‬سماء‭ ‬الفينيق

الأربعاء 2017/03/01
لوحة: سعد يكن

بعد‭ ‬أن‭ ‬عبرت‭ ‬الجسر،‭ ‬وجزت‭ ‬المسافة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تذكر،‭ ‬وأثناء‭ ‬ما‭ ‬نقلتني‭ ‬الحافلة‭ ‬إلى‭ ‬استراحة‭ ‬أريحا،‭ ‬تداعت‭ ‬في‭ ‬الذهن،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬به‭ ‬كبارنا،‭ ‬عن‭ ‬واقع‭ ‬الحال،‭ ‬قبل‭ ‬الاحتلال،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المساحة‭ ‬من‭ ‬الوطن،‭ ‬فالذاكرة‭ ‬تشير‭ ‬هنا،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قبيلة‭ ‬العدوان،‭ ‬في‭ ‬الشونة‭ ‬الجنوبي،‭ ‬نقلا‭ ‬عن‭ ‬بوح‭ ‬الرواة،‭ ‬ممن‭ ‬وعوا‭ ‬الحال‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬الزمان،‭ ‬حيث‭ ‬كانوا‭ ‬يقولون‭ ‬بأنه‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يموت‭ ‬أيّ‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الشونة‭ ‬الجنوبية‭ ‬والمناطق‭ ‬المجاورة،‭ ‬كانت‭ ‬جنازته‭ ‬تسير‭ ‬باتجاه‭ ‬أريحا،‭ ‬وكانوا‭ ‬يدفنون‭ ‬موتاهم‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬مقام‭ ‬النبي‭ ‬موسى،‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬الذي‭ ‬يبعد‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬أريحا‭ ‬القدس‭ ‬حوالي‭ ‬كيلومتر‭ ‬واحد،‭ ‬ويعود‭ ‬تاريخه‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الأيوبي،‭ ‬ويضم‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬القبر‭ ‬المفترض‭ ‬‭(‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬النبي‭ ‬موسى‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬له‭ ‬قبر،‭ ‬وفقدت‭ ‬آثاره‭ ‬على‭ ‬جبل‭ ‬نيبو‭ ‬في‭ ‬مأدبا‭ ‬في‭ ‬الأردن،‭ ‬بحسب‭ ‬العهد‭ ‬القديم‭)‬،‭ ‬هناك‭ ‬مسجد،‭ ‬وإسطبلات‭ ‬للخيل،‭ ‬ومخبز‭ ‬قديم،‭ ‬وآبار،‭ ‬وعشرات‭ ‬الغرف،‭ ‬وحوله‭ ‬تمتد‭ ‬مقبرة‭ ‬،‭ ‬يدفن‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬يوصي‭ ‬بذلك،‭ ‬ويرجح‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬بنى‭ ‬المقام‭ ‬هو‭ ‬القائد‭ ‬المملوكي‭ ‬الظاهر‭ ‬بيبرس‭ ‬الذي‭ ‬بنى‭ ‬المسجد‭ ‬والأروقة‭ ‬عام‭ ‬1265‭ ‬ميلادي،‭ ‬وأوقف‭ ‬عليه‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العقارات‭ ‬والأراضي‭.. ‬هذه‭ ‬أولى‭ ‬حكايات‭ ‬الربط،‭ ‬هذه‭ ‬أول‭ ‬إشارة،‭ ‬حكاية‭ ‬دالة‭ ‬للمشترك‭ ‬الطيب‭ ‬دون‭ ‬زيف‭ ‬ولا‭ ‬تنظير‭ ‬ولا‭ ‬ادعاء‭.‬

***

ها‭ ‬أنا‭ ‬هناك،‭ ‬في‭ ‬أريحا‭..‬

أبتسم‭ ‬لكل‭ ‬الأشياء،‭ ‬إلا‭ ‬للذباب‭.. ‬ذباب‭ ‬أريحا‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬استقبالي،‭ ‬وكأنه‭ ‬تجسيد‭ ‬لجنود‭ ‬الاحتلال‭ ‬الذين‭ ‬رأيتهم‭ ‬على‭ ‬الجسر،‭ ‬مقيتا،‭ ‬دبقا،‭ ‬طاردا‭ ‬لروح‭ ‬الحياة،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الذباب‭ ‬نهما‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يحوّم‭ ‬حولي،‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬الشيرازي،‭ ‬منتظرا،‭ ‬وكأن‭ ‬هذا‭ ‬الذباب،‭ ‬في‭ ‬ملاقاته‭ ‬للضيوف،‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يضيّق‭ ‬الخناق‭ ‬عليهم،‭ ‬ليعودوا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أتوا،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يتورّع‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يلسعهم‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مساحة‭ ‬متاحة،‭ ‬وكأنه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬أخرى،‭ ‬للاحتلال،‭ ‬روح‭ ‬سوداء‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬السفلي،‭ ‬حيث‭ ‬أنه‭ ‬جماعات‭ ‬يحضر،‭ ‬يهمّ‭ ‬بقوة،‭ ‬يراوح‭ ‬في‭ ‬إقباله‭ ‬أو‭ ‬غيابه،‭ ‬لحظات‭ ‬قليلة‭ ‬فقط،‭ ‬لكنه‭ ‬يبقى‭ ‬يحوّم‭ ‬حول‭ ‬الجالس‭ ‬منتظرا‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬استراحة‭ ‬في‭ ‬أريحا‭ ‬بعد‭ ‬تجاوز‭ ‬الجسر،‭ ‬ونقاط‭ ‬التفتيش،‭ ‬وكأنه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬القادم‭ ‬بالضيق،‭ ‬والاشمئزاز،‭ ‬والنفور،‭ ‬وكأنه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تحالف‭ ‬مع‭ ‬جند‭ ‬الاحتلال،‭ ‬وحرارة‭ ‬الشمس،‭ ‬والضغط‭ ‬الجاثم‭ ‬على‭ ‬الأذنين،‭ ‬وقلق‭ ‬الانتظار‭.. ‬ذباب‭ ‬أريحا،‭ ‬حالة‭ ‬أخرى‭ ‬لتأمل‭ ‬المحتلّ،‭ ‬بعد‭ ‬الجسر‭ ‬بقليل‭!!‬

لا‭ ‬مسافة‭ ‬تذكر‭.. ‬وأنا‭ ‬لم‭ ‬أشعر‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬إيقاعا‭ ‬مختلفا‭ ‬بين‭ ‬أريحا‭ ‬وبين‭ ‬الشونة‭ ‬الجنوبية،‭ ‬وعلى‭ ‬ترنيمة‭ ‬هذا‭ ‬القرب‭ ‬كنت‭ ‬جزت‭ ‬الجسر،‭ ‬جسر‭ ‬الملك‭ ‬حسين،‭ ‬من‭ ‬ضفة‭ ‬القلب،‭ ‬إلى‭ ‬حجرته‭ ‬الأخرى،‭ ‬تقربا‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬الأمنيات،‭ ‬والحلم،‭ ‬والذاكرة‭.. ‬ها‭ ‬قد‭ ‬تحقق‭ ‬بعض‭ ‬الحلم،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬أسابق‭ ‬خطواتي،‭ ‬باتجاه‭ ‬أصدقائي‭ ‬الذين‭ ‬ينتظروني،‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬ليست‭ ‬مثل‭ ‬أيّ‭ ‬أرض‭ ‬أخرى،‭ ‬سلام‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فيها،‭ ‬ومن‭ ‬فيها،‭ ‬سلام‭ ‬مذ‭ ‬أول‭ ‬نسمة‭ ‬هواء،‭ ‬وأول‭ ‬شعاع‭ ‬شمس،‭ ‬وأول‭ ‬ذرة‭ ‬تراب،‭ ‬لامستها،‭ ‬وعايشتها،‭ ‬وتلمست‭ ‬فيها‭ ‬فلسطين‭ ‬الفردوس‭ ‬الذي‭ ‬أعشق،‭ ‬وإليه‭ ‬أتوق‭.‬

