‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬بأسلوبه‭ ‬ككاتب‭ ‬صحفي‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬رفيع‭ ‬يعرف‭ ‬أصول‭ ‬كتابة‭ ‬كهذه،‭ ‬من‭ ‬سماتها‭ ‬التكثيف‭ ‬المبسط‭ ‬الاختزالي‭ ‬ما‭ ‬يتخذ‭ ‬من‭ ‬الجملة‭ ‬كحامل‭ ‬للفكرة،‭ ‬فيبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬حكمة‭ ‬في‭ ‬ثوب‭ ‬‮«‬مانشيت‮»‬‭ ‬صحفي‭ ‬يدير‭ ‬الرؤوس‭ ‬ويبث‭ ‬التأويل‭ ‬ونقيضه‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الجملة،‭ ‬ويزيغ‭ ‬النظر‭ ‬بتحريكه‭ ‬لسطح‭ ‬الظاهرة‭ ‬التي‭ ‬يتناولها،‭ ‬كمن‭ ‬يرمي‭ ‬حجارة‭ ‬في‭ ‬بركة‭ ‬راكدة،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬سبخة‭ ‬ماؤها‭ ‬تبخر‭ ‬ولكن‭ ‬سطحها‭ ‬اللامع‭ ‬يوهم‭ ‬بوجود‭ ‬الماء‭.‬

إن‭ ‬النيهوم‭ ‬لاعب‭ ‬في‭ ‬بركة‭ ‬الوحل‭ ‬التي‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يرسم‭ ‬على‭ ‬سطحها‭ ‬علامته‭ ‬المميزة‭ ‬كنجم‭ ‬يعطي‭ ‬بظهره‭ ‬للكرة‭ ‬ويعطي‭ ‬وجهه‭ ‬وعينيه‭ ‬للجمهور‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬هذا‭ ‬النجم‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يستهين‭ ‬بجمهوره‭ ‬ولا‭ ‬بوسائل‭ ‬جذب‭ ‬هذا‭ ‬الجمهور‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬القضايا‭ ‬المثيرة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬الظل‭ ‬وما‭ ‬يسلطه‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬ضوئه‭ ‬الخاص‭ ‬الجذاب‭ ‬بتعدد‭ ‬ألوانه‭.‬

طريقة‭ ‬في‭ ‬الكتابة

النيهوم‭ ‬من‭ ‬القلة‭ ‬الذين‭ ‬أثاروا‭ ‬قضايا‭ ‬دينية‭ ‬واجتماعية‭ ‬تبدو‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬قضايا‭ ‬ميتة‭ ‬مثل‭ ‬قضية‭ ‬المرأة،‭ ‬ولعل‭ ‬أهمها‭ ‬محاولته‭ ‬‭-‬في‭ ‬سبق‭ ‬صحفي‭ ‬ومثلا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يفطن‭ ‬مصطفى‭ ‬محمود‭ ‬لذلك‭-‬‭ ‬تفسير‭ ‬القرآن‭ ‬تفسيرا‭ ‬عصريا‭ ‬في‭ ‬دراسته‭ ‬المطولة‭ ‬‮«‬الرمز‭ ‬في‭ ‬القرآن‮»‬‭.‬

قبل‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أثارته‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬من‭ ‬ردود‭ ‬أفعال‭ ‬لا‭ ‬يفوتني‭ ‬أن‭ ‬أنوه‭ ‬بأن‭ ‬النيهوم‭ ‬القابع‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬ألاف‭ ‬الأميال‭ ‬عمن‭ ‬يكتب‭ ‬عنهم‭ ‬ولهم‭ ‬وعن‭ ‬الصحيفة‭ ‬التي‭ ‬يكتب‭ ‬فيها،‭ ‬قد‭ ‬كرس‭ ‬نفسه‭ ‬لشكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الغموض‭ ‬حول‭ ‬شخصه‭ ‬وسيرته،‭ ‬وأن‭ ‬الصحيفة‭ ‬التي‭ ‬كرسته‭ ‬ككاتب‭ ‬أول‭ ‬لها،‭ ‬كرست‭ ‬هذا‭ ‬الغموض‭ ‬الذي‭ ‬نبعه‭ ‬ليس‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬يتماس‭ ‬معها،‭ ‬أو‭ ‬المفاهيم‭ ‬التي‭ ‬يتخذها‭ ‬طريقة‭ ‬لأطروحاته‭ ‬الإشكالية‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكن‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬الأسلوب‭ ‬الذي‭ ‬اتخذه،‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬المازج‭ ‬بين‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية‭ ‬والكتابة‭ ‬الصحفية‭ ‬المطعمة‭ ‬بأساليب‭ ‬الترجمة‭ ‬في‭ ‬حينها،‭ ‬مع‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬الرمزية‭ ‬والسريالية‭ ‬والفنتازيا‭ ‬أحيانا،‭ ‬في‭ ‬دأب‭ ‬وجهد‭ ‬لإدهاش‭ ‬القارئ‭ ‬في‭ ‬الجملة‭ ‬قبل‭ ‬الفقرة‭ ‬وفي‭ ‬التراكيب‭ ‬المتجددة‭ ‬دائما،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المضمار‭ ‬بذل‭ ‬النيهوم‭ ‬جهدا‭ ‬خارقا‭ ‬استنزف‭ ‬طاقته‭ ‬الفكرية‭ ‬والإبداعية‭ ‬الأهم‭.‬

لقد‭ ‬أشارت‭ ‬‭-‬حينها‭-‬‭ ‬صحيفة‭ ‬الصن‭ ‬البريطانية‭ ‬إلى‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬‭-‬في‭ ‬مقالة‭ ‬صحفية‭ ‬عن‭ ‬ليبيا‭-‬‭ ‬بأنه‭ ‬يبدو‭ ‬كما‭ ‬فيلسوف‭ ‬هيبي‭: ‬الفيلسوف‭ ‬الهيبي‭ ‬الذي‭ ‬وراء‭ ‬كولونيل‭ ‬ليبيا،‭ ‬وكان‭ ‬الكاتب‭ ‬علي‭ ‬فهمي‭ ‬خشيم‭ ‬قد‭ ‬كتب‭ ‬مقالة‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الظاهرة‭ ‬النيهومية‮»

الرمز‭ ‬في‭ ‬القرآن

الدراسة‭ ‬البوتقة‭ ‬التي‭ ‬دخل‭ ‬منها‭ ‬النيهوم‭ ‬الفكر‭ ‬والفكر‭ ‬الديني‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬كانت‭ ‬بمثابة‭ ‬مرحلة‭ ‬ثانية‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬ونقلة‭ ‬نوعية‭ ‬حيث‭ ‬سيظهر‭ ‬أن‭ ‬النيهوم‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬نقلات‭ ‬مفارقة‭ ‬في‭ ‬سلم‭ ‬إيقاعه‭ ‬إثارة‭ ‬القارئ‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الشغل‭ ‬الشاغل‭ ‬المشروع‭ ‬عند‭ ‬هكذا‭ ‬كتّاب،‭ ‬ولهذا‭ ‬المرسل‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬محمول‭ ‬المرسلة‭ ‬وأسلوبها‭.‬

