نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬والشعر‭ ‬الأنثوي

الأحد 2017/01/01
لوحة: جبران هداية

لقد ‭ ‬ظلّت‭ ‬الثّقافة‭ ‬الذّكوريّة‭ ‬هي‭ ‬المقدّس‭ ‬السّائد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬دون‭ ‬تحديد،‭ ‬ولم‭ ‬تحصل‭ ‬المرأة‭ ‬إلّا‭ ‬على‭ ‬الهامش‭ ‬الضّيّق،‭ ‬الذي‭ ‬جعلها‭ ‬تحت‭ ‬وصاية‭ ‬الذّكر‭ ‬وداخل‭ ‬شرنقته،‭ ‬ولم‭ ‬يمنحها‭ ‬نفسا‭ ‬لتعبّر‭ ‬عن‭ ‬ذاتها،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬ما‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تقوله،‭ ‬فعاشت‭ ‬كبتا‭ ‬طويلاً‭ ‬انعكس‭ ‬سلبا‭ ‬على‭ ‬ذاتها،‭ ‬ولعلّ‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬عبّرت‭ ‬عنه‭ ‬الناقدة‭ ‬ألين‭ ‬شوالتر بقولها‮ ‬‮«‬المرأة‭ ‬قد‭ ‬دربت‭ ‬طويلاً‭ ‬على‭ ‬كراهية‭ ‬ذاتها‭ ‬وإعلاء‭ ‬قيمة‭ ‬الذّكور‮»‬‭.‬

ولما‭ ‬دخلت‭ ‬عالم‭ ‬المرأة‭ ‬الكتابة،‭ ‬وأدلت‭ ‬بدلوها‭ ‬فيه،‭ ‬فقد‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬أمام‭ ‬حائط‭ ‬لّغة‭.‬‮ ‬بما‭ ‬أنّ‭ ‬اللّغة‭ ‬هي‭ ‬وسيلة‭ ‬المبدعة‮ ‬‭ ‬لتخطي‭ ‬السّائد‭ ‬الذّكوري‭-‬الفحل،‭ ‬فكيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬اللّغة‭ ‬التي‭ ‬ستكتب‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها‭ ‬من‭ ‬صُنع‭ ‬الرّجل‭..‬؟،‭ ‬فالمعجم‭ ‬اللّغويّ‭ ‬يضع‭ ‬المرأة‭ ‬دائماً‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الثاني‮ ‬ويلخص‭ ‬هذا‭ ‬بيير‭ ‬داكو‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬المرأة‭: ‬بحث‭ ‬في‭ ‬سيكولوجية‭ ‬الأعماق،‭ ‬ص‭. ‬79‮»‬‭ ‬قائلا‭ ‬إن‮ ‬‮«‬اللّغة‭ ‬الرّاهنة‭ ‬ذات‭ ‬الأساس‭ ‬المذكر،‭ ‬لا‭ ‬تتيح‭ ‬للمرأة‭ ‬أن‭ ‬تحدّد‭ ‬موقعها،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬تصف‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬امرأة‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‮ ‬‭ ‬نتساءل‭: ‬هل نجحت‭ ‬الشاعرة‭ ‬العراقية‭ ‬المعروفة‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة في‭ ‬تأنيث‭ ‬القصيدة‭ ‬وتجاوز عقبة‭ ‬الفحولة‭ ‬الذكورية‭ ‬كمضمون‭ ‬وكقالب‭ ‬موسيقي‭ ‬بوعي‭ ‬أو‭ ‬دون‭ ‬وعي‭..‬؟‭ ‬وماذا‭ ‬يقول‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬والنقاد‭ ‬الذين‭ ‬عاصروها‭ ‬عن‭ ‬تجربتها‭ ‬هذه؟