***

وصلت‭ ‬استراحة‭ ‬أريحا،‭ ‬وكان‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬في‭ ‬الانتظار‭.. ‬عانقتهم‭ ‬واحدا‭ ‬واحدا،‭ ‬ومن‭ ‬خلالهم‭ ‬عانقت‭ ‬كل‭ ‬البلاد،‭ ‬ورحبت‭ ‬بي‭ ‬معهم‭ ‬دروب‭ ‬أريحا،‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬رام‭ ‬الله‭.‬

قبل‭ ‬أن‭ ‬نخرج‭ ‬من‭ ‬أريحا‭ ‬نبهني‭ ‬طائر‭ ‬الفينيق‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬المدينة‭ ‬حولي،‭ ‬ونحو‭ ‬موطئ‭ ‬قدمي،‭ ‬والذاكرة‭ ‬المختزنة‭ ‬في‭ ‬أريحا‭.‬

كنت‭ ‬أخطو‭ ‬في‭ ‬أريحا‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬الإحدى‭ ‬وعشرين‭ ‬حضارة‭ ‬التي‭ ‬سكنتها،‭ ‬منذ‭ ‬أقدم‭ ‬العصور،‭ ‬أعود‭ ‬وأنا‭ ‬واقف‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬الألف‭ ‬الثامن‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭.‬

‮ ‬أريحا‭.. ‬بوابة‭ ‬فلسطين‭ ‬من‭ ‬الشرق،‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬الكنعانية،‭ ‬هي‭ ‬أقدم‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬الإطلاق،‭ ‬وكانت‭ ‬حاضرة‭ ‬قبل‭ ‬مدينة‭ ‬دمشق‭ ‬بخمسة‭ ‬آلاف‭ ‬عام،‭ ‬وكانت‭ ‬أريحا‭ ‬مأهولة‭ ‬بالسكان‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬أبي‭ ‬الأنبياء‭ ‬إبراهيم‭ ‬الخليل،‭ ‬بحوالي‭ ‬ستة‭ ‬آلاف‭ ‬سنة‭.. ‬تلك‭ ‬أريحا‭ ‬التي‭ ‬أنا‭ ‬فيها‭ ‬الآن،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬معرفة‭ ‬الفلاحة‭ ‬والزراعة‭ ‬الأولى،‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬بالذات‭.‬

قلت‭ ‬للأصدقاء‭ ‬“تمهلوا‭ ‬قليلا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نغادر‭ ‬أريحا”‭.. ‬واستحضرت‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬تداعيات‭ ‬أصل‭ ‬تسميتها‭ ‬‭(‬أريحا‭)‬‭ ‬التي‭ ‬أعادتني‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الجذور‭ ‬السامية،‭ ‬فهي‭ ‬عند‭ ‬الكنعانيين‭ ‬تعني‭ ‬القمر،‭ ‬والكلمة‭ ‬مشتقة‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬يرحو‭ ‬أو‭ ‬اليرح،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬جنوبي‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬شهر،‭ ‬أو‭ ‬قمر،‭ ‬وريحا‭ ‬في‭ ‬السريانية‭ ‬معناها‭ ‬الرائحة،‭ ‬والأريج‭.‬

‮ ‬انتشيت‭ ‬من‭ ‬رائحة‭ ‬المكان،‭ ‬وعبق‭ ‬تاريخه‭ ‬وذاكرته،‭ ‬ولوحت‭ ‬لأريحا،‭ ‬بالقلب،‭ ‬فلسوف‭ ‬أعود‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬عودتي،‭ ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬وأخذني‭ ‬الكلام‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء،‭ ‬ونحن‭ ‬باتجاه‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬وحديث‭ ‬ذو‭ ‬شجون‭ ‬مع‭ ‬الأحباء‭:‬

يقول‭ ‬سامح‭ ‬خضر‭: ‬“محبة‭ ‬القلب‭ ‬لك‭ ‬من‭ ‬فلسطين”‭.‬

ينتشي‭ ‬يوسف‭ ‬الشايب‭ ‬قائلا‭: ‬“بعد‭ ‬ثلاث‭ ‬محاولات‭ ‬لاستخراج‭ ‬تصريح‭ ‬دخول‭ ‬لك‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬ها‭ ‬قد‭ ‬نجحت‭ ‬المحاولة‭ ‬الرابعة”‭.‬

يعلق‭ ‬زياد‭ ‬خداش‭: ‬“كأنك‭ ‬إرهابي‭ ‬يا‭ ‬صديقي‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬ندري‭ ‬بهذا‭!!‬”‭.‬

قلت‭ ‬بتحد‭ ‬ونشوة‭: ‬“ها‭ ‬قد‭ ‬تحقق‭ ‬المراد،‭ ‬دخلت‭ ‬فلسطين‭ ‬كما‭ ‬أريد،‭ ‬وأعتزّ‭ ‬بهذا،‭ ‬وأنا‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬إلى‭ ‬رام‭ ‬الله”‭.‬

“وين‭ ‬عَ‭ ‬رام‭ ‬الله”‭..‬

‮ ‬

أغنية‭ ‬أسمعها‭ ‬في‭ ‬الأردن‭ ‬كثيرا‭.. ‬أغنية‭.. ‬كأنها‭ ‬تُذَكّر‭ ‬بأيام‭ ‬كانت‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬مصيفا‭ ‬يتجه‭ ‬إليه‭ ‬الأهل،‭ ‬وكانت‭ ‬الدروب‭ ‬متاحة‭ ‬إليها. ‬مضى‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأغنية‭ ‬عشرات‭ ‬السنين،‭ ‬ولكن‭ ‬وقعها،‭ ‬وموسيقاها،‭ ‬تجيء،‭ ‬كأنما‭ ‬الحنين‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يجسدها،‭ ‬للقادم‭ ‬إلى‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬وهنا‭ ‬يحضرني‭ ‬حديث‭ ‬مع‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬غوانمة،‭ ‬وهو‭ ‬متخصص‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء،‭ ‬حيث‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬حديثنا‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية،‭ ‬إنها‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬الغنائي،‭ ‬وكانت‭ ‬تغنى‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬“وين‭ ‬عَ‭ ‬باب‭ ‬الله”،‭ ‬لكن‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬إطلاق‭ ‬الإذاعة‭ ‬الأردنية‭ ‬من‭ ‬القدس،‭ ‬وكان‭ ‬مبناها‭ ‬بين‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬والقدس،‭ ‬تم‭ ‬تحوير‭ ‬الكلمات،‭ ‬لتكون‭ ‬“وين‭ ‬عَ‭ ‬رام‭ ‬الله”،‭ ‬ولحنها‭ ‬جميل‭ ‬العاص،‭ ‬وغنتها‭ ‬سلوى‭ ‬العاص،‭ ‬ثم‭ ‬بعدها‭ ‬غناها‭ ‬عبده‭ ‬موسى،‭ ‬وتم‭ ‬تطوير‭ ‬لحنها‭ ‬لتغنيها‭ ‬سميرة‭ ‬توفيق‭ ‬كذلك،‭ ‬وانتشرت‭ ‬الأغنية،‭ ‬وما‭ ‬زالت‭ ‬تداعب‭ ‬قلب‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يسمعها،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬أعيش‭ ‬الحالة،‭ ‬وأكاد‭ ‬أحس‭ ‬نبض‭ ‬المشتاقين‭ ‬عندما‭ ‬تتردد‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية‭ ‬على‭ ‬مسامعهم،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬مشاعري‭ ‬زادت‭ ‬قربا‭ ‬من‭ ‬كلماتها،‭ ‬وأنا‭ ‬أمام‭ ‬أبواب‭ ‬المدينة‭ ‬القادمة،‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬التي‭ ‬سأزورها،‭ ‬فأستعيد‭ ‬هالة‭ ‬الأغنية،‭ ‬وبساطتها،‭ ‬وحجم‭ ‬الدفء‭ ‬فيها‭:‬

“وين‭ ‬عَ‭ ‬رام‭ ‬الله‭.. ‬وين‭ ‬عَ‭ ‬رام‭ ‬الله‭..‬‮ ‬‭ ‬وِلفي‭ ‬يا‭ ‬مسافر،‭ ‬وين‭ ‬عَ‭ ‬رام‭ ‬الله‭..‬

ما‭ ‬تخاف‭ ‬من‭ ‬الله‭.. ‬ما‭ ‬تخاف‭ ‬من‭ ‬الله‭.. ‬خَذيت‭ ‬قليبي‭.. ‬ما‭ ‬تخاف‭ ‬من‭ ‬الله‭..‬”‭.‬

ها‭ ‬قلبي‭ ‬يخفق،‭ ‬ينبض،‭ ‬مأخوذا،‭ ‬بالحنين‭.. ‬ياه‭ ‬أي‭ ‬شوق،‭ ‬ووجد،‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬طياتها‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭.. ‬ياه‭.. ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬وسط‭ ‬مزرعة‭ ‬زيتون‭ ‬في‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬والأهل‭ ‬هناك‭ ‬يجدّون‭ ‬الزيتون،‭ ‬ليعصروه‭.. ‬تباركت‭ ‬المدينة‭ ‬وأشجارها‭.. ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬ذاكرة‭ ‬الشجر،‭ ‬لأدخل‭ ‬المدينة،‭ ‬حيث‭ ‬سيرة‭ ‬البشر،‭ ‬ونقوش‭ ‬الحجر،‭ ‬أحسّ‭ ‬كأن‭ ‬كهلا‭ ‬يجلس‭ ‬تحت‭ ‬زيتونة،‭ ‬وكأنه‭ ‬عرفني،‭ ‬وبدأ‭ ‬يسرد‭ ‬لي‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬ذاكرة‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬على‭ ‬عدة‭ ‬تلال،‭ ‬تتخللها‭ ‬أودية‭ ‬منخفضة،‭ ‬ويرجع‭ ‬اسمها‭ ‬إلى‭ ‬كلمة‭ ‬الرامة،‭ ‬بمعنى‭ ‬العالي‭ ‬والمرتفع،‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬‭(‬رام‭)‬،‭ ‬هو‭ ‬جذر‭ ‬سامي‭ ‬مشترك‭ ‬يفيد‭ ‬العلو‭.‬

مقهى‭ ‬رام‭ ‬الله

ودعت‭ ‬الكهل‭ ‬تحت‭ ‬زيتونته،‭ ‬ودخلت‭ ‬رام‭ ‬الله‭.. ‬بعد‭ ‬ليلة‭ ‬الوصول،‭ ‬تركني‭ ‬الأصدقاء‭ ‬لأسير‭ ‬بها‭ ‬وحدي‭ ‬نهارا،‭ ‬وكانوا‭ ‬معي‭ ‬ليدلوني‭ ‬على‭ ‬مفاتيح‭ ‬أسرارها‭ ‬ليلا‭.‬

‮ ‬سرت‭ ‬في‭ ‬شوارعها،‭ ‬ارتحت‭ ‬قليلا‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬وجه‭ ‬“أبو‭ ‬إلياس‮»‬‭ ‬صاحب‭ ‬المقهى،‭ ‬سمح،‭ ‬أليف،‭ ‬ودود،‭ ‬ورحب‭ ‬بي‭ ‬كأنه‭ ‬يعرفني‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬يترجم‭ ‬ألفة‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاستراحة‭ ‬التي‭ ‬يوفرها‭ ‬مقهاه،‭ ‬المعروف‭ ‬بأنه‭ ‬ملتقى‭ ‬للمثقفين‭ ‬والساسة؛‭ ‬وجدت‭ ‬هناك‭ ‬صديقي‭ ‬مهيب‭ ‬البرغوثي،‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬الأردن‭ ‬إلى‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬والتقيت‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬الأسماء‭ ‬والأصدقاء‭ ‬المعروفين‭ ‬لي،‭ ‬بعضهم‭ ‬بشخوصهم،‭ ‬وبعضهم‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أسمائهم‭.‬

الاستراحة‭ ‬في‭ ‬مقهى‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منها،‭ ‬والأرجيلة‭ ‬تستثيرني‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬المعسل‭ ‬الخاص‭ ‬بي‭ ‬أحمله‭ ‬معي،‭ ‬فقد‭ ‬أوصاني‭ ‬الأصدقاء‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬أجده‭ ‬هناك‭.. ‬أخرجت‭ ‬معسل‭ ‬“الزغلول”‭ ‬من‭ ‬كيس‭ ‬أحمله،‭ ‬وكانت‭ ‬توجيهات‭ ‬“أبو‭ ‬إلياس‮»‬‭ ‬حميمية‭ ‬بتعمير‭ ‬الأرجيلة،‭ ‬ومعسلها،‭ ‬وجمرها‭.‬

يقع‭ ‬مقهى‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬شارع‭ ‬“ركب”،‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬محل‭ ‬“بوظة‭ ‬ركب”‭ ‬الشهير‭ ‬فيه،‭ ‬وصاحبه‭ ‬هو‭ ‬شوقي‭ ‬دحو‭ ‬“أبو‭ ‬إلياس‮»‬،‭ ‬رجل‭ ‬مثقف،‭ ‬ويحب‭ ‬المثقفين،‭ ‬وهذا‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬الصور‭ ‬المعلقة‭ ‬في‭ ‬المقهى‭ ‬لمحمود‭ ‬درويش،‭ ‬وحسين‭ ‬البرغوثي‭ ‬وإميل‭ ‬حبيبي،‭ ‬وغيرهم،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬يزدان‭ ‬بها‭ ‬المكان،‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬مكتبته‭ ‬الخاصة،‭ ‬ومكتبات‭ ‬الأصدقاء‭ ‬روّاد‭ ‬المقهى‭.‬

هاله‭ ‬من‭ ‬الألفة‭ ‬تلف‭ ‬مقهى‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يمر‭ ‬عليك‭ ‬وأنت‭ ‬فيه‭ ‬عشرات‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬تلتق‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬زمان،‭ ‬وقريبا‭ ‬منه‭ ‬هناك‭ ‬مطعم‭ ‬زرياب،‭ ‬غير‭ ‬أني‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أنهيت‭ ‬أرجيلتي،‭ ‬وفنجان‭ ‬قهوتي،‭ ‬قلت‭ ‬للأصدقاء‭ ‬الذين‭ ‬التقيتهم‭ ‬هناك،‭ ‬أنني‭ ‬أستأذنهم‭ ‬لأكمل‭ ‬جولتي،‭ ‬وأنني‭ ‬سأتجه‭ ‬إلى‭ ‬دوار‭ ‬المنارة،‭ ‬وهو‭ ‬ليس‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬مقهى‭ ‬رام‭ ‬الله‭.‬

دوار‭ ‬المنارة

أسير‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬المؤدي‭ ‬إلى‭ ‬دوار‭ ‬المنارة. ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬تذكرت‭ ‬طائر‭ ‬الفينيق‭ ‬الذي‭ ‬غاب‭ ‬عنّي،‭ ‬جانبا‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬دخلت‭ ‬رام‭ ‬الله‭: ‬أين‭ ‬اختفى؟‭ ‬ولماذا‭ ‬تركني‭ ‬ولم‭ ‬يكلمني‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬الزمن؟

جاءني‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة،‭ ‬وكأنه‭ ‬قرأ‭ ‬أفكاري،‭ ‬واستمع‭ ‬إلى‭ ‬تساؤلاتي‭.. ‬لمحت‭ ‬طيفه،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬يحلق‭ ‬فوق‭ ‬رأسي‭ ‬مباشرة،‭ ‬ولا‭ ‬أحد‭ ‬يراه‭ ‬سواي‭.‬

سألت‭ ‬الفينيق‭: ‬“لم‭ ‬غيابك؟”‭.‬

قال‭: ‬“أنت‭ ‬بين‭ ‬أهلك”‭.‬

قلت‭: ‬“فما‭ ‬حجبك‭ ‬عني؟”‭.‬

قال‭: ‬“لا‭ ‬خوف‭ ‬عليك”‭.‬

أحسست‭ ‬بسكينة‭ ‬وراحة‭..‬

لحظة‭ ‬صمت‭ ‬سادت،‭ ‬خلت‭ ‬معها‭ ‬أنه‭ ‬حلّق‭ ‬بعيدا،‭ ‬لكنه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يبتعد،‭ ‬قال‭: ‬“سأكون‭ ‬قريبا‭ ‬منك‭ ‬حين‭ ‬ترحالك‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬المتاحة‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬ولن‭ ‬أبتعد‭ ‬عنك‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬محاطا‭ ‬بالآخر‭ ‬العدو‭.. ‬تابع‭ ‬مسيرك‭ ‬إلى‭ ‬دوار‭ ‬المنارة،‭ ‬فهناك‭ ‬قصة‭ ‬لاظمة‭ ‬لضفتي‭ ‬القلب‭ ‬هناك”‭.‬

‭***‬

مشيت‭ ‬حتى‭ ‬دوار‭ ‬المنارة،‭ ‬أو‭ ‬دوار‭ ‬الشهداء،‭ ‬أو‭ ‬دوار‭ ‬المغتربين‭..‬

وقفت‭ ‬قريبا‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬جوانب‭ ‬الدوار،‭ ‬واستحضرت‭ ‬صديقي‭ ‬الروائي‭ ‬أكرم‭ ‬مسلم،‭ ‬في‭ ‬كتابته‭ ‬رواية‭ ‬“سيرة‭ ‬العقرب‭ ‬الذي‭ ‬يتصبب‭ ‬عرقا”،‭ ‬كيف‭ ‬أنه‭ ‬أخذ‭ ‬مساحة‭ ‬صغيرة‭ ‬قرب‭ ‬دوار‭ ‬المنارة،‭ ‬و”كَرّج”‭ ‬هناك،‭ ‬بدل‭ ‬سيارة؛‭ ‬كان‭ ‬يستأجر‭ ‬مساحة‭ ‬هذا‭ ‬الكراج،‭ ‬ويأتي‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬ليرصد‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬ويستعيد‭ ‬لحظات‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يكتبها،‭ ‬ومعه‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬من‭ ‬الدوار،‭ ‬يستذكر‭ ‬الأديب‭ ‬والمفكر‭ ‬المهم‭ ‬حسين‭ ‬البرغوثي،‭ ‬وأنا‭ ‬أستذكره‭ ‬أيضا،‭ ‬الآن،‭ ‬وروايته‭ ‬“الضوء‭ ‬الأزرق”‭.‬

ها‭ ‬أنا‭ ‬حالي‭ ‬مثل‭ ‬حال‭ ‬أكرم‭ ‬مسلم،‭ ‬أقف‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬من‭ ‬دوار‭ ‬المنارة،‭ ‬لكن‭ ‬ذاك‭ ‬الكراج،‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬سيرة‭ ‬العقرب،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬موجودا،‭ ‬ولذا‭ ‬فقد‭ ‬اتكأت‭ ‬على‭ ‬جدار‭ ‬مواجه‭ ‬للدوار،‭ ‬لأتأمل‭ ‬الأسود‭ ‬التي‭ ‬نحتت‭ ‬ووزعت‭ ‬على‭ ‬زوايا‭ ‬الدوار،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬تأملا‭ ‬للمنحوتات،‭ ‬بل‭ ‬أحاول‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أستعيد‭ ‬حكاية‭ ‬مرت‭ ‬عليها‭ ‬أجيال،‭ ‬ورددها‭ ‬الكثيرون،‭ ‬لكن‭ ‬الحيرة‭ ‬في‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أبدأ؟

***

يقال‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الأسود‭ ‬المُوَزّعة‭ ‬في‭ ‬دوار‭ ‬المنارة،‭ ‬كانت‭ ‬أثناء‭ ‬فترة‭ ‬الاحتلال‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬محفوظة‭ ‬في‭ ‬مخزن‭ ‬البلدية،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يدمّرها‭ ‬الأعداء،‭ ‬وقد‭ ‬تمت‭ ‬إعادتها‭ ‬إلى‭ ‬أمكنتها،‭ ‬على‭ ‬الدوار،‭ ‬بعد‭ ‬خروج‭ ‬المحتل‭ ‬من‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬وعودة‭ ‬أبنائها‭ ‬ليديروا‭ ‬شؤون‭ ‬مدينتهم‭.‬

ترددت‭ ‬حكاية‭ ‬هذه‭ ‬الأسود،‭ ‬على‭ ‬مسمعي،‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬أثناء‭ ‬جولاتي‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬قرية‭ ‬من‭ ‬قرى‭ ‬الأردن،‭ ‬وكل‭ ‬تلك‭ ‬التفاصيل‭ ‬شكلت‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬حكاية‭ ‬كان‭ ‬جانبا‭ ‬من‭ ‬نهاياتها،‭ ‬تأسيس‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬أو‭ ‬الإقامة‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬منطقة‭ ‬من‭ ‬فلسطين‭.‬

إذن‭ ‬فللقصة‭ ‬شقّان؛‭ ‬جزء‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الأردن،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬سمعته‭ ‬من‭ ‬أفواه‭ ‬أحفاد‭ ‬عشيرة‭ ‬الحدادين‭ ‬في‭ ‬قراهم،‭ ‬والجزء‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬قرأته،‭ ‬أو‭ ‬التقطت‭ ‬نتفا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التكملة‭ ‬من‭ ‬الأهل‭ ‬الذين‭ ‬التقيتهم‭ ‬أثناء‭ ‬زيارتي‭ ‬هذه‭ ‬إلى‭ ‬رام‭ ‬الله‭.‬

تشير‭ ‬الحكاية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أبناء‭ ‬الحدادين‭ ‬كانوا‭ ‬يقيمون‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬الأردن،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬الشوبك،‭ ‬ولهم‭ ‬مواقع‭ ‬في‭ ‬أذرح،‭ ‬ولكن‭ ‬قدوم‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العشائر‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬جنوب‭ ‬الأردن‭ ‬جعلهم‭ ‬يفضلون‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬هناك‭ ‬إلى‭ ‬أماكن‭ ‬أخرى‭.‬

وقد‭ ‬تجاور‭ ‬“الحدادين”‭ ‬في‭ ‬الشوبك‭ ‬مع‭ ‬إحدى‭ ‬عشائر‭ ‬العمرو‭ ‬وهم‭ ‬القياصمة،‭ ‬وبقوا‭ ‬معهم‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬ثم‭ ‬خرجت‭ ‬العشيرتان‭ ‬‭(‬الحدادين،‭ ‬والقياصمة‭)‬‭ ‬من‭ ‬الشوبك‭ ‬إلى‭ ‬الكرك،‭ ‬وهذا‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬الميلادي،‭ ‬ولكن‭ ‬الحدادين‭ ‬رغم‭ ‬خروجهم‭ ‬من‭ ‬الشوبك‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬بقوا‭ ‬محتفظين‭ ‬بأراضيهم‭ ‬الزراعية‭ ‬هناك،‭ ‬وبقوا‭ ‬يعطونها‭ ‬“مثالثة”‭ ‬لمن‭ ‬يريد‭ ‬زراعتها،‭ ‬في‭ ‬البداية،‭ ‬ثم‭ ‬باعوها‭ ‬نهائيا،‭ ‬واستقروا‭ ‬بالكامل‭ ‬في‭ ‬الكرك‭ ‬بعد‭ ‬العصر‭ ‬المملوكي‭.‬

أما‭ ‬فيما‭ ‬يخصّ‭ ‬“قصة‭ ‬صبرة‭ ‬وراشد”،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬يرتبط‭ ‬بهما‭ ‬مخطوط‭ ‬تكوين‭ ‬مدينة‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬فيمكن‭ ‬سرد‭ ‬تفاصيل‭ ‬سيرة‭ ‬البدء‭ ‬تلك‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭:‬


لوحة: سعد يكن

شقيقان‭ ‬اثنان‭.. ‬كانا‭ ‬في‭ ‬الكرك. ‬وكان‭ ‬اسمهما‭ ‬صبرة‭ ‬وراشد،‭ ‬وكانا‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الحدادين،‭ ‬ولهما‭ ‬ذكرهما‭ ‬الطيب،‭ ‬ووضعهما‭ ‬الحسن‭ ‬في‭ ‬مدينتهما‭ ‬جنوب‭ ‬الأردن‭.‬

ويقال‭ ‬إن‭ ‬جيرانهما‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬‮ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬تعرف‭ ‬باسم‭ ‬“البنوية”،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تربطهما‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم‭ ‬زعيم‭ ‬المنطقة،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬علاقات‭ ‬وثيقة‭.‬

كان‭ ‬الأخوان‭ ‬متفقان،‭ ‬ولكن‭ ‬صبرة‭ ‬كان‭ ‬يمتلك‭ ‬حسا‭ ‬قياديا،‭ ‬وكان‭ ‬حكيما،‭ ‬وذكيا،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يخزّن‭ ‬الحنطة‭ ‬في‭ ‬الآبار‭ ‬الرومانية،‭ ‬ويدبر‭ ‬أمور‭ ‬الزراعة،‭ ‬ويتطلع‭ ‬دائما‭ ‬إلى‭ ‬المستقبل‭ ‬مخططا‭ ‬لتفاصيله،‭ ‬وبانيا‭ ‬حساباته‭ ‬للقادم‭ ‬من‭ ‬الزمان‭.‬

تشير‭ ‬أقوال‭ ‬الرواة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬صبرة‭ ‬رُزق‭ ‬يوما‭ ‬ببنت،‭ ‬وكان‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم‭ ‬عنده،‭ ‬فقال‭ ‬له‭ ‬“الحَذِيا‭ ‬يا‭ ‬حداد”‭(‬‭ ‬أي‭ ‬أطلب‭ ‬البنت‭ ‬المولودة‭ ‬منك‭ ‬زوجة‭ ‬لي،‭ ‬أو‭ ‬لأحد‭ ‬أبنائي‭)‬،‭ ‬فأجابه‭ ‬صبره‭: ‬“ابشر،‭ ‬جَتَك،‭ ‬وعلى‭ ‬حسابك”‭.‬

وتمر‭ ‬الأيام،‭ ‬وتكبر‭ ‬الطفلة،‭ ‬وتصبح‭ ‬فتاة،‭ ‬ويتفاجأ‭ ‬صبرة‭ ‬بأن‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم‭ ‬يرسل‭ ‬وفدا‭ ‬طالبا‭ ‬يد‭ ‬ابنته،‭ ‬فيرفض‭.‬

‮ ‬يُصِرّ‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم،‭ ‬ويكرر‭ ‬إرسال‭ ‬الوفود،‭ ‬وصبرة‭ ‬يرفض،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬يُغير‭ ‬‭(‬يهجم‭)‬‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم‭ ‬على‭ ‬مواشي‭ ‬صبره،‭ ‬ويسلبها‭.‬

‮ ‬لكن‭ ‬صبرة‭ ‬يبقى‭ ‬مصرا،‭ ‬فيختطف‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم‭ ‬اثنان‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬صبره‭ ‬كرهينتين،‭ ‬ويهدد‭ ‬بقتلهما،‭ ‬فيرفض‭ ‬صبرة،‭ ‬ويعمد‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم‭ ‬إلى‭ ‬ربطهما‭ ‬بحجر‭ ‬ودحرجتهما‭ ‬من‭ ‬مرتفع‭ ‬“باطن‭ ‬الطويل”،‭ ‬ويتحول‭ ‬اسم‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬بعد‭ ‬موت‭ ‬ولدي‭ ‬صبرا‭ ‬إلى‭ ‬“مدحل‭ ‬ولدي‭ ‬حداد”‭.‬

‮ ‬وبعد‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬فكر‭ ‬صبرا،‭ ‬وعمد‭ ‬إلى‭ ‬التحالف‭ ‬مع‭ ‬جيرانه‭ ‬“البنوية”،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬أرسلوا‭ ‬إلى‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم‭ ‬بمرسال‭ ‬يخبره‭ ‬بالموافقة‭ ‬على‭ ‬الزواج،‭ ‬ويحضر‭ ‬رجال‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم،‭ ‬ويدخلوهم‭ ‬إلى‭ ‬المضافة،‭ ‬ويقدم‭ ‬لهم‭ ‬صبرة‭ ‬الطعام‭ ‬بلا‭ ‬ملح،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬يتم‭ ‬الهجوم‭ ‬عليهم‭ ‬ويقتلوهم،‭ ‬ثم‭ ‬يخرج‭ ‬“الحدادين”‭ ‬وعائلاتهم،‭ ‬ومعهم‭ ‬جيرانهم‭ ‬“البنوية”‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬اللسان‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬الميت‭.‬

بعد‭ ‬ذلك‭.. ‬وعندما‭ ‬بلغ‭ ‬الخبر‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم‭ ‬ركب‭ ‬مع‭ ‬قومه،‭ ‬ولحقوا‭ ‬بـ”الحدادين”‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭ ‬الميت،‭ ‬ولكنهم‭ ‬لم‭ ‬يدركوهم‭.. ‬ثم‭ ‬يصل‭ ‬الراحلون‭/‬الهاربون‭ ‬إلى‭ ‬حلحول‭ ‬في‭ ‬قضاء‭ ‬الخليل،‭ ‬ويمضون‭ ‬فيها‭ ‬ستة‭ ‬أشهر،‭ ‬ويتجهون‭ ‬بعدها‭ ‬شمالا‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬جالا‭ ‬وبيت‭ ‬لحم،‭ ‬لكنهم‭ ‬لا‭ ‬يرتاحون‭ ‬في‭ ‬الإقامة‭ ‬هناك،‭ ‬فيلتجئ‭ ‬راشد‭ ‬إلى‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬ويستقر‭ ‬البنوية‭ ‬في‭ ‬البيرة،‭ ‬أما‭ ‬صبرة،‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الإقامة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المناطق،‭ ‬ويَحِنّ‭ ‬إلى‭ ‬الكرك. ‬وبعد‭ ‬ست‭ ‬سنوات،‭ ‬يعود‭ ‬مغامرا‭ ‬لوحده،‭ ‬وهناك‭ ‬قصة‭ ‬طويلة‭ ‬حول‭ ‬تفاصيل‭ ‬عودته‭ ‬تلك،‭ ‬وتسويته‭ ‬للوضع‭ ‬مع‭ ‬الشيخ‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم‭.‬

مكث‭ ‬صبره‭ ‬الحداد‭ ‬عند‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم‭ ‬عدة‭ ‬أسابيع،‭ ‬مكرّما‭ ‬في‭ ‬الكرك،‭ ‬ورأى‭ ‬حالة‭ ‬سيئة‭ ‬من‭ ‬الجوع‭ ‬عند‭ ‬الناس،‭ ‬ففتح‭ ‬أحد‭ ‬الآبار‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يخزن‭ ‬فيها‭ ‬الحنطة،‭ ‬ووزّعها،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬وأخبر‭ ‬أهله،‭ ‬وإخوته،‭ ‬وأصدقاءه‭ ‬البنوية،‭ ‬بنهاية‭ ‬العداء‭ ‬مع‭ ‬ابن‭ ‬قيصوم،‭ ‬وبنيته‭ ‬العودة،‭ ‬لكن‭ ‬أخوه‭ ‬راشد‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬معه،‭ ‬وفضل‭ ‬أن‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬“البنوية”‭ ‬استقروا‭ ‬في‭ ‬البيرة،‭ ‬بينما‭ ‬عاد‭ ‬صبرة‭ ‬وأولاده‭ ‬وحدهم‭ ‬إلى‭ ‬الكرك‭.‬

هذه‭ ‬قصة‭ ‬البدء،‭ ‬أما‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬متن‭ ‬الحكاية،‭ ‬فيشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المهاجر‭ ‬الذي‭ ‬اسمه‭ ‬راشد‭ ‬الحدادين،‭ ‬اشترى‭ ‬خربة‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬عائلات‭ ‬البيرة‭ ‬القدامى،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعلم‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬يؤسس‭ ‬لمدينة‭ ‬سيكون‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬هام‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الفلسطينيين‭.‬

ولكن‭ ‬راشد‭ ‬الحدادين،‭ ‬الذي‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬موطنه‭ ‬الجديد،‭ ‬لم‭ ‬يفارقه‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬الكرك،‭ ‬وتقول‭ ‬بعض‭ ‬الروايات‭ ‬أنه‭ ‬قرر‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬مدينته‭ ‬تلك،‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬الشيخ‭ ‬المتسبب‭ ‬في‭ ‬رحيله،‭ ‬ولكنه‭ ‬ترك‭ ‬خلفه‭ ‬أبناءه‭ ‬الخمسة،‭ ‬الذين‭ ‬أسسوا‭ ‬عائلات‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬وتلك‭ ‬التماثيل‭ ‬للأسود‭ ‬الخمسة‭ ‬في‭ ‬دوار‭ ‬المنارة،‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬مدينة‭ ‬بيت‭ ‬لحم،‭ ‬تمثل‭ ‬هؤلاء‭ ‬وهم‭:‬‮ ‬صبرة،‭ ‬وإبراهيم،‭ ‬وجريس،‭ ‬وشقير،‭ ‬وحسان،‭ ‬وهم‭ ‬أجداد‭ ‬العائلات‭ ‬المعروفة‭ ‬بأسماء‭: ‬آل‭ ‬يوسف،‭ ‬وآل‭ ‬عواد،‭ ‬وآل‭ ‬الشقرة،‭ ‬وآل‭ ‬الجغب،‭ ‬وآل‭ ‬عزوز‭.‬

“الحياة‭.. ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬قطرة”

كل‭ ‬زهرة‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬لها‭ ‬حكاية‭.. ‬وللشجر‭ ‬قصص،‭ ‬وللممرات‭ ‬ذاكرة،‭ ‬وللمساحات‭ ‬الخضراء‭ ‬موسيقى‭ ‬مغلفة‭ ‬بالشجن،‭ ‬هناك،‭ ‬حيث‭ ‬تماهيت‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬التفاصيل‭ ‬أوّل‭ ‬ما‭ ‬دخلت‭ ‬حديقة‭ ‬البروة‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬في‭ ‬حضنها‭ ‬ضريح‭ ‬الراحل‭ ‬الكبير‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬وكأن‭ ‬للشاعر‭ ‬ديوانه‭ ‬المكتوب‭ ‬من‭ ‬نبض‭ ‬الريف‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬بموازاة‭ ‬شعره‭ ‬الذي‭ ‬حاكى‭ ‬فيه‭ ‬فضاءات‭ ‬العالم‭ ‬الإنساني‭ ‬أجمع. ‬أصل‭ ‬متحف‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬البروة،‭ ‬في‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬على‭ ‬تلة‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬القدس‭.. ‬أهيم‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬الغائب‭.. ‬أقف‭ ‬أمام‭ ‬قبره،‭ ‬والصمت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬صلاة،‭ ‬وتداعيات‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬شعره‭ ‬ونثره‭ ‬وسيرته‭.‬

قلت‭: ‬“سلام‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الروح‭ ‬الشفيفة‭ ‬النقية”. ‬قرفصت‭ ‬أمامه،‭ ‬وتلمست‭ ‬الرخام،‭ ‬فشعرت‭ ‬بدفء‭ ‬الترحيب،‭ ‬وكأن‭ ‬الشاعر‭ ‬يبتسم‭ ‬للقادمين‭ ‬إليه،‭ ‬كما‭ ‬الحجيج‭ ‬إلى‭ ‬كعبة‭ ‬شعره،‭ ‬ونقاء‭ ‬روحه،‭ ‬وزمزم‭ ‬إبداعه،‭ ‬ونبيذ‭ ‬سرده‭.. ‬وكأنه‭ ‬يُذَكّر‭ ‬بتلك‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬“أثر‭ ‬الفراشة”،‭ ‬وعنوانها‭ ‬“الحياة‭.. ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬قطرة”‭.. ‬ها‭ ‬هو‭ ‬يعيد‭ ‬قراءتها‭:‬

“وإن‭ ‬قيل‭ ‬لي‭ ‬ثانية‭: ‬ستموت‭ ‬اليوم،‭ ‬فماذا‭ ‬تفعل؟‭ ‬لن‭ ‬أحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مهلة‭ ‬للرد‭: ‬إذا‭ ‬غلبني‭ ‬الوَسَنُ‭ ‬نمتُ. ‬وإذا‭ ‬كنتُ‭ ‬ظمآنا‭ ‬شربتُ. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬أكتب،‭ ‬فقد‭ ‬يعجبني‭ ‬ما‭ ‬أكتب‭ ‬وأتجاهل‭ ‬السؤال. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬أتناول‭ ‬طعام‭ ‬الغداء،‭ ‬أضفت‭ ‬إلى‭ ‬شريحة‭ ‬اللحم‭ ‬المشويّة‭ ‬قليلا‭ ‬من‭ ‬الخردل‭ ‬والفلفل. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬أحلّق،‭ ‬فقد‭ ‬أجرح‭ ‬شحمة‭ ‬أذني. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬أُقبِّل‭ ‬صديقتي،‭ ‬التهمت‭ ‬شفتيها‭ ‬كحبة‭ ‬تين. ‬وإذا‭ ‬كنت

أقرأ‭ ‬قفزت‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الصفحات. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬أقشّر‭ ‬البصل‭ ‬ذرفتُ‭ ‬بعض‭ ‬الدموع. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬أمشي‭ ‬واصلت‭ ‬المشي‭ ‬بإيقاع‭ ‬أبطأ. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬موجودا،‭ ‬كما‭ ‬أنا‭ ‬الآن،‭ ‬فلن‭ ‬أفكر‭ ‬بالعدم. ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬موجودا،‭ ‬فلن‭ ‬يعنيني‭ ‬الأمر. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬أستمع‭ ‬إلى‭ ‬موسيقى‭ ‬موزارت،‭ ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬حيّز‭ ‬الملائكة. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬نائما‭ ‬بقيت‭ ‬نائماً

وحالما‭ ‬وهائما‭ ‬بالغاردينيا. ‬وإذا‭ ‬كنت‭ ‬أضحكً‭ ‬اختصرت‭ ‬ضحكتي‭ ‬إلى‭ ‬النصف‭ ‬احتراماً‭ ‬للخبر. ‬فماذا‭ ‬بوسعي‭ ‬أن‭ ‬أفعل؟‭ ‬ماذا

بوسعي‭ ‬أن‭ ‬أفعل‭ ‬غير‭ ‬ذلك،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬أشجع‭ ‬من‭ ‬أحمق،‭ ‬وأقوى‭ ‬من‭ ‬هرقل؟”‭.‬

***

تابعت‭ ‬دخولي‭ ‬مقام‭ ‬متحف‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭.. ‬استقبلني‭ ‬مدير‭ ‬المتحف‭ ‬الصديق‭ ‬سامح‭ ‬خضر،‭ ‬وتجوّلت‭ ‬برفقته‭ ‬في‭ ‬مرافق‭ ‬المتحف‭ ‬وقاعاته‭ ‬وإيماءات‭ ‬درويش‭ ‬المرتبة‭ ‬في‭ ‬المكان؛‭ ‬لوحات‭ ‬تناجي‭ ‬الغائب،‭ ‬بعض‭ ‬مقتنياته،‭ ‬مكتبه،‭ ‬قلمه،‭ ‬نظارته،‭ ‬ركوة‭ ‬القهوة،‭ ‬بعض‭ ‬أرواقه،‭ ‬والفضاء‭ ‬عابق‭ ‬بروحه،‭ ‬وشعره،‭ ‬ومحبّة‭ ‬العالم‭ ‬له‭.‬

تابعت‭.. ‬ووقفت‭ ‬على‭ ‬إطلالة‭ ‬الموقع،‭ ‬لأشاهد‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬أمكنة‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬الوصول‭ ‬إليها،‭ ‬هناك‭ ‬أرى‭ ‬أضواء‭ ‬القدس،‭ ‬وهنا‭ ‬أبثّ‭ ‬المحبّة‭ ‬لها،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬أمسيتي‭ ‬في‭ ‬المتحف،‭ ‬حيث‭ ‬حضر‭ ‬أصدقاء‭ ‬لم‭ ‬أرهم‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد؛‭ ‬عانقت‭ ‬الدكتور‭ ‬إبراهيم‭ ‬أبو‭ ‬هشهش،‭ ‬وفرحت‭ ‬بصديقي‭ ‬الجميل‭ ‬الشاعر‭ ‬ماجد‭ ‬أبوغوش،‭ ‬وكان‭ ‬حاضرا‭ ‬المبدع‭ ‬المخرج‭ ‬إيهاب‭ ‬زاهدة‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬الخليل،‭ ‬وكان‭ ‬آخر‭ ‬لقاءاتنا‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬خلال‭ ‬مهرجان‭ ‬قرطاج‭ ‬المسرحي‭ ‬السابق،‭ ‬وبحميمية‭ ‬أخوية‭ ‬التقيت‭ ‬الصديق‭ ‬أكرم‭ ‬الحمري،‭ ‬رفيق‭ ‬ذاكرة‭ ‬الجزائر‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬لحم،‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬غياب‭ ‬لنلتقي‭ ‬في‭ ‬أكناف‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬والتقيت‭ ‬غيرهم‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭.. ‬وكان‭ ‬الحوار‭ ‬دافئا‭ ‬كقلوب‭ ‬الأهل‭ ‬هناك‭.‬

مبدعان‭ ‬كبيران

كأن‭ ‬ظلال‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬إذ‭ ‬ليس‭ ‬صدفة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬موقع‭ ‬إقامتي،‭ ‬وفندقي،‭ ‬أمام‭ ‬مركز‭ ‬خليل‭ ‬السكاكيني‭.. ‬هناك،‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬“بيوتي‭ ‬إن”،‭ ‬الواقع‭ ‬بمواجهة‭ ‬المركز،‭ ‬كان‭ ‬صاحبه‭ ‬الدمث‭ ‬الطيب‭ ‬المضياف‭ ‬“أبو‭ ‬أندريه”،‭ ‬قد‭ ‬غمرني‭ ‬بلطفه،‭ ‬وفي‭ ‬مساء‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬صرت‭ ‬ألتقيه،‭ ‬حيث‭ ‬جلسنا‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬وفي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الجلسات‭ ‬حدثني‭ ‬عن‭ ‬محمود‭ ‬درويش،‭ ‬قائلا‭ ‬بأنه‭ ‬عندما‭ ‬تم‭ ‬اجتياح‭ ‬رام‭ ‬الله‭ ‬عام‭ ‬2002،‭ ‬كنت‭ ‬أقوم‭ ‬ببناء‭ ‬هذا‭ ‬الفندق،‭ ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يهرب‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬أعكف‭ ‬على‭ ‬تعمير‭ ‬هذا‭ ‬المكان،‭ ‬ومصمما‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أبقى‭ ‬ولا‭ ‬أغادر،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬عمال‭ ‬يعملون‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬أصعب‭ ‬الظروف،‭ ‬ذلك‭ ‬أنه‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬يأتي‭ ‬جنود‭ ‬الاحتلال،‭ ‬كنا‭ ‬نختفي،‭ ‬أو‭ ‬نبتعد،‭ ‬ونوقف‭ ‬العمل‭.‬

يستمر‭ ‬أبو‭ ‬أندريه‭ ‬في‭ ‬حديثه‭: ‬مرة‭ ‬كنت‭ ‬أقف‭ ‬أمام‭ ‬هيكل‭ ‬البناء،‭ ‬وكان‭ ‬الجنود‭ ‬قريبين‭ ‬من‭ ‬المكان،‭ ‬وكنت‭ ‬حذرا،‭ ‬والعمال‭ ‬مختبئين،‭ ‬حين‭ ‬التقطت‭ ‬أذني‭ ‬صوت‭ ‬ارتطام‭ ‬ثمرة‭ ‬فاكهة‭ ‬قريبا‭ ‬مني،‭ ‬والتفتّ‭ ‬إلى‭ ‬الجهة‭ ‬المقابلة،‭ ‬فكان‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬رمى‭ ‬الثمرة،‭ ‬ويشير‭ ‬لي‭ ‬بأن‭ ‬الجنود‭ ‬قد‭ ‬ابتعدوا،‭ ‬فاقتربت‭ ‬باتجاهه،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أشرت‭ ‬للعمال‭ ‬بمواصلة‭ ‬أشغالهم،‭ ‬ثم‭ ‬تمشيت‭ ‬معه‭ ‬قليلا‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬المجاور‭ ‬لمركز‭ ‬خليل‭ ‬السكاكيني‭.‬

هكذا‭ ‬يحضر‭ ‬درويش،‭ ‬ومض‭ ‬ذاكرة‭ ‬حميمية‭ ‬وفيض‭ ‬حكايات‭ ‬تروى‭ ‬عند‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬البلاد‭ ‬هناك،‭ ‬وكنت‭ ‬أنتظر‭ ‬صديقي‭ ‬يوسف‭ ‬الشايب‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتأخر‭ ‬على‭ ‬موعدنا،‭ ‬واتجهنا‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الفندق‭ ‬مشيا‭ ‬إلى‭ ‬مركز‭ ‬خليل‭ ‬السكاكيني،‭ ‬فالمسافة‭ ‬التي‭ ‬تفصلني‭ ‬عنه‭ ‬عدة‭ ‬أمتار،‭ ‬ودخلت‭ ‬وصديقي‭ ‬المركز،‭ ‬ووقفت‭ ‬عند‭ ‬بورتريه‭ ‬طولي‭ ‬لدرويش،‭ ‬ثم‭ ‬مضينا‭ ‬إلى‭ ‬مكتبه،‭ ‬وجلست‭ ‬قليلا‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬الشاعر،‭ ‬ثم‭ ‬تجولت‭ ‬داخل‭ ‬المركز‭ ‬الذي‭ ‬يحتوي‭ ‬في‭ ‬جنباته‭ ‬ذاكرة‭ ‬عظيمين،‭ ‬مبدعين،‭ ‬هما‭ ‬خليل‭ ‬السكاكيني‭ ‬‭(‬1878‭-‬1953‭)‬،‭ ‬ومحمود‭ ‬درويش،‭ ‬وكل‭ ‬واحد‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬مختلف،‭ ‬لكن‭ ‬كان‭ ‬أثرهما‭ ‬عميقا‭ ‬ثقافيا‭ ‬وإنسانيا‭.‬

***

تنبض‭ ‬الذاكرة‭ ‬بمنهاج‭ ‬الدراسة‭ ‬الابتدائية،‭ ‬وكنت‭ ‬ممّن‭ ‬درسوا‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتاب‭ ‬خليل‭ ‬السكاكيني‭ ‬للصف‭ ‬الأول‭ ‬الابتدائي،‭ ‬والذي‭ ‬يبدأ‭ ‬بدرس‭ ‬كلمتي‭ ‬“راس‭.. ‬روس‮»‬،‭ ‬وكانت‭ ‬الصورة‭ ‬تثري‭ ‬الكلمة،‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬أثره‭ ‬واضحا،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أسّس‭ ‬في‭ ‬المناهج‭ ‬التربوية،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬شاعرا،‭ ‬ومعلما،‭ ‬وسياسيا،‭ ‬ومفكرا‭.‬

أستعيد‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬السيرة،‭ ‬أكثر،‭ ‬وأنا‭ ‬أتجول‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬السكاكيني‭ ‬في‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬مما‭ ‬عاينته‭ ‬وقرأته،‭ ‬وقد‭ ‬استذكرته‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬لي‭ ‬زيارة‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬أبو‭ ‬اللسن،‭ ‬في‭ ‬معان‭ ‬جنوب‭ ‬الأردن،‭ ‬وورد‭ ‬أنه‭ ‬التحق‭ ‬بالثوار‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القرية،‭ ‬وهنا‭ ‬أعود‭ ‬بالزمن‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1918،‭ ‬حيث‭ ‬أن‭ ‬خليل‭ ‬السكاكيني‭ ‬سجن‭ ‬لدى‭ ‬العثمانيين،‭ ‬وكانت‭ ‬إقامته‭ ‬الإجبارية‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬ثم‭ ‬هرب‭ ‬هو‭ ‬ومجموعة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬الأحرار،‭ ‬للالتحاق‭ ‬بجيوش‭ ‬الثورة‭ ‬العربية‭ ‬الكبرى،‭ ‬وقد‭ ‬مروا‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭ ‬على‭ ‬قرية‭ ‬القريا‭ ‬في‭ ‬جبل‭ ‬العرب،‭ ‬وتابعوا‭ ‬مسيرهم‭ ‬إلى‭ ‬جنوب‭ ‬الأردن،‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬أبو‭ ‬اللسن،‭ ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬الأمير‭ ‬فيصل‭ ‬بن‭ ‬الحسين‭ ‬قائد‭ ‬جيوش‭ ‬الثورة‭ ‬العربية‭ ‬الكبرى،‭ ‬وكتب‭ ‬هناