الجواب على تصدع العولمة.. أممية جديدة أم هويات قاتلة

الأربعاء 2017/02/01
لوحة: يوسف عبدلكي

هناك خيط يربط بين الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست) والانتخابات الرئاسية الأميركية والانتخابات الأولية لليمين والوسط في فرنسا من أجل اختيار المرشح العتيد للانتخابات الرئاسية في 2017. وهذا الخيط المشترك بين هذه الاستحقاقات في 2016 كان معارضة مسار العولمة والاحتجاج على مآلاتها.

إلى جانب أسباب أخرى متصلة بتاريخ إنجلترا وصلة هذه الجزيرة بالقارة الأوروبية والعالم، ارتبط نجاح البريكست برغبة الخروج عن قيود العولمة بما في ذلك العقود الملزمة مع الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالتبادل التنافسي أو الهجرة الأوروبية الداخلية. وهذا الانسحاب من العولمة وإن كان حتى الآن على رؤوس الأقدام فله رمزيته الكبيرة من دولة الثورة الصناعية ونواة إمبراطورية كانت لا تغيب عنها الشمس. وأتى انتخاب دونالد ترامب ليكرس انقساما عميقا في النسيج الأميركي، لكنه قبل كل شيء إشارة لا لبس فيها من الدولة التي قادت العولمة وها هي تستعد للخروج من قيادة قطارها، والدليل أن أولى خطوات ترامب المعلنة هي نيته الانسحاب من اتفاق التجارة الحرة مع دول المحيط الهادي. وفي نفس السياق أتت الانتخابات الأولية لليمين والوسط في فرنسا لتدلل على اندفاع فئة كثيرة من الناخبين خلف فرنسوا فيون ونيكولا ساركوزي وهما اللذان ركزا على الهوية القلقة، ولفت النظر رفض فيون لفرنسا التعددية والمعولمة. هكذا تتوالى شعارات مدللة على تصدع العولمة وصعود القوميات والهويات من الانطواء نحو إنجلترا إلى أميركا أولاً ثم استنهاض فرنسا، وفي الحالات الثلاث يبرز التمرد على المؤسسة الحاكمة والنخب المهيمنة على الحياة السياسية، ويمثل ذلك بدوره خروجا عن العولمة وقواعدها. هكذا يشترك الناخبون الغربيون على وجوب تصحيح مسار العولمة، لكن الرفض لا يكفي لوحده لأن البديل ليس سهل المنال.

يعتبر سلافوي جيجك أن «الرأسمالية صارت عالمية، وكل بلد يفكر في عزل نفسه عنها سيسبب لنفسه مشاكل وأزمات»، وبالطبع يصعب الانسحاب من العولمة والتنافسية لكن إذا أتى الخروج أو السعي لتعديل قواعد اللعبة من قبل الأحجام الكبرى (الولايات المتحدة الأميركية أو المملكة المتحدة) ستكون هناك تبعات مختلفة وآفاق انطواء مقلقة يمكن أن تشبه الانعزال الأميركي إثر الكساد الكبير والأزمة الاقتصادية في فترة 1920-1930 .

يراود جيجك الأمل أن يؤدي فوز ترامب إلى يقظة عند اليسار ليفكر من جديد وينبعث.. لكن العودة لنفس النمط من الردود الأيديولوجية لا تبدو قادرة على الإحاطة بإشكاليات حقبة العودة إلى الهويات القومية ودون الوطنية وصعود البعد الديني في الصراعات. يتطرق المفكر السلوفيني إلى أهمية التسامح بين الثقافات للخروج من مأزق الانعزال أو الصراع الحتمي. ينزلق الفيلسوف إلى قراءة أحادية للإسلام ونظرة له كدين مسيس ربطاً بآفات وأزمات عوالم الإسلام، لكنه لا يبلور نظرة متماسكة عن ظواهر مرحلتنا.

في عشرينات القرن الماضي قال الشاعر والروائي الإنجليزي روديارد كبلنغ «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا». وكبلنغ من أصول هندية نال جائزة نوبل للآداب في العام 1907. ومما لا شك فيه أن مقولته الشهيرة ارتبطت بالتاريخ الاستعماري حينها. وحديثا بعد نهاية الحرب الباردة أبرز صموئيل هنتنغتون نظريته عن صدام الحضارات وعن أولوية الأبعاد الثقافية في نزاعات زمن العولمة، في نقض لتفاؤل تلميذه فرنسيس فوكاياما عن نهاية التاريخ.

واليوم في الألفية الثالثة وفي منتصف العقد الثاني من قرنها الأول، نستنتج بذهول العودة إلى الوراء مع صعود الأصوليات من كل حدب وصوب في زمن الهويات القاتلة. يتفاقم البعد الديني في الصراعات من القدس إلى ميانمار (بورما)، واحتدام النزاع السني-الشيعي وترافق ذلك مع ما يسمى الجهاد العالمي بتلويناته المختلفة وانتشار خطر الإرهاب الذي عززته حروب أفغانستان والعراق في بداية القرن. يواكب كل ذلك حروب تنهش العالم العربي وتحطم دوله وإنسانه، بعد فشل داخلي وإفشال خارجي لحلم الشباب العربي بالتغيير وإحالته نحو اليأس أو الانتظار أو إلى مثالب التطرف الراديكالي ودائرته المغلقة. على الضفة الأخرى من المتوسط والأطلسي وبعيدا في أستراليا تأتي أصوات نشاز عبر تعميم الخلط بين الإسلام والإرهاب ونشر الإسلاموفوبيا.

يأتي الرئيس الأميركي دونالد ترامب من بلاد يسكنها جنون العظمة (حسب تعبير نعوم تشومسكي) أو يهيمن عليها هاجس الخوف من مخاطر تغيير الهوية حيث أن أكثر من ثلاثين ولاية فيها اقتراحات لحظر الشريعة الإسلامية، بينما تتبارى مراكز أبحاث ووسائل إعلام مرئية وعنكبوتية في التحذير من خطر الإسلام. وهذا التشخيص أحادي الجانب للمسؤوليات عن العنف وتفاقم البعد الديني في الإرهاب، لا يتعمق أو يتطرق إلى آثار الحروب الأميركية في اليابان وفيتنام وأفغانستان والعراق و»الحرب الكبرى ضد الإرهاب» في الوصول إلى هذا الدرك من الاضطراب والتطرف ورفض الآخر.

في الحوار الغني والشيق الذي انفردت به «الجديد» مع المفكر السلوفيني سلافوي جيجك، جاءت أطروحاته حاسمة إذ اعتبر أن «الرأسمالية صارت عالمية، وكل بلد يفكر في عزل نفسه عنها سيسبب لنفسه مشاكل وأزمات

يجدر التذكير بكلام للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك عن عدم وجود صدام حضارات بل صدام ناتج عن جهل الثقافات والحضارات لبعضها وعدم التفاعل فيما بينها. بيد أن خطاب شيراك لم يعد يسري تماما في فرنسا نفسها إذ أتى صعود حزب الجبهة الوطنية في الانتخابات الإقليمية الأخيرة ليزيد من مخاطر وصول أحزاب متشددة إلى مواقع السلطة في أوروبا مع ما يعنيه ذلك من تغذية متبادلة للتطرف على ضفتي المتوسط.

حتى لا يعود العالم إلى حقبة الفتوحات الإسلامية والحروب الصليبية، لا بد من إنهاء نزاعات كثيرة بطريقة عادلة ومنصفة، وبالطبع هزيمة ما يسمى بداعش ووقف تمددها الجغرافي والفكري. لكن صعود المتشددين في الغرب أو نهج بوتين العسكري لا يسهم في الوصول لنتائج إيجابية. إنها بادئ ذي بدء معركة تحوّل مطلوب داخل البيئة الإسلامية سياسيا وتنمويا وفكريا، لكنها أيضا بالنسبة إلى النخب العربية لحظة وقفة مع الذات آن أوانها لرفض القتل والإقصاء ورفض الآخر باسم الدين وضرورة بناء مشروع نهضوي متصالح مع العصر والواقع.

يتلاشى الرهان على «العولمة السعيدة» في عالم أقل أمنا، ومع استشراء الحروب والنزاعات والإرهاب والفساد، وصعود خطاب القطيعة وانهيار منظومات القيم، إذ نشهد على أزمة عميقة ليس فقط على صعيد نظام دولي سياسي غارق في حقبة الفوضى والاضطراب الاستراتيجي، وعلى صعيد نظام رأسمالي متخبط في نهاية دور اقتصادي من السيطرة الغربية، بل على أزمة عميقة في الحضارة تنعكس في مأزق مجتمع الاستهلاك والأشكال العدائية للعصبيات والهويات والأديان. في عالم اليوم الصاخب الأكثر عنفا والأقل عدلا، لا يجوز التسليم بانقطاع سبل الأمل إذ أن تعاظم المخاطر لا بد أن ينتج عنه تضافر من أجل الإنقاذ، كما علمتنا مسارات أدوار سياسية واقتصادية وحضارية عبر التاريخ.

إننا أمام صورة غير وردية تعكس عدم وجود ضوابط في اللعبة الدولية وقواعد واقعية لإدارة الصراعات في عالم متعدد الأقطاب من ناحية الشكل، لكنه من دون قيادة قادرة بعد نهاية حقبة الأحادية الأميركية من دون تبلور البديل.

لا يمكن إعادة تشكيل النظام الدولي حسب خطط واشنطن لوحدها لأن الوقائع أكثر تعقيدا عسكريا وسياسيا واقتصاديا. راهن أوباما على أن يكون الرئيس الذي يحقق النقلة الاستراتيجية من أميركا «الأطلسية» في القرن العشرين إلى أميركا المتمركزة في آسيا وعلى المحيط الهادئ في القرن الحادي والعشرين قبالة صعود الصين، بيد أن هذه الدرب ستكون شائكة كما ظهر من آخر جولة آسيوية لسيد البيت الأبيض والتحدي الآتي من بيونغ يانغ وعدم توقيع اتفاقية التبادل الحر مع آسيا. والأدهى أيضا بالنسبة إلى التبادل الحر، عنوان العولمة الرأسمالية التبادلية من دون قيود، تمثل أيضا بتأجيل المفاوضات حول اتفاقية التبادل الحر عبر الأطلسي بين الاتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة. يفسر أوباما ذلك بتزايد الضغوط على النظام الدولي. ومن قبيل المفارقة البارزة أن يهبّ رئيس الصين شي جين بينغ (الدولة التي لا يزال يحكمها الحزب الشيوعي) للدفاع عن التبادل الحر وتعزيز الاستثمار ضد أساليب الحماية التجارية.

ومن الأدلة على تصدع العولمة مطالبة السيدة كريستين لاغارد خلال قمة العشرين في 2016 بالتوصل إلى «رأسمالية ذات وجه إنساني» خاصة مع المزيد من الخلل في توزيع الثروات والمساواة بين الشعوب والأفراد. لقد ولّى الوقت الذي كان فيه سياسيون ورجال أعمال ومنظرون يهللون للانتصار الدائم للرأسمالية عند نهاية الحرب الباردة ووصول الشمولية الاقتصادية إلى أوجها في بدايات تسعينات القرن الماضي، إذ أن معدلات النمو الاقتصادي تتراجع منذ الأزمة النقدية العالمية في 2008، ويترافق ذلك مع انخفاض أسعار النفط وانحسار منافع التبادل الحر. إزاء العطل في العولمة بدأ البعض بالترويج لأفكار حول «تهذيب الرأسمال» أو ربط التبادل الحر بالعدالة. إلا أن الأزمة البنيوية العميقة في الاقتصاد العالمي يمكن أن تقود إلى الأسوأ لأنه لا يمكن الاطمئنان إلى تكامل الاقتصادين الأميركي والصيني كمسوغ لديمومة الاستقرار. على ضوء تجربة العولمة الأولى والصعود الألماني على حساب القوة البريطانية الذي قاد إلى الحرب العالمية العظمى (الأولى في 1914)، لا يستبعد أن يكون لصعود الصين على المدى المتوسط من آثار سلبية في حال عدم التوافق على إصلاح النظام الدولي.

في مقارباته للسياسة الدولية يلجأ سلافوي جيجك إلى التبسيط والاستسهال أحياناً عندما يقترح مثلاً اللجوء إلى القوى العسكرية في أوروبا لتنظيم حركة اللاجئين. بالطبع، ينطلق الكاتب من نوايا حسنة تحت ستار أن همه إنقاذ هؤلاء المعذبين من التشرد وتسهيل تأطيرهم، لكنه لا يتنبه للانعكاسات النفسية عند هؤلاء الهاربين من البطش عندما تستقبلهم قوى قمعية في الأساس بدل النشطاء والعمال الإنسانيين

راهن الكثير منا على تحقق الأفضل للعالم والإنسان بفضل التقدم والثورة التكنولوجية، لكن الخلل العميق في توازنات كوكبنا في مجالات الصحة، التربية، والبيئة، ومخاطر الصدام بين العصبيات والهويات والثقافات يدق أجراس الإنذار ويدلل على أزمة عميقة في حضارتنا إن لم يتم إيقاظ «الإنسانية المخدرة» في داخلنا ضد أشكال انعدام العدالة والبربرية والكراهية وعدم الاعتراف بالآخر.

في مقارباته للسياسة الدولية يلجأ سلافوي جيجك إلى التبسيط والاستسهال أحياناً عندما يقترح مثلاً اللجوء إلى القوى العسكرية في أوروبا لتنظيم حركة اللاجئين. بالطبع، ينطلق الكاتب من نوايا حسنة تحت ستار أن همه إنقاذ هؤلاء المعذبين من التشرد وتسهيل تأطيرهم، لكنه لا يتنبه للانعكاسات النفسية عند هؤلاء الهاربين من البطش عندما تستقبلهم قوى قمعية في الأساس بدل النشطاء والعمال الإنسانيين. من ناحية أخرى يسعى جيجك لمقاربة المسألة السورية من زاوية الحرب الباردة الجديدة والصراع التقريري في رسم اتجاهات النظام الدولي. لكن منح المركزية لهذا الصراع ليس دقيقاً لأنه واحد من عدة اختبارات يمكن أن تحدد علاقات الكبار والصاعدين.

في الجانب الفكري، يتحمس جيجك لفكرة بناء أممية جديدة للوقوف في وجه تغول الرأسمالية الشمولية أو حيال تصدع العولمة. لكن أزمة اليسار العميقة وخاصة اليسار الاشتراكي الديمقراطي تنتج ليس عن عدم وجود بنى أو هياكل بل عن عدم القدرة على التوفيق بين الليبرالية وكلفة سياسة الرعاية الاجتماعية. وهذا الفشل في بلورة نموذج تتماشى فيه الحرية والعدالة، استفحل في حقبة الشمولية وبدا اليسار فيها من دون بوصلة ومن دون منظومة قيم تخصه وبإمكانه تطويرها، وكان الأدهى في هذا المسار استفادة الشعبويين والعبثيين من نقد العولمة وتحطيمها ولذا يصنف وسط اليسار من الخاسرين على الكثير من الخطوط. وما تجربة البرازيل تحت قيادة لولا وروسيف أو تجربة فنزويلا مع شافيز إلا أمثلة صارخة على فشل نماذج سلطوية بثياب يسارية وتقدمية.

من هنا يبدو جواب جيجك جزئياً وناقصاً لأن الأممية الجديدة تفترض دينامكية خلاقة في انبعاث مختلف لليسار أو لاشتراكية ذات وجه إنساني. نحن في مرحلة مخاض فكري مفتوح الأفق وإذا كان مرفوضا الانحدار نحو الهويات «الهدامة» للاحتماء من تداعيات الشمولية على الإنسان والاقتصاد والبيئة، يظهر أن الرهان على قيامة لليسار الجديد فيه قدر كبير من الطوباوية، بينما يتعين في عصر الثورة الرقمية التفتيش على أجوبة يستنبطها هذا الجيل ولا يمتلكها حنين القرنين السالفين.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.