توخى‭ ‬بهذه‭ ‬الدراسة‭ ‬إثارة‭ ‬قضايا‭ ‬دينية‭ ‬شائكة؛‭ ‬اعتبر‭ ‬القرآن‭ ‬نصا‭ ‬رمزيا‭ ‬تؤول‭ ‬رموزه‭ ‬بمعطيات‭ ‬لغوية‭ ‬سيمائية،‭ ‬فالنص‭ ‬القرآني‭ ‬نص‭ ‬لغوي‭ ‬واللغة‭ ‬تجريد‭ ‬لصورة‭ ‬واقعية‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬مريم‭ ‬–مثلا‭-‬‭ ‬حملت‭ ‬طفلها‭ ‬من‭ ‬خطيبها‭ ‬يوسف‭ ‬النجار‮…‬‭ ‬الخ،‭ ‬وكونها‭ ‬حبلت‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬شائع‭ ‬دون‭ ‬اتصال‭ ‬جنسي‭ ‬فهذا‭ ‬ترميز‭ ‬على‭ ‬طهارة‭ ‬العلاقة‭ ‬المقدسة‭. ‬هذه‭ ‬مجرد‭ ‬إشارة‭ ‬مقتضبة‭ ‬لموضوع‭ ‬الدراسة،‭ ‬لكن‭ ‬المهم‭ ‬كان‭ ‬آنذاك‭ ‬ما‭ ‬أثارته‭ ‬من‭ ‬ردود‭ ‬أفعال‭ ‬وسيجنح‭ ‬الكاتب‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬بردود‭ ‬الأفعال‭ ‬هذه‭ ‬إلى‭ ‬الانشغال‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواضيع‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭.‬

ولأن‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬يغذّون‭ ‬التناقض‭ ‬ويعشقون‭ ‬التضاد‭ ‬فقد‭ ‬ظهر‭ ‬النيهوم‭ ‬باعتباره‭ ‬الغامض‭ ‬السهل،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬بدا‭ ‬وكأنه‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬ما‭ ‬يقول،‭ ‬ويقول‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬لهذا‭ ‬جنح‭ ‬قراؤه‭ ‬إلى‭ ‬تزكية‭ ‬آرائه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬خصومه‭.‬

ومن‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬المفارقة‭ ‬سيضع‭ ‬النيهوم‭ ‬رجله‭ ‬علي‭ ‬عتبة‭ ‬الباب‭ ‬الذي‭ ‬يحب،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬خصومه‭ ‬هم‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬المحافظون‭ ‬ومن‭ ‬في‭ ‬حكمهم،‭ ‬والنظام‭ ‬الملكي‭ ‬الليبي‭ ‬آنذاك‭ ‬أسسه‭ ‬هؤلاء‭ ‬أو‭ ‬أنهم‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬أهله‭ ‬بحكم‭ ‬أن‭ ‬للدولة‭ ‬الليبية‭ ‬علاقة‭ ‬بالحركة‭ ‬السنوسية‭ ‬الدينية‭ ‬الإصلاحية‭ ‬بالتبعية‭ ‬وأن‭ ‬ملك‭ ‬البلاد‭ ‬مؤسس‭ ‬الدولة‭ ‬هو‭ ‬وريث‭ ‬لزعامة‭ ‬هذه‭ ‬الحركة،‭ ‬لكن‭ ‬الملك‭ ‬إدريس‭ ‬السنوسي‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬شخصيته‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬جناح‭ ‬التحديث‭ ‬في‭ ‬نظامه‭ ‬وإن‭ ‬بشكل‭ ‬خفيّ؛‭ ‬فتكوينه‭ ‬في‭ ‬قصره‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬فترة‭ ‬شبابه‭ ‬وتواجده‭ ‬وسط‭ ‬النخبة‭ ‬المصرية‭ ‬المستنيرة‭ ‬وعلاقته‭ ‬المبكرة‭ ‬بالإنكليز‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التكوين‭.‬

لهذا‭ ‬يذكر‭ ‬البعض‭ ‬أنه‭ ‬حين‭ ‬طالب‭ ‬علماء‭ ‬الجامعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬بمحاكمة‭ ‬‭-‬أو‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬ذلك‭-‬‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم،‭ ‬كان‭ ‬حينها‭ ‬الشاب‭ ‬عبدالحميد‭ ‬البكوش‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬‭(‬32‭ ‬سنة‭)‬‭ ‬وزير‭ ‬العدل‭ ‬ثم‭ ‬رئيس‭ ‬الوزارة‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬يُطالب‭ ‬أساتذة‭ ‬الجامعة‭ ‬والطلبة‭ ‬والنخبة‭ ‬المتنورة‭ ‬أن‭ ‬تعاضد‭ ‬النيهوم‭ ‬في‭ ‬كتاباته‭ ‬هذه؛‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬ذلك‭ ‬لأسباب‭ ‬معروفة،‭ ‬ولهذا‭ ‬أوقف‭ ‬نشر‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬فقط‭ ‬وأعاد‭ ‬النيهوم‭ ‬نشرها‭ ‬تحت‭ ‬اسم‭ ‬آخر‭ ‬وفي‭ ‬صياغة‭ ‬مموهة‭ ‬وتحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬العودة‭ ‬المحزنة‭ ‬للبحر‮»‬‭.‬

الكاتب‭ ‬والسلطة

النيهوم‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬أنه‭ ‬كاتب‭ ‬غير‭ ‬سياسي‭ ‬ستكون‭ ‬علاقته‭ ‬بالسلطة‭ ‬السياسية‭ ‬مشتبكة‭ ‬وشائكة،‭ ‬سيكون‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الجافل‭ ‬عن‭ ‬القطيع،‭ ‬القطيع‭ ‬هذه‭ ‬المفردة‭ ‬التي‭ ‬سيرددها‭ ‬النيهوم‭ ‬في‭ ‬مداخلاته‭ ‬كثيرا،‭ ‬وسيظهر‭ ‬نفسه‭ ‬كمتمرد‭ ‬يلبس‭ ‬‭(‬الجينز‭ ‬والتّي‭ ‬شرت‭)‬،‭ ‬وينظر‭ ‬بغضب‭ ‬لقطيع‭ ‬السلطان‭ ‬وسيضع‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬السلة‭ ‬كل‭ ‬النخبة‭ ‬الليبية‭ ‬‭-‬وحتى‭ ‬العربية‭-‬‭ ‬دون‭ ‬تمييز‭ ‬مستثنيا‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬مريديه‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬وعامة‭ ‬الناس‭.‬

لقد‭ ‬تبوأ‭ ‬مبكرا‭ ‬مركزا‭ ‬مميزا‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬حين‭ ‬نالته‭ ‬الشهرة‭ ‬فغدا‭ ‬بسلطة‭ ‬الفكر‭ ‬رأسا‭ ‬حاسرا‭ ‬ينال‭ ‬مراده‭ ‬بجمهوره‭ ‬الكثير،‭ ‬ولهذا‭ ‬أفصح‭ ‬عن‭ ‬عداء‭ ‬لأعداء‭ ‬افترضهم‭ ‬ومنحهم‭ ‬هذا‭ ‬الدور؛‭ ‬هم‭ ‬النخبة‭ ‬خاصة‭ ‬السياسية‭ ‬منها‭ ‬وكان‭ ‬رأس‭ ‬شيطانها‭ ‬اليسار‭ ‬بالمعني‭ ‬العام‭ ‬من‭ ‬قوميين‭ ‬ناصريين‭ ‬وبعثيين‭ ‬ووطنيين‭ ‬وشباب‭ ‬يشده‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بحكم‭ ‬المرحلة‭ ‬يساري‭ ‬الطابع‭.‬

كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬مخلصا‭ ‬للعلاقة‭ ‬التاريخية‭ ‬بين‭ ‬المثقف‭ ‬والسلطة‭ ‬كان‭ ‬فعل‭ ‬النيهوم‭ ‬ككاتب‭ ‬منذ‭ ‬ظهور‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة،‭ ‬كذلك‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الكتابة‭ ‬والقارئ‭ ‬الذي‭ ‬يستمد‭ ‬منه‭ ‬الكاتب‭ ‬سلطته‭ ‬خاصة‭ ‬متى‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬نجم‭ ‬غاية‭ ‬غايات‭ ‬أغلب‭ ‬الكتاب‭ ‬لكن‭ ‬النيهوم‭ ‬على‭ ‬الخصوص‭ ‬منهم‭ ‬كان‭ ‬النجم‭. ‬وكان‭ ‬الكاتب‭ ‬البارع‭ ‬والمبدع‭ ‬المميز‭.‬

ظاهرة‭ ‬النيهوم

لم‭ ‬يكُن‭ ‬النيهوم‭ ‬ظاهرة‭ ‬وحدها‭ ‬حين‭ ‬خرج‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬بتمرده‭ ‬وأفكاره‭ ‬الجريئة،‭ ‬فجيلُ‭ ‬الستينات‭ ‬‭-‬جيله‭-‬‭ ‬جيلُ‭ ‬التمرد‭ ‬والعبث‭ ‬واللامعقول‭ ‬والثورات‭ ‬والهيبز‭ ‬والبتلز،‭ ‬والذي‭ ‬يأتي‭ ‬ولا‭ ‬يأتي‭ ‬والهزيمة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬5‭ ‬يونيو،‭ ‬وكان‭ ‬آنذاك‭ ‬اليسار‭ ‬الفرويدي‭ ‬مُتسيّدا‭ ‬جبهة‭ ‬الفكر‭ ‬الإعلامية‭: ‬هربرت‭ ‬ماركوز‭ ‬وإريك‭ ‬فروم‮…‬‭ ‬الخ،‭ ‬وكان‭ ‬اللامنتمي‭ ‬صرعة‭ ‬اللحظة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬صحفي‭ ‬نابه‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬أيقونةٍ‭ ‬للشباب‭ ‬الناقم‭ ‬يدعى‭ ‬كولن‭ ‬ولسون‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬بدا‭ ‬وكأن‭ ‬العالم‭ ‬قد‭ ‬سلم‭ ‬زمامهُ‭ ‬للأفكار‭ ‬وحاملها‭ ‬الأيديولوجيات‭ ‬وتحولت‭ ‬الصُحف‭ ‬إلى‭ ‬أسفار‭ ‬أنبياء‭ ‬العصر‭: ‬ماركس‭ ‬وفرويد‭ ‬ودارون‮…‬‭ ‬لقد‭ ‬قفز‭ ‬إنسانُ‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬قرد‭ ‬إلى‭ ‬سيدِ‭ ‬الكون،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طال‭ ‬غاغارين‭ ‬الفضاء‭.‬

لكن‭ ‬في‭ ‬الإقليم‭ ‬العربي‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬بدأ‭ ‬ما‭ ‬سمّي‭ ‬‮«‬بنكسة‭ ‬حزيران‮»‬‭ ‬يقظة‭ ‬الهزيمة‭ ‬لهذا‭ ‬تزامنتْ‭ ‬وتراصت‭ ‬الشيوعية‭ ‬والوجودية‭ ‬والأفكار‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬سلةِ‭ ‬اليوم‭ ‬الصحفية،‭ ‬لعلنا‭ ‬نذكر‭ ‬ما‭ ‬أثاره‭ ‬كتاب‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬عن‭ ‬الفكر‭ ‬الديني‭ ‬من‭ ‬ضجة،‭ ‬وكذلك‭ ‬الكتابة‭ ‬الصحفية‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬صباح‭ ‬الخير‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تُفسر‭ ‬القرآن‭ ‬تفسيراً‭ ‬علمياً‭ ‬علي‭ ‬يد‭ ‬كاتب‭ ‬طبيب‭ ‬عُرف‭ ‬بكتابته‭ ‬القصة‭ ‬حتى‭ ‬ظهوره‭ ‬مُفسرا‭ ‬قرآنيا‭ ‬فجاءةً‭ ‬وهو‭ ‬الدكتور‭ ‬مصطفي‭ ‬محمود‭. ‬لقد‭ ‬تأبط‭ ‬النيهوم‭ ‬كتابه‭ ‬بقوة‭ ‬المرقون‭ ‬بروح‭ ‬العصر،‭ ‬وبدأ‭ ‬من‭ ‬هناك‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬هنا‭ ‬بسخطٍ‭ ‬وبسخرية،‭ ‬وبحكم‭ ‬تواجده‭ ‬في‭ ‬هلسنكي‭ ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬هدفا‭ ‬لنقمته‭ ‬التي‭ ‬بدورها‭ ‬شتت‭ ‬ذهنه‭ ‬وفاعليته،‭ ‬لقد‭ ‬صار‭ ‬كاتباً‭ ‬صحفيا‭ ‬لجريدة‭ ‬محلية‭ ‬مُلزما‭ ‬بكتابةِ‭ ‬مقالةٍ‭ ‬أسبوعية،‭ ‬هكذا‭ ‬وقع‭ ‬النيهوم‭ ‬في‭ ‬أسر‭ ‬الطريقة‭ ‬الناجحة‭ ‬والمجربة‭ ‬إلى‭ ‬الجمهور؛‭ ‬بهذا‭ ‬صار‭ ‬‮«‬‭ ‬النيهوم‭ ‬في‭ ‬الأسر‮»‬‭.‬

يكتبُ‭ ‬ويُترجم‭ ‬‭-‬دون‭ ‬ذكر‭ ‬مصادره‭-‬‭ ‬ويرسُم،‭ ‬يكتبُ‭ ‬التقارير‭ ‬الصحفية‭ ‬والمقالة‭ ‬النثرية‭ ‬الساخرة‭ ‬المُطعمة‭ ‬باللهجة‭ ‬المحلية‭ ‬التي‭ ‬تحكي‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬أمدلله‭ ‬التي‭ ‬تتعاطى‭ ‬الشعوذة،‭ ‬ونتاشا‭ ‬التي‭ ‬تتعاطى‭ ‬الفودكا،‭ ‬فيما‭ ‬الحاج‭ ‬الزروق‭ ‬المُتكئ‭ ‬على‭ ‬التكية‭ ‬يغمزها‭.‬

هكذا‭ ‬سوّقَ‭ ‬النيهوم‭ ‬نفسهُ‭ ‬ككاتبٍ‭ ‬صحفي،‭ ‬مشغولٍ‭ ‬بالشخصياتِ‭ ‬المحليةِ‭ ‬البسيطة‭ ‬وكرجلِ‭ ‬فكرٍ‭ ‬يهتمُ‭ ‬بقضايا‭ ‬تُشكل‭ ‬ذهنية‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية،‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬الدينُ‭ ‬أبرز‭ ‬المحطات‭ ‬التي‭ ‬أثارتها‭ ‬فترة‭ ‬الستينيات‭ ‬خاصة‭ ‬عقب‭ ‬الهزيمة‭ ‬العربية‭ ‬أمام‭ ‬دولة‭ ‬اليهود‭! ‬كتب‭ ‬النيهوم‭ ‬في‭ ‬القضايا‭ ‬الدينية‭ ‬الشائكة،‭ ‬وقضايا‭ ‬المرأة‭ ‬بجرأةٍ‭ ‬وقليلٍ‭ ‬من‭ ‬التمحيص‭ ‬والدقة‭ ‬ودون‭ ‬مرجعية‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬منهج،‭ ‬ولهذه‭ ‬الاعتبارات‭ ‬المُثيرة‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬منه‭ ‬الكاتب‭ ‬والصحفي‭ ‬النجم‭ ‬تساوق‭ ‬النيهوم‭ ‬وسُلطة‭ ‬الدولة،‭ ‬لقد‭ ‬حوّل‭ ‬المُشكل‭ ‬إلى‭ ‬قضايا‭ ‬ثقافية‭ ‬اجتماعية‭ ‬فيما‭ ‬كانت‭ ‬النخبة‭ ‬جملة‭ ‬بعقائدها‭ ‬المختلفة‭ ‬تركزُ‭ ‬المُشكل‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬وُصمت‭ ‬بالرجعية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخري‭ ‬باللاإسلامية،‭ ‬ومن‭ ‬ثالثة‭ ‬بالمُرتهنة‭ ‬للدوائرِ‭ ‬الامبريالية‭. ‬لقد‭ ‬تسلطت‭ ‬كُل‭ ‬الأضواءِ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المُختلف‭ ‬الذي‭ ‬عُد‭ ‬كظاهرة‭.‬

النيهوم‭ ‬الذي‭ ‬يظهر‭ ‬أنه‭ ‬كاتب‭ ‬غير‭ ‬سياسي‭ ‬ستكون‭ ‬علاقته‭ ‬بالسلطة‭ ‬السياسية‭ ‬مشتبكة‭ ‬وشائكة،‭ ‬سيكون‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الجافل‭ ‬عن‭ ‬القطيع،‭ ‬القطيع‭ ‬هذه‭ ‬المفردة‭ ‬التي‭ ‬سيرددها‭ ‬النيهوم‭ ‬في‭ ‬مداخلاته‭ ‬كثيرا،‭ ‬وسيظهر‭ ‬نفسه‭ ‬كمتمرد‭ ‬يلبس‭ ‬‭(‬الجينز‭ ‬والتّي‭ ‬شرت‭)‬،‭ ‬وينظر‭ ‬بغضب

النيهوم‭ ‬الفنان

لكن‭ ‬النيهوم‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬برجلِ‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة‭ ‬تلك‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬النيهوم‭ ‬كان‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬وحتى‭ ‬بعده‭ ‬الفنان‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موهبة‭ ‬الفنان‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬رصيده،‭ ‬ولكن‭ ‬شكل‭ ‬وأسلوب‭ ‬الفنان‭ ‬كان‭ ‬ضمن‭ ‬هذا‭ ‬الرصيد،‭ ‬كفردٍ‭ ‬صبغ‭ ‬جسدهُ‭ ‬وسلوكهُ‭ ‬بروحِ‭ ‬الفنان،‭ ‬وكمبدعٍ‭ ‬نمّى‭ ‬موهبتهُ‭ ‬بدأبٍ‭ ‬ودون‭ ‬كلل‭.‬

المُتأمل‭ ‬لجملةِ‭ ‬النيهوم‭ ‬في‭ ‬كتاباتِه‭ ‬سيجدها‭ ‬جملةً‭ ‬تصدعُ‭ ‬بروح‭ ‬الفنان،‭ ‬فهي‭ ‬جملة‭ ‬كافية‭ ‬ومُكتفية،‭ ‬نابضة‭ ‬وحيوية،‭ ‬وماكرة‭ ‬لدرجة‭ ‬بدا‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬يكتبُ‭ ‬رموزاً‭ ‬‭-‬عند‭ ‬عامة‭ ‬قُرائه‭ ‬‭-‬وأنه‭ ‬بحاجةٍ‭ ‬لتأويلٍ‭ ‬وتفسيرٍ‭ ‬مُطّردين‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ومن‭ ‬الأخرى‭ ‬ردد‭ ‬قراؤهُ‭ ‬أولئك‭ ‬جُملهُ‭ ‬كما‭ ‬حكم‭ ‬ومحفوظات‭.‬

وقبل‭ ‬اتخاذ‭ ‬المقالةَ‭ ‬السرديةَ‭ ‬صيغةً‭ ‬يحُوكُها‭ ‬لمُقتضى‭ ‬الحال،‭ ‬أحياناً‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬المقالةُ‭ ‬ذات‭ ‬دلالة‭ ‬لكن‭ ‬صيغة‭ ‬السرد‭ ‬والسريالية‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬المقالة‭ ‬عند‭ ‬المتلقي‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬أحاجي‭ ‬ورموزا‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬المقالات‭ ‬أثارت‭ ‬لغطاً‭ ‬عند‭ ‬تأويلها‭ ‬بأنها‭ ‬تمس‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬السلطة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تمس‭ ‬الذات‭ ‬الإلهية‭ ‬أو‭ ‬مُسلمات‭ ‬ما‭.‬

هكذا‭ ‬كان‭ ‬النيهوم‭ ‬فناناً‭ ‬من‭ ‬طرازٍ‭ ‬خاص‭ ‬لعلهُ‭ ‬استفاد‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬الشطح‭ ‬الصُوفي‭ ‬المحلي‭ ‬البسيط‭ ‬في‭ ‬رفع‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬الإيهام؛‭ ‬لأن‭ ‬مقالاته‭ ‬وجلّ‭ ‬ما‭ ‬اطلعنا‭ ‬عليه‭ ‬مما‭ ‬كتب‭ ‬لا‭ ‬يُدلل‭ ‬على‭ ‬صلةٍ‭ ‬وثيقةٍ‭ ‬بالنتاج‭ ‬الصوفي‭ ‬الكلاسيكي‭ ‬المعروف‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬النتاج‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تحوّل‭ ‬على‭ ‬يدي‭ ‬مريديه‭ ‬إلى‭ ‬فنون‭ ‬في‭ ‬الزوايا‭ ‬والتكايا،‭ ‬واللغة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النتاج‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬مُموّهة‭ ‬ومُحمّلة‭ ‬بمستوياتٍ‭ ‬عدة‭ ‬من‭ ‬الترميز‭ ‬والدلالة‭.‬

هكذا‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬طرازٍ‭ ‬خاص‭ ‬فلقد‭ ‬تنبه‭ ‬للغةِ‭ ‬المحكية‭ ‬كلهجة‭ ‬عامية،‭ ‬وكمُصطلحات‭ ‬ثقافية‭ ‬وفنية،‭ ‬وكما‭ ‬أشرت‭ ‬أنه‭ ‬استخلص‭ ‬أسلوبهُ‭ ‬من‭ ‬عدةِ‭ ‬أساليب‭ ‬فإنه‭ ‬أولى‭ ‬اللغةَ‭ ‬منزلة‭ ‬المنازل‭ ‬في‭ ‬شُغلهِ‭ ‬وفكرهِ‭ ‬معا‭.‬

لقد‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬فنلندا‭ ‬فترة‭ ‬شبابه‭ ‬العشرينية،‭ ‬وكان‭ ‬يُطالع‭ ‬بالإنكليزية،‭ ‬ويكتبُ‭ ‬بالعربية‭ ‬ويتحدث‭ ‬بعاميةِ‭ ‬مدينته‭ ‬بنغازي‭ ‬الستينية‭ ‬حتى‭ ‬وفاته‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬بمُكنة‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭ ‬غير‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬جعل‭ ‬هذه‭ ‬الخلائط‭ ‬عجينةً‭ ‬واحدةً‭ ‬مصبوغةً‭ ‬بروحِ‭ ‬الفن‭ ‬التي‭ ‬توحي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تومئ،‭ ‬و‭ ‬تومئ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تُشير‭ ‬وتصمت‭ ‬كي‭ ‬تتكلم‭.‬

ومن‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬وضع‭ ‬تضاريسه‭ ‬الخاصة‭ ‬ذات‭ ‬الطبع‭ ‬المُستقل‭ ‬عن‭ ‬محيطها،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬مربوطةً‭ ‬به‭ ‬بالعُروة‭ ‬الوثقى،‭ ‬تجانب‭ ‬هو‭ ‬وقراؤه‭ ‬والصحيفة‭ ‬التي‭ ‬يكتب‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬تريد‭ ‬وما‭ ‬يرغب‭ ‬والدولة،‭ ‬لكن‭ ‬ككاتب‭ ‬محلي‭ ‬كانت‭ ‬تعوزه‭ ‬سُلطة‭ ‬الذات‭ ‬المنفقة‭ ‬من‭ ‬احتياجاتٍ‭ ‬أولية،‭ ‬لهذا‭ ‬كان‭ ‬مأسوراً‭ ‬لهذه‭ ‬الحاجات؛‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬العوز‭ ‬تحاذى‭ ‬والسلطة‭ ‬السياسية‭ ‬دوم‭ ‬حياته‭ ‬لكن‭ ‬بشروط‭ ‬روح‭ ‬الفنان‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ديدن‭ ‬الروح‭.‬

بعد‭ ‬بحثه‭ ‬الأولي‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬القرآن‭ ‬تيمم‭ ‬بالفن،‭ ‬واتخذ‭ ‬من‭ ‬مكة‭ ‬محرابه‭ ‬فكانت‭ ‬روايته‭ ‬غير‭ ‬المكتملة‭ ‬‮«‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬هنا‮»‬،‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬أثارت‭ ‬‭-‬أيضا‭-‬‭ ‬لغطاً‭ ‬محلياً؛‭ ‬منهُ‭ ‬أن‭ ‬الشاعرَ‭ ‬علي‭ ‬الفزاني‭ ‬صرحَ‭ ‬في‭ ‬حوارٍ‭ ‬معهُ‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬بحاجةٍ‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاما‭ ‬كي‭ ‬تُفهم،‭ ‬ومنه‭ ‬أن‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬قد‭ ‬رسم‭ ‬شخصية‭ ‬والد‭ ‬أسرة‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬بنغازي‭ ‬حيث‭ ‬تقع‭ ‬بعض‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الصحفي‭ ‬رشاد‭ ‬الهوني‭ ‬يعمل‭ ‬بجهده‭ ‬المتميز‭ ‬لترويج‭ ‬كتاباتِ‭ ‬نجمِ‭ ‬‮«‬الحقيقة‮»‬‭ ‬‭-‬صحفيته‭ ‬‭-‬‭: ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭.‬


لوحة: بهرام حاجو

‭ ‬‮«‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬هُنا‮»‬‭ ‬الشخصية‭ ‬الرئيسة‭ ‬فيها‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬الشخصية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬عربية‭ ‬تقع‭ ‬أحداثُها‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬العرب‭ ‬التي‭ ‬بطلها‭ ‬زنجي،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تثيرُ‭ ‬مسألة‭ ‬اللون‭ ‬في‭ ‬اشتباكٍ‭ ‬مع‭ ‬مسألةِ‭ ‬الدين،‭ ‬وفي‭ ‬قريةٍ‭ ‬ساحلية‭ ‬فترة‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإيطالي،‭ ‬وتُمارس‭ ‬الشخصية‭ ‬الصيد‭ ‬البحري،‭ ‬لقد‭ ‬دخلت‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬نسيجٍ‭ ‬شائكٍ‭ ‬ومتصدعٍ،‭ ‬وفي‭ ‬شبكةٍ‭ ‬من‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يتخللها‭ ‬السردُ‭ ‬بعد‭.‬

أيقونة‭ ‬النيهوم‭ ‬مَسُّ‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يُمسّ‭ ‬بعد

من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬هنا

الروائي‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬والمسألة‭ ‬الدينية

اتخذ‭ ‬النيهوم‭ ‬منذ‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬هنا‮»‬‭ ‬مسارا‭ ‬نوعيا‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬تجربته‭ ‬الإبداعية،‭ ‬حيث‭ ‬اتجه‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬فيما‭ ‬قبل‭ ‬يستخدمها‭ ‬ضمن‭ ‬سياق‭ ‬كتاباته‭ ‬المتنوعة،‭ ‬بهذه‭ ‬الرواية‭ ‬سيبدأ‭ ‬مسارا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬وكده‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬للأطفال،‭ ‬وكما‭ ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬الكتابين‭ ‬يمثلان‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬مساره‭ ‬الإبداعي،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الحيوانات‮»‬‭ ‬فالرواية‭ ‬تستمد‭ ‬روحها‭ ‬من‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬1984‮»‬‭ ‬و‮»‬القرود‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬اعتبارها‭ ‬الجزء‭ ‬الثاني‭ ‬للحيوانات،‭ ‬وسردية‭ ‬النيهوم‭ ‬تحتاج‭ ‬مبحثا‭ ‬خاصا‭ ‬لكننا‭ ‬هنا‭ ‬نتناولها‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مبحثنا‭ ‬في‭ ‬جانبه‭ ‬الفكري‭ ‬المحض‭.‬

وفي‭ ‬الرواية‭ ‬سيتخذ‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬طريقة‭ ‬لطرح‭ ‬أفكاره‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬الدينية،‭ ‬كمنظر‭ ‬متخذ‭ ‬المنهج‭ ‬التأويلي‭ ‬في‭ ‬النظر‭ ‬لهذه‭ ‬المسألة،‭ ‬وسيكون‭ ‬السرد‭ ‬استعادة‭ ‬للأساليب‭ ‬القديمة‭ ‬للحكي‭ ‬ولكن‭ ‬بروح‭ ‬جديدة‭ ‬تجعل‭ ‬الغرض‭ ‬البيّن‭ ‬ضمن‭ ‬المسار‭ ‬الدرامي‭ ‬لهذا‭ ‬الحكي‭. ‬وبهذا‭ ‬فإن‭ ‬النيهوم‭ ‬سارد‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬المتنبهين‭ ‬للفن‭ ‬وأساليبه؛‭ ‬بحيث‭ ‬أن‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬عمله‭ ‬ستكون‭ ‬المستهدف‭ ‬الأساس‭ ‬وأنها‭ ‬بنية‭ ‬العمل‭ ‬فيما‭ ‬موضوعه‭ ‬نسيج‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البنية‭.‬

لكن‭ ‬التيمة‭ ‬الرئيسة‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬تظل‭ ‬مركزية؛‭ ‬إن‭ ‬الشخوص‭ ‬الروائية‭ ‬تلبس‭ ‬لبوس‭ ‬الفكرة‭ ‬المراد‭ ‬صياغتها‭ ‬ضمن‭ ‬البنية‭ ‬السردية،‭ ‬إن‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬هنا‮»‬‭ ‬زنجي‭ ‬محنك‭ ‬يتخذ‭ ‬من‭ ‬زنوجته‭ ‬أيقونة‭ ‬للوجود؛‭ ‬وجوده‭ ‬ومعنى‭ ‬هذا‭ ‬الوجود،‭ ‬وإن‭ ‬الراوي‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الزنجي‭ ‬معاركا‭ ‬شرسا‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الفكرة‭ ‬الدينية‭ ‬والمسألة‭ ‬العنصرية،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬نبيا‭ ‬جديدا‭ ‬يبشر‭ ‬برؤيا‭ ‬وليس‭ ‬برؤية‭ ‬في‭ ‬هاتين‭ ‬المسألتين‭.‬

وينسج‭ ‬النيهوم‭ ‬شخصيته‭ ‬بتؤدة‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬يبدو‭ ‬كمسرح‭ ‬أو‭ ‬صالة‭ ‬عرض؛‭ ‬حيث‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية‭ ‬هي‭ ‬الإنسان،‭ ‬فإن‭ ‬الطبيعة‭ ‬المنتقاة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬الأرض؛‭ ‬إن‭ ‬قرية‭ ‬سوسة‭ ‬البحرية‭ ‬تجمع‭ ‬اليابسة‭ ‬والبحر‭ ‬والجبل‭ ‬والمعاش‭ ‬فيها‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬ينتج‭ ‬البحر،‭ ‬لذا‭ ‬سوسة‭ ‬رحم‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬عند‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬الصياد‭ ‬أما‭ ‬صيد‭ ‬السلاحف‭ ‬‭(‬‭ ‬الفكارين‭ ‬باللهجة‭ ‬المحلية‭ ‬لسكان‭ ‬الرواية‭ ‬‭-‬سوسة‭)‬‭ ‬فهو‭ ‬المسألة‭ ‬الميتافيزيقية‭ ‬التي‭ ‬تنسج‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الصياد‭ ‬الطبال‭ ‬وشخصية‭ ‬فقيه‭ ‬القرية‭ ‬الناطق‭ ‬بسم‭ ‬المقدس،‭ ‬الفقيه‭ ‬من‭ ‬يجرّ‭ ‬خلفه‭ ‬سكان‭ ‬القرية‭ ‬المحليين‭ ‬‭(‬القرية‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬الشواطئ‭ ‬الليبية‭ ‬في‭ ‬تضاريس‭ ‬الجغرافيا‭ ‬لكن‭ ‬الرواية‭ ‬غير‭ ‬معنية‭ ‬بذلك‭)‬،‭ ‬والعلاقة‭ ‬مع‭ ‬صاحبة‭ ‬المطعم‭ ‬الإيطالية‭ ‬من‭ ‬يزودها‭ ‬الطبال‭ ‬بهذه‭ ‬السلاحف‭ ‬كي‭ ‬تقدمها‭ ‬لزبائنها‭ ‬الإيطاليين‭.‬

‮«‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬هنا‮»‬‭ ‬رواية‭ ‬الشخصية‭ ‬المتفردة؛‭ ‬نجد‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬كما‭ ‬بطل‭ ‬تراجيدي‭ ‬يقع‭ ‬تحت‭ ‬براثن‭ ‬قدر‭ ‬محبوك؛‭ ‬المقدس‭ ‬فيه‭ ‬مرجعيته‭ ‬الدينية‭ ‬أو‭ ‬تفسيره‭ ‬التقليدي‭ ‬للدين‭ ‬وكذا‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬الشعبية‭ ‬التي‭ ‬مرجعيتها‭ ‬هذا‭ ‬التفسير‭ ‬للمقدس‭. ‬في‭ ‬صيد‭ ‬السلاحف‭ ‬يجد‭ ‬الطبال‭ ‬قوته‭ ‬الثمين‭ ‬حيث‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬هكذا‭ ‬صيد‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يمكنه‭ ‬من‭ ‬التوفير‭ ‬لشراء‭ ‬ماكينة‭ ‬لقاربه،‭ ‬وبهذا‭ ‬يقدر‭ ‬على‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬غور‭ ‬البحر‭ ‬ومصارعة‭ ‬جنونه‭ ‬والتمكن‭ ‬من‭ ‬صيد‭ ‬سلاحف‭ ‬وفير،‭ ‬هذه‭ ‬الماكينة‭ ‬يملكها‭ ‬إيطالي‭ ‬يعرضها‭ ‬للبيع‭.‬

تجد‭ ‬الشخصية‭ ‬التراجيدية‭ ‬أنها‭ ‬محكومة‭ ‬بالمطرقة‭ ‬والسندان‭: ‬البحر‭ ‬الذي‭ ‬يلتهم‭ ‬الصبي،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يرجع‭ ‬فيه‭ ‬الفقيه‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬غضب‭ ‬الله‭ ‬لاختراق‭ ‬سننه‭ ‬وصيد‭ ‬السلاحف‭ ‬المباركة،‭ ‬والزوجة‭ ‬زوجة‭ ‬الطبال‭ ‬التي‭ ‬تحلم‭ ‬ليل‭ ‬نهار‭ ‬بأداء‭ ‬فريضة‭ ‬الحج‭.‬

لقد‭ ‬أعد‭ ‬النيهوم‭ ‬شخصيته‭ ‬بقوة‭ ‬بُنية‭ ‬وعناد‭ ‬رأس‭ ‬وأفكارٍ‭ ‬محمومة،‭ ‬كي‭ ‬تطفئ‭ ‬حُمّى‭ ‬الطبيعة‭ ‬والبشر‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬آل‭ ‬الطبال‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬من‭ ‬يحمل‭ ‬لغتهم‭ ‬ودينهم‭ ‬ومن‭ ‬عليه‭ ‬اتباعهم،‭ ‬رغم‭ ‬زنجيّته‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬على‭ ‬خطوة‭ ‬من‭ ‬طرفي‭ ‬القرية‭: ‬السكان‭ ‬المحليون‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬والإيطاليون‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭.‬

بهذا‭ ‬تظهر‭ ‬شخصية‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬مفارقة‭: ‬القوت‭ ‬يضعه‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬للإيطاليين،‭ ‬والحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬تجعل‭ ‬منه‭ ‬محليا‭ ‬متمردا،‭ ‬كذا‭ ‬فهو‭ ‬بهذا‭ ‬التمرد‭ ‬يواجه‭ ‬المقدس‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬مؤول‭ ‬محليا‭.‬

النيهوم‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬الطبال‭ ‬شخصية‭ ‬الرواية‭ ‬أو‭ ‬يجعله‭ ‬الرواية‭ ‬بالمرة؛‭ ‬فبقية‭ ‬الشخصيات‭ ‬تثير‭ ‬مسائل‭ ‬في‭ ‬حلّ‭ ‬منها‭ ‬شخصية‭ ‬الطبال‭ ‬الذي‭ ‬وجوده‭ ‬كما‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬لتأويل،‭ ‬ولعله‭ ‬لهذا‭ ‬جعل‭ ‬علاقة‭ ‬الشخصية‭ ‬بالطبيعة‭ ‬أوتد،‭ ‬من‭ ‬البحر‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬كل‭ ‬شيء؛‭ ‬مسعود‭ ‬نفسه‭ ‬شخصية‭ ‬مائية‭ ‬وطيد‭ ‬المعرفة‭ ‬والوجدان‭ ‬بالبحر‭.‬

وإذا‭ ‬أردنا‭ ‬فإن‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬كأول‭ ‬زنجي‭ ‬بطل‭ ‬لرواية‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬علمنا،‭ ‬قد‭ ‬جعل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬تنسج‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة،‭ ‬لهذا‭ ‬تحررت‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬سردي‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬السردي‭ ‬باستثناء‭ ‬معروف‭ ‬هو‭ ‬الملحمة‭ ‬الأسطورية‭: ‬عنترة‭ ‬بن‭ ‬شداد‭. ‬لعل‭ ‬الروائي‭ ‬عند‭ ‬الصادق‭ ‬النيهوم‭ ‬قد‭ ‬طال‭ ‬لاوعيه‭ ‬الروائي‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬فتماس‭ ‬معها‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يستعيدها،‭ ‬لأننا‭ ‬نجد‭ ‬هذا‭ ‬الزنجي‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬منسوج‭ ‬الحكي‭ ‬التراثي‭ ‬قوي‭ ‬البنية‭ ‬جسورا‭ ‬ويغرد‭ ‬مع‭ ‬البحر‭ ‬خارج‭ ‬السرب‭.‬

‭ ‬الزنجي‭ ‬البطل‭ ‬اللامنتمي

النيهوم‭ ‬معروف‭ ‬في‭ ‬نتاجه‭ ‬الفكري‭ ‬اهتمامه‭ ‬المركز‭ ‬بالمسألة‭ ‬الدينية؛‭ ‬لعل‭ ‬هذا‭ ‬يوضح‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬التيمة‭ ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬هنا‮»‬‭ ‬هي‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭: ‬ثمة‭ ‬قيم‭ ‬تقليدية‭ ‬راسخة‭ ‬تتمظهر‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬أساطير‭ ‬وخراريف‭ ‬تراثية‭ ‬شعبية،‭ ‬الناطق‭ ‬الرسمي‭ ‬بها‭ ‬فقيه‭ ‬القرية،‭ ‬الذي‭ ‬يواجه‭ ‬بتطرف‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬العراك‭ ‬الجسدي‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال،‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬المتحقق‭ ‬أن‭ ‬الآلة‭ ‬‭(‬الماكينة‭)‬‭ ‬التي‭ ‬يملكها‭ ‬الإيطالي‭ ‬هي‭ ‬الحل‭ ‬لمسألة‭ ‬المعاش،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬السلاحف‭ ‬ليست‭ ‬مباركة‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬كذلك‭ ‬فهي‭ ‬جديرة‭ ‬بتوفير‭ ‬الحياة‭ ‬لبني‭ ‬آدم،‭ ‬أما‭ ‬حج‭ ‬زوجة‭ ‬الطبال‭ ‬فقد‭ ‬مثل‭ ‬مسألة‭ ‬إثقال‭ ‬كفة‭ ‬الميزان‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬صالح‭ ‬الطبال‭.‬

ليست‭ ‬الرواية‭ ‬رواية‭ ‬أحداث‭ ‬قدر‭ ‬مّا،‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬الشخصية‭ ‬فالمنولوج‭ ‬لُحمة‭ ‬الرواية،‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬هو‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬المفرد‭ ‬المتفرد‭ ‬الذي‭ ‬كصياد‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬وحيدا،‭ ‬ولا‭ ‬زمان‭ ‬له‭ ‬غير‭ ‬الزمن‭ ‬الذاتي،‭ ‬وزمن‭ ‬الطبيعة‭ ‬البحرية‭ ‬ما‭ ‬تعني‭ ‬الشمس‭ ‬في‭ ‬شروقها‭ ‬وغروبها،‭ ‬وكأنما‭ ‬الطبال‭ ‬يعطي‭ ‬بظهره‭ ‬لزمن‭ ‬الناس‭ ‬بانشغاله‭ ‬بالبحر‭ ‬وعراكه‭ ‬ومناجاته‭.‬

لذا‭ ‬سوسة‭ ‬قرية‭ ‬كونية‭ ‬دائرتها‭ ‬المكان‭/‬الطبيعة‭ ‬ومركزها‭ ‬الزمن‭: ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬ويضطرم‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭.‬

هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬مركز‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭ ‬وأفكاره‭ ‬وما‭ ‬يجيش‭ ‬بنفسه‭ ‬هو‭ ‬وجوده،‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬يستمد‭ ‬الطبال‭ ‬تمرّده‭ ‬وتستمد‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التمرد‭ ‬نسجها،‭ ‬بالتالي‭ ‬تبدو‭ ‬أفكار‭ ‬النيهوم‭ ‬حول‭ ‬المسألة‭ ‬الدينية‭ ‬ومنهجها‭ ‬التأويلي‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬فهي‭ ‬هنا‭ ‬من‭ ‬نسج‭ ‬الرواية،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬بدأت‭ ‬الرواية‭ ‬رواية‭ ‬أفكار‭ ‬لكن‭ ‬خباء‭ ‬السرد‭ ‬المحكم‭ ‬جعل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬نسج‭ ‬السرد‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬مرجعية‭ ‬الراوي‭ ‬المتفكّر‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬الدينية‭.‬

رغم‭ ‬ذلك‭ ‬تثقل‭ ‬الرواية‭ ‬‭-‬كعادة‭ ‬النيهوم‭-‬‭ ‬بذهنية‭ ‬المتفكر؛‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬شخصية‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬متمردا‭ ‬وجوديا‭ ‬يصوغ‭ ‬نفسه‭ ‬كمنولوج‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬الرواية،‭ ‬وهو‭ ‬قلب‭ ‬الرواية‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬مكان‭ ‬الرواية‭/‬قرية‭ ‬سوسة‭ ‬هو‭ ‬هامشي‭.‬

لقد‭ ‬جعلت‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬شخصيتها‭ ‬مثل‭ ‬نخبوي‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬أفكاره‭ ‬أكثر‭ ‬منه‭ ‬صيادا‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬صيده،‭ ‬ومسكوت‭ ‬الرواية‭ ‬هذا‭ ‬منطوقها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المرجعية‭ ‬الفكرية‭ ‬للروائي‭ ‬التي‭ ‬تتخفى‭ ‬بالضرورة‭ ‬بالسردية؛‭ ‬فنحن‭ ‬نتلقى‭ ‬نتاجا‭ ‬روائيا‭ ‬مسرودا‭ ‬بحكمة‭ ‬الفنان‭ ‬لا‭ ‬بفن‭ ‬الحكيم،‭ ‬وتتجلى‭ ‬في‭ ‬استنطاق‭ ‬مجمل‭ ‬الرواية‭ ‬‮«‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬هنا‮»‬‭.‬

وكما‭ ‬أشرنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬ليست‭ ‬رواية‭ ‬أحداث،‭ ‬نؤكد‭ ‬أن‭ ‬اختزال‭ ‬الحدث‭ ‬قد‭ ‬مركز‭ ‬الشخصية‭ ‬وجعل‭ ‬المنولوج‭ ‬مركز‭ ‬البنية‭ ‬السردية،‭ ‬هذا‭ ‬أعطى‭ ‬السرد‭ ‬مكنة‭ ‬طرح‭ ‬الأفكار‭ ‬وتداعيها،‭ ‬فالشخصية‭ ‬الروائية‭/‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬عرض‭ ‬وطول‭ ‬الرواية‭ ‬يعيش‭ ‬وحيدا‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬سرير‭ ‬الزوجية‭ ‬ثمة‭ ‬جدار‭ ‬بينه‭ ‬وزوجه‭ ‬الحالمة‭ ‬بالحج‭. ‬والوقائع‭ ‬المسرودة‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬مسألة‭ ‬المقدس‭ ‬مسألة‭ ‬تحكم‭ ‬العلائق‭ ‬في‭ ‬الفعل‭ ‬الروائي‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية،‭ ‬أما‭ ‬الرتابة‭ ‬روح‭ ‬القرية‭ ‬البحرية‭ ‬فهي‭ ‬ما‭ ‬تركز‭ ‬مسألة‭ ‬المقدس‭ ‬وتجعل‭ ‬من‭ ‬تصيد‭ ‬الطبال‭ ‬للسلاحف‭ ‬المباركة‭ ‬تهديدا‭ ‬لقرية‭ ‬تعيش‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬أو‭ ‬جوع،‭ ‬البحر‭ ‬جواد‭ ‬فالسمك‭ ‬يسدّ‭ ‬الرمق‭. ‬ومسألة‭ ‬الماكينة‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬الكفاف‭ ‬يهدد‭ ‬هكذا‭ ‬حياة،‭ ‬لقد‭ ‬صار‭ ‬الطبال‭ ‬خارجا‭ ‬عن‭ ‬الناموس‭ ‬عدوّ‭ ‬لله‭ ‬عدوهم،‭ ‬وكزنجي‭ ‬كان‭ ‬وجوده‭ ‬مفردا‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬استمدت‭ ‬الشخصية‭ ‬الروائية‭ ‬مركزها‭ ‬كشخصية‭ ‬الرواية‭.‬

وهذا‭ ‬الصراع‭ ‬البيّن‭ ‬الفاعل‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬الأخرى‭ ‬وهي‭ ‬هنا‭ ‬الإيطالية‭ ‬كخلفية‭ ‬لهذا‭ ‬الصراع‭ ‬المحموم‭ ‬بين‭ ‬طموح‭ ‬الطبال‭ ‬وحمى‭ ‬المقدس‭ ‬عند‭ ‬آل‭ ‬القرية‭ ‬المحليين،‭ ‬فيما‭ ‬الماكينة‭-‬موتور‭ ‬القارب‭ ‬المحرك‭ ‬للصراع‭ ‬كامن‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬كطرف‭ ‬غائب،‭ ‬والحديث‭ ‬حوله‭ ‬عابر‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬أحداث‭ ‬الرواية‭.‬

وكما‭ ‬تنقسم‭ ‬سوسة‭ ‬بين‭ ‬شخصية‭ ‬الطبال‭ ‬المركزية‭ ‬وشخصية‭ ‬الفقيه‭ ‬تحوك‭ ‬الرواية‭ ‬نسيجها‭ ‬السردي،‭ ‬ويوضح‭ ‬النيهوم‭ ‬تراجيديا‭ ‬شخصيته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الانقسام‭ ‬الذي‭ ‬يعانيه‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬في‭ ‬منولوجه‭ ‬وأحلامه‭ ‬وأحلام‭ ‬زوجه‭.‬

إذن‭ ‬المسألة‭ ‬الدينية‭ ‬هنا‭ ‬تندسّ‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬الشخصية‭ ‬الداخلي‭ ‬وتفجر‭ ‬وجدانه‭ ‬وتشظّي‭ ‬نفسه‭.‬

‭-‬‭ ‬هل‭ ‬الطبال‭ ‬عبد‭ ‬مارق‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الفقيه‭: ‬يقول‭ ‬الطبال‭ ‬لنفسه؟

الروائي‭ ‬جرّد‭ ‬أحداث‭ ‬روايته‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬مسائل‭ ‬أخرى،‭ ‬وجعل‭ ‬طرف‭ ‬الميكنة‭ ‬كما‭ ‬طرف‭ ‬أجنبي‭ ‬يثير‭ ‬المسألة‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬جزءًا‭ ‬داخليا‭ ‬منها،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬الإيطاليين‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬شخصيات‭ ‬ثانوية‭ ‬رغم‭ ‬مركزيتها‭.‬

Mالرواية‭ ‬تنتهي‭ ‬وقد‭ ‬فشل‭ ‬مسعود‭ ‬الطبال‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬مشروعه،‭ ‬لكن‭ ‬يبقي‭ ‬في‭ ‬مسرود‭ ‬الرواية‭ ‬‭-‬عند‭ ‬القارئ‭ ‬الحصيف‭-‬‭ ‬كمشروع،‭ ‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬هنا‮»‬‭ ‬يكشف‭ ‬النيهوم‭ ‬عن‭ ‬جدارته‭ ‬بإثارة‭ ‬مسألة‭ ‬كالمسألة‭ ‬الدينية‭ ‬كسارد‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬تحت‭ ‬ثقل‭ ‬مسألة‭ ‬كهذه‭.‬

إن‭ ‬المسائل‭ ‬التي‭ ‬تناولناها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مبحث‭ ‬خاص،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬سياقها‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬البحث‭ ‬قد‭ ‬وضحت‭ ‬أن‭ ‬المفكرين‭ ‬مثل‭ ‬النيهوم‭ ‬كما‭ ‬الشخصيات‭ ‬المتمردة‭ ‬والثائرة‭ ‬التباسية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ومن‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭ ‬مثيرة‭ ‬عواصف‭ ‬ذهنية‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬واقعية‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.