بادئ‭ ‬ذي‭ ‬بدء‭ ‬نجد‭ ‬النّاقد‭ ‬والشّاعر‭ ‬الرّاحل‭ ‬توفيق‭ ‬صايغ‭ ‬ينتقد‭ ‬البعد‭ ‬الذكوري‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬نازك‭ ‬الملائكة‭/‬‭ ‬طريدة‭ ‬المتاهة‭ ‬والصوت‭ ‬المزدوج‮»‬‭ ‬الصَّادر عن‭ ‬دار‭ ‬الجمل،‭ ‬‮«‬لماذا‭ ‬الرقيق،‭ ‬وأبولو‭ ‬رمز‭ ‬الجمال‭ ‬الرجولي؟‮»‬‭.‬‮ ‬لقد‭ ‬ورد‭ ‬هذا‭ ‬النقد‭ ‬الذي‭ ‬صاغه‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬سؤال‭ ‬في‭ ‬تعليق‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬‮ ‬قصيدتها‭ ‬‮«‬يوتوبيا‭ ‬الضائعة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬فيها‭:‬

‮ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الأفق‭ ‬الأزليّ

وحيث‭ ‬يعيش‭ ‬أبولو‭ ‬الرّقيق‭.‬

‭(‬ديوان‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة،‭ ‬المجلد‭ ‬2،‭ ‬ص‭: ‬42‭)‬‭.‬

وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬فإن‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬طرحه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬هو‭: ‬هل‭ ‬استطاعت‭ ‬الشاعرات‭ ‬‮ ‬المبدعات‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الشعري‭ ‬العربي،‭ ‬ومن‭ ‬بينهنَ‭ ‬الشاعرة‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة،‭ ‬أن‭ ‬ينسلخن‭ ‬عن‭ ‬مضامين،‭ ‬وأشكال‭ ‬التراث‭ ‬الشعري‭ ‬الذكوري؟ أم‭ ‬أن‭ ‬الشّعر‭ ‬‮«‬شيطانه‭ ‬ذكر‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يتغنى‭ ‬بذلك‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرزدق‭. ‬كما‭ ‬ذكر‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الدارسين أبو‭ ‬نجم‭ ‬العجلي،‭ ‬وجمل‭ ‬بازل‭.‬‮ ‬من‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬التقاليد‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬أنه‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬فحلاً،‭ ‬وأنه‭ ‬ارتبط‭ ‬بالرّجال‭ ‬دائماً،‭ ‬وأنه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصّعب‭ ‬على‭ ‬المرأة‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬مؤسّسة‭ ‬الفحول‭. ‬فالشاعر‭ ‬الفرزدق‭ ‬قد‭ ‬قال‭ ‬ذات‭ ‬مرّة‭ ‬ساخراً‭ ‬في‭ ‬امرأة‭ ‬قالت‭ ‬شعراً‭ ‬‮«‬إذا‭ ‬صاحت‭ ‬الدّجاجة‭ ‬صياح‭ ‬الدّيك‭ ‬فاذبحوها‮»‬‭. ‬إن‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬الصادر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬قد‭ ‬ساهم في‭ ‬جعل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يُخالف‭ ‬هذا‭ ‬النسق‭ ‬الطاغي‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬ضروس،‭ ‬وتنبغي‭ ‬الإشارة‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الشاعر أبي‭ ‬تمام‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُمثّل‭ ‬‮«‬النسق‭ ‬المفتوح‮»‬‭ ‬ويرى‭ ‬أنّ‭ ‬الشّعر‭ ‬‮«‬ناقة‭ ‬ولود‭ ‬ومعطاء‮»‬‭ ‬قد‭ ‬عانى‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬إذ‭ ‬قالوا‭ ‬عن‭ ‬شعره‭ ‬‮«‬إن‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬شعراً‭ ‬فما‭ ‬قالته‭ ‬العرب‭ ‬باطل‮»‬‭.‬


لوحة: تانيا الكيالي

رغم‭ ‬هذا‭ ‬فإن‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭ ‬المبدعة‭ ‬قد‭ ‬اقتحمت هذه‭ ‬القلعة‭ ‬الحصينة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالفحول‭ ‬وتمكنت‭ ‬من‭ ‬قرض‭ ‬الشعر،‭ ‬ولعلّ‭ ‬الاسم‭ ‬البارز‭ ‬تاريخياً‭ ‬هو‭ ‬الخنساء‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكتب‭ ‬إلّا‭ ‬شعراً‭ ‬عن‭ ‬الذكور،‭ ‬الفحول‭ ‬حيث‭ ‬أمضت‭ ‬عمرها‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬رثاء‭ ‬رجلين‭ ‬مما‭ ‬جعل‭ ‬شعرها‭ ‬تابعاً‭ ‬للرجل،‭ ‬وبهذا‭ ‬الخصوص‭ ‬يقول‭ ‬عبدالله‭ ‬الغذامي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‭(‬تأنيث‭ ‬القصيدة‭ ‬والقارئ‭ ‬المختلف،‭ ‬ص‭: ‬32‭)‬‭ ‬‮«‬فالخنساء‭ ‬وصويحباتها‭ ‬لسن‭ ‬إلّا‭ ‬تعزيزاً‭ ‬للمعنى‭ ‬الفحولي‭ ‬للشعر‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الخنساء‭ ‬اسم‭ ‬أنثوي‭ ‬يكتب‭ ‬شعراً‭ ‬فحولياً،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنّها لم‭ ‬تحدث‭ ‬اختراقا‭ ‬نوعيا‭ ‬جديدا‭ ‬للثقافة‭ ‬الذكورية،‭ ‬وهكذا‭ ‬استمر‭ ‬شّعر‭ ‬المرأة‭ ‬العربية‭ ‬مطعّماً‭ ‬بالفحولة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬قرناً‭ ‬منذ‭ ‬الخنساء،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬صوت‭ ‬الشاعرة‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬1947‭ ‬بتفعيل‭ ‬نموذج‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭.‬‮ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬يرى‭ ‬عبدالله‭ ‬الغذامي‭ ‬أنّ‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬قد‭ ‬قامت‭ ‬بقلب‭ ‬موازين‭ ‬الخليل‭ ‬وكسر‭ ‬عمود‭ ‬الشّعر،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬قصيدتها‭ ‬‮«‬الكوليرا‮»‬‭ ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬العروبة‮»‬‭ ‬اللبنانية‭ ‬عام‭ ‬1947‭. ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬تقول‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬كتابها‭ ‬‭(‬قضايا‭ ‬الشعر‭ ‬المعاصر،‭ ‬ص‭:‬23‭)‬‭ ‬‮«‬كانت‭ ‬أول‭ ‬قصيدة‭ ‬حرة‭ ‬الوزن‭ ‬تنشر‭ ‬هي‭ ‬قصيدتي‭ ‬المعنونة‭ ‬‭(‬الكوليرا‭)‬‮»‬‭ ‬وتضيف‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬السّياق‭ ‬مبرزة‭ ‬‮«‬وفي‭ ‬النصف‭ ‬الثّاني‭ ‬من‭ ‬الشّهر‭ ‬نفسه‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬ديوان‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ ‬أزهار‭ ‬ذابلة‭ ‬وفيه‭ ‬قصيدة‭ ‬حرة‭ ‬الوزن‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬بحر‭ ‬الرّمل‭ ‬عنوانها‭ ‬‭(‬هل‭ ‬كان‭ ‬حبا‭)‬‮»‬‭ ‬‭(‬نفسه،‭ ‬ص‭: ‬24‭)‬‭.‬

إن‭ ‬‮ ‬السّؤال‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬طرحه‭ ‬الآن‭ ‬هو‭: ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬جاءت‭ ‬به‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬حتى‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬النّاقد‭ ‬السّعودي‭ ‬المعروف‭ ‬عبدالله‭ ‬الغذامي‭ ‬يُخصّص‭ ‬لها‭ ‬كتابا‭ ‬كاملا‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬تأنيث‭ ‬القصيدة‭ ‬والقارئ‭ ‬المختلف‮»‬‭.. ‬وهل‭ ‬كانت‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة سّباقة‭ ‬في‭ ‬التّجديد‭ ‬فعلا‭..‬؟‭ ‬فالغذامي‭ ‬يقول‭ ‬بأنّها‭ ‬‮«‬فتاة‭ ‬يافعة‭ ‬‭-‬يقصد‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭-‬‭ ‬تجرأت‭ ‬على‭ ‬عمود‭ ‬الفحول‭ ‬وعلى‭ ‬نظام‭ ‬لغتهم‮»‬‭ ‬‭(‬ص‭. ‬4‭)‬‭. ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬الغذامي‭ ‬يقصد‭ ‬هنا‭ ‬ثورتها‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬اللّغة‭ ‬الشّعريّة‭ ‬السّائد‭. ‬وطبعاً‭ ‬فكلنا‭ ‬يعرف‭ ‬قراءات‭ ‬الغذامي‭ ‬السّلفيّة،‭ ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬أنّ‭ ‬شعر‭ ‬أدونيس‭ ‬فحولي،‭ ‬ورجعي‭ ‬وتقليدي،‭ ‬ويعلل‭ ‬هذا‭ ‬بأن‭ ‬اسم‭ ‬أدونيس‭ ‬وثني‭ ‬لأنّه‭ ‬اسم‭ ‬الإلهة‭ ‬الإغريقيّة،‭ ‬بينما‭ ‬نسي‭ ‬أنّ‭ ‬اسم‭ ‬نازك‭ ‬–‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬عربياً‭-‬‭ ‬‮«‬يُحيل‭ ‬إلى‭ ‬دلالات‭ ‬ذكورية‭ ‬بارزة‭. ‬إن‭ ‬‭(‬النّزك‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬ابن‭ ‬منظور،‭ ‬هو‭ ‬ذكر‭ ‬الورل‭ ‬والضب‮»‬‭ ‬‭(‬عبدالله‭ ‬الغذامي‭ ‬والممارسة‭ ‬النّقديّة‭ ‬والثّقافيّة،‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المؤلفين،‭ ‬ص‭: ‬119‭)‬‭. ‬وهنا‭ ‬نتساءل‭: ‬كيف‭ ‬تجرأت‭ ‬نازك‭ ‬على‭ ‬هتك‭ ‬نظام‭ ‬لغة‭ ‬الفحول‭-‬‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬الغذامي‭-‬‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تتفطن‭ ‬إلى‭ ‬اسمها‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬دلالات‭ ‬ذكورية كما‭ ‬أشرنا‭ ‬سابقا؟

لاشك‭ ‬أن نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬قد‭ ‬قدمت‭ ‬الكثير‭ ‬للشعر‭ ‬الحر،‭ ‬كشاعرة،‭ ‬ومنظرة،‭ ‬وكصاحبة‭ ‬فكر‭ ‬ناضج،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬ما‭ ‬ذهب‭ ‬إليه‭ ‬الغذامي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬المذكور‭ ‬واعتبار‭ ‬نازك‭ ‬‮ ‬صاحبة‭ ‬الرّيادة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الشّعر‭ ‬الحر‮»‬،‭ ‬هو‮ ‬‭ ‬في‭ ‬حدَ‭ ‬ذاته‭ ‬قضية‭ ‬كانت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬محل‭ ‬جدل‭ ‬واختلاف‭ ‬حيث هناك‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬أنّ‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬السّباقة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭. ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬‮«‬من‭ ‬أوائل‭ ‬من‭ ‬ردَ‭ ‬على‭ ‬دعاة‭ ‬‘قصيدة‭ ‬النّثر’‭ ‬التي‭ ‬تبنتها‭ ‬مجلة‭ ‬‘شعر’‭ ‬واعتبرتها‭ ‬بدعة‭ ‬غريبة‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬جهته‭ ‬فقد‭ ‬شكَك‭ ‬أدونيس‭ ‬في‭ ‬حداثتها‭ ‬حين‭ ‬كتب‭ ‬‮«‬بيان‭ ‬الحداثة‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬‮ ‬أنّ‭ ‬‮«‬في‭ ‬شعر‭ ‬أبي‭ ‬تمام‭ ‬حساسية‭ ‬حديثة‭ ‬ورؤية‭ ‬فنية‭ ‬حديثة‭ ‬لا‭ ‬تتوفران‭ ‬عند‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‮»‬‭. ‬وفي‮ ‬كتابه‭ ‬‮«‬ها‭ ‬أنت‭ ‬أيّها‭ ‬الوقت،‭ ‬ص‭: ‬45‮»‬‭ ‬يتحدّث‭ ‬عنها‭ ‬أدونيس‭ ‬ساخراً‭ ‬من‭ ‬ادّعائها‭ ‬أنها‭ ‬الرائدة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬الشعر‭ ‬الحر،‭ ‬وأنها‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬أطلق‭ ‬حركة‭ ‬التجديد‭. ‬أما‭ ‬بدر‭ ‬شاكر‭ ‬السّياب‭ ‬فيعترف‭ ‬بدور‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة،‭ ‬وأن‭ ‬ما‭ ‬قاموا‭ ‬به‭ ‬قد‭ ‬مهد‭ ‬له‭ ‬الشعراء‭ ‬الأندلسيون‭ ‬الذين‭ ‬ثاروا‭ ‬على‭ ‬القوافي‭ ‬والأوزان،‭ ‬وثم‭ ‬شعراء‭ ‬المهجر‭ ‬الذين‭ ‬مهدوا‭ ‬الطّريق‭ ‬له‭ ‬ولنازك‭ ‬الملائكة‭ ‬ومن‭ ‬معهما‭. ‬وبهذا‭ ‬الخصوص‭ ‬يقول‭ ‬السياب،‮ ‬الذي‭ ‬اقتبسه‭ ‬الدارس‭ ‬حسن‭ ‬الغرفي‭ ‬في‮ ‬‭ ‬كتابه‭ ‬‭(‬السياب‭ ‬النثري،‭ ‬ص‭: ‬105‭)‬‭ ‬ما‭ ‬يلي‭ ‬‮«‬إنّنا‭ ‬فعلنا‭ ‬شيئاً‭ ‬شبيها‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬بما‭ ‬فعله‭ ‬الشّعراء‭ ‬الأندلسيون‭ ‬حين‭ ‬كتبوا‭ ‬الموشحات،‭ ‬كانت‭ ‬الموشحات‭ ‬الخطوة‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬وقمنا‭ ‬نحن‭ ‬بالخطوة‭ ‬الثانية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬مهد‭ ‬الطريق‭ ‬لنا‭ ‬شعراء‭ ‬المهجر‮»‬‭. ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬شهادة‭ ‬الشاعر‭ ‬السياب‭ ‬نفهم‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬نازك،‭ ‬ليس‭ ‬سوى‭ ‬خطوة‭ ‬ثانية‭ ‬مكملة‭ ‬للأولى‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬‮ ‬بها‭ ‬الأندلسيون‭ ‬وشعراء‭ ‬المهجر‭ ‬ومن‭ ‬سبقهم،‭ ‬أي‭ ‬أنّها‭ ‬قامت‭ ‬بتغيير‭ ‬تسريحة‭ ‬شعر‭ ‬الرّأس‭ ‬الذكوري،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تُقلعه‭ ‬قلعاً،‭ ‬وتُحلّ‭ ‬مكانه‭ ‬بدائل‭ ‬تتناسب‭ ‬معها‭ ‬كأنثى‭ ‬ثائرة‭ ‬على‭ ‬النّسق‭ ‬الذّكوري‭ ‬كما‭ ‬يدّعي‭ ‬الغذامي‭. ‬وبعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬فإن‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة لم‭ ‬تقم‭ ‬بإحداث‭ ‬رجة‭ ‬عنيفة‭ ‬لزلزلة‮ ‬‭ ‬المضمون‭ ‬الذكوري‭ ‬للقصيدة‭ ‬العربية‭ ‬التقليدية‭.‬

‮ ‬إنّنا‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬نُنكر‭ ‬أنّ‭ ‬نازك‭ ‬قد‭ ‬قدّمت‭ ‬الإضافة،‭ ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬منه،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬يُمكننا‭ ‬أن‭ ‬نربط‭ ‬حركة‭ ‬التّجديد‭ ‬بها‭ ‬وحدها‭ ‬لأن‭ ‬بدايات‭ ‬نهضة‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭ ‬تعود‭ ‬تاريخيا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬نازك‭ ‬الملائكة‭ ‬وبدر‭ ‬شاكر‭ ‬السياب‭ ‬وعبدالوهاب‭ ‬البيَاتي‭ ‬ومن‭ ‬عاصرهم‭ ‬أو‭ ‬تلاهم‭. ‬إن‭ ‬ربط‭ ‬الشعر‭ ‬الحر‭ ‬بهؤلاء‭ ‬وحدهم‭ ‬يُعدّ‭ ‬إنكاراً‭ ‬لفضل‭ ‬من‭ ‬سبقهم‭ ‬مثل‭ ‬أبي‭ ‬تمام،‭ ‬والأندلسيين،‭ ‬وشعراء‭ ‬المهجر‭ ‬الذين‭ ‬مهدوا‭ ‬لهم‭ ‬الطّريق‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.