‬المتعة‭ ‬الغائبة

الأربعاء 2017/02/01
لوحة: دارين أحمد

تراجعت قيمة‭ ‬المقالة‭. ‬زاد‭ ‬عدد‭ ‬الكتاب،‭ ‬ولكن‭ ‬النوعية‭ ‬لم‭ ‬تتقدم‭ ‬الكثير‭. ‬عندما‭ ‬تتصفح‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات،‭ ‬تجد‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬خللا‭ ‬ملموسا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يكتب‭ ‬ويقدم‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬مقالات‭.‬

للمسألة‭ ‬مسببات‭ ‬كثيرة‭.‬

لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬أن‭ ‬المقالة‭ ‬شيء‭ ‬جديد‭ ‬على‭ ‬مشهد‭ ‬الكتابة‭ ‬بالعربية‭. ‬هناك‭ ‬خلط‭ ‬مستمر‭ ‬بنوعية‭ ‬ما‭ ‬يكتب‭ ‬وما‭ ‬يمكن‭ ‬تقديمه‭ ‬من‭ ‬أفكار‭. ‬الارتباك‭ ‬محسوس‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬المطبوعات‭ ‬أو‭ ‬المواقع‭ ‬الإلكترونية‭ ‬الرصينة‭.‬

عمود‭ ‬الرأي‭ ‬مثلا‭ ‬ليس‭ ‬مقالة‭. ‬هو‭ ‬انطباع‭ ‬أوّلي‭ ‬قصير‭ ‬وغير‭ ‬عميق‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬راهنة‭. ‬يُنتظر‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭ ‬ألاّ‭ ‬يذهب‭ ‬بعيدا‭ ‬في‭ ‬عرضه‭ ‬للفكرة‭. ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يتخمها‭ ‬بالمعلومات،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬يبالغ‭ ‬في‭ ‬تعقيد‭ ‬لغتها‭. ‬عمود‭ ‬الرأي‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬شيء‭. ‬وهذا‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬عمود‭ ‬الرأي‭ ‬المعنيّ،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬سياسيا‭ ‬أو‭ ‬ثقافيا‭ ‬أو‭ ‬اجتماعيا‭. ‬الحكاوي‭ ‬والاستعادات‭ ‬والخواطر‭ ‬اللفظية‭ ‬هي‭ ‬أسوأ‭ ‬أنواع‭ ‬أعمدة‭ ‬الرأي‭. ‬عمود‭ ‬الرأي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬هو‭ ‬الأرشق‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقدمه‭ ‬كاتب‭ ‬صحفي‭.‬

الأكاديميون‭ ‬يصرون‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬كتاب‭ ‬صحفيون‭ ‬أو‭ ‬مثقفون‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬بعضهم‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭. ‬لكن‭ ‬الأغلبية‭ ‬تضيّع‭ ‬الفكرة‭ ‬من‭ ‬المقالة‭ ‬السياسية‭ ‬أو‭ ‬الثقافية‭. ‬يتحول‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬ورقة‭ ‬علمية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنشر‭ ‬في‭ ‬مطبوعة‭ ‬دورية،‭ ‬ولكن‭ ‬بالتأكيد‭ ‬لا‭ ‬محلّ‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭. ‬يستعرض‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الأكاديميين‭ ‬معلوماتهم‭ ‬أمام‭ ‬القارئ‭ ‬بطريقة‭ ‬لا‭ ‬تفيده‭. ‬فقرات‭ ‬أشبه‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬جملا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬ترميها‭ ‬علينا‭ ‬محركات‭ ‬البحث‭ ‬على‭ ‬الإنترنت،‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬بالضبط‭ ‬ما‭ ‬الفائدة‭ ‬منها‭ ‬وعادة‭ ‬ما‭ ‬تشوّش‭ ‬على‭ ‬المغزى‭ ‬من‭ ‬الموضوع‭. ‬

يرهق‭ ‬القارئ‭ ‬حقيقة‭ ‬بمطالعته‭ ‬لهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬“المقالات”‭. ‬ليس‭ ‬لأنها‭ ‬طويلة‭ ‬‭(‬وهي‭ ‬عادة‭ ‬تكون‭ ‬طويلة‭ ‬لأنه‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المعروف‭ ‬عن‭ ‬الأكاديميين‭ ‬قدرتهم‭ ‬على‭ ‬الإيجاز‭ ‬والتحرير‭ ‬وشطب‭ ‬الزائد‭)‬‭. ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الحشو‭ ‬المعلوماتي‭ ‬ليس‭ ‬معرفيا‭. ‬ولا‭ ‬يتركك‭ ‬كاتب‭ ‬“المقالة”‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يرشق‭ ‬الموضوع‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الإشارات‭ ‬والمصادر‭ ‬والإحالات‭ ‬‭(‬أنظر‭ ‬ص‭ ‬5‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬لكارل‭ ‬ماركس،‭ ‬أنظر‭ ‬ص‭ ‬66‭ ‬من‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الطبري‭ ‬–‭ ‬فهمنا،‭ ‬ولكن‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬مقالك‭)‬‭. ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬لا‭ ‬يحدث‭ ‬أبدا‭ ‬مع‭ ‬كاتب‭ ‬أكاديمي‭ ‬غربي‭. ‬والغرب‭ ‬هو‭ ‬مخترع‭ ‬الفكرة‭ ‬الأكاديمية‭ ‬المعاصرة‭. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تمسك‭ ‬صحيفة‭ ‬يومية‭ ‬أو‭ ‬مجلة‭ ‬ثقافية‭ ‬أسبوعية‭ ‬أو‭ ‬شهرية‭ ‬غربية‭ ‬وتجد‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬يقول‭ ‬لك‭: ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬كذا‭.‬

المقالات‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬صفحات‭ ‬الرأي‭ ‬مشكلة‭ ‬أخرى‭ ‬يقدرها‭ ‬محررو‭ ‬صفحات‭ ‬الرأي‭ ‬ربما‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬القرّاء‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬الوقع‭ ‬السياسي‭ ‬يفرض‭ ‬توجها‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭. ‬الحدث‭ ‬السياسي‭ ‬أو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬أو‭ ‬المجتمعي‭ ‬هو‭ ‬مؤشر‭ ‬دال‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتناوله‭ ‬الكاتب‭. ‬ولكن‭ ‬غالبية‭ ‬مقالات‭ ‬الرأي‭ ‬التي‭ ‬نجدها‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬متشابهة‭. ‬الخبر‭ ‬يسرد‭ ‬ثم‭ ‬يعلق‭ ‬عليه‭ ‬بخفة،‭ ‬ويرسل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تمعن‭ ‬وصناعة‭ ‬رسالة‭ ‬للقارئ‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭. ‬“السلق”‭ ‬بلغة‭ ‬الصحافة‭ ‬هو‭ ‬الشيء‭ ‬المعتاد‭. ‬

وما‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬السلق‭ ‬هي‭ ‬التعاقدات‭ ‬التي‭ ‬تتبناها‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬مع‭ ‬الكتاب‭ ‬والتي‭ ‬ترتبط‭ ‬عادة‭ ‬بموعد‭ ‬أسبوعي‭ ‬أو‭ ‬شهري‭ ‬ثابت‭. ‬ثمة‭ ‬واجب‭ ‬وموعد‭ ‬وليس‭ ‬فكرة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقدم‭ ‬في‭ ‬وقتها‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬تستكتب‭ ‬محترفين‭ ‬ألمعيين‭ ‬تكون‭ ‬مقالاتهم‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬الحضور‭ ‬الصحفي‭ ‬لتلك‭ ‬المطبوعات‭ ‬ومواقعها‭ ‬على‭ ‬الإنترنت‭. ‬ولكن‭ ‬الغث‭ ‬هو‭ ‬العلامة‭ ‬المميزة‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬صفحات‭ ‬الرأي‭.‬

فن‭ ‬المقالة‭ ‬الطويلة‭ ‬الشاملة‭ ‬‭(‬الإيسيه‭)‬،‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬مفقودا‭ ‬في‭ ‬مجلاتنا‭. ‬مقالة‭ ‬تفهم‭ ‬منها‭ ‬كل‭ ‬أساسيات‭ ‬الموضوع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مطالعة‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬الأمر‭. ‬هو‭ ‬جنس‭ ‬أدبي‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬لنفسه‭ ‬موطئ‭ ‬قدم‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا‭.‬

عدم‭ ‬إتقان‭ ‬تقنية‭ ‬كتابة‭ ‬المقالة‭ ‬قضية‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭. ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬تبدأ‭ ‬بقراءة‭ ‬موضوع‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬ثقافي‭. ‬بعد‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الفقرات،‭ ‬تفقد‭ ‬البوصلة‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬هل‭ ‬ما‭ ‬تقرأه‭ ‬رأي‭ ‬أم‭ ‬معلومة‭ ‬أم‭ ‬خبر‭. ‬مقالات‭ ‬أشبه‭ ‬بالشوربة‭ ‬التي‭ ‬تضيع‭ ‬فيها‭ ‬معالم‭ ‬المكونات‭. ‬بعض‭ ‬الكتاب‭ ‬لديه‭ ‬ما‭ ‬يقوله،‭ ‬ولكن‭ ‬عدم‭ ‬إتقان‭ ‬تقنية‭ ‬تقديم‭ ‬الفكرة‭ ‬يجعل‭ ‬الكاتب‭ ‬نفسه‭ ‬تائها‭ ‬في‭ ‬النص،‭ ‬فإما‭ ‬يخسر‭ ‬اهتمام‭ ‬القارئ‭ ‬ويضيعه،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬القارئ‭ ‬المقالة‭ ‬ولا‭ ‬ينتهي‭ ‬إلى‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬يسعى‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬تقديمها‭.‬

تقنية‭ ‬الكتابة‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬الأفكار‭ ‬والآراء‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬مقاتل‭ ‬الكتابة‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭ ‬في‭ ‬مطبوعاتنا‭. ‬من‭ ‬طول‭ ‬الجملة‭ ‬إلى‭ ‬طول‭ ‬الفقرة،‭ ‬إلى‭ ‬علامات‭ ‬التنقيط،‭ ‬إلى‭ ‬الارتباك‭ ‬في‭ ‬الصياغة‭ ‬الخاصة‭ ‬بالجملة،‭ ‬هذه‭ ‬كلها‭ ‬أساسيات‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭ ‬لدى‭ ‬كتاب‭ ‬المقالات‭.‬

ثمة‭ ‬متعة‭ ‬غائبة‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا‭. ‬متعة‭ ‬قراءة‭ ‬المقالة‭ ‬والاستمتاع‭ ‬به‭.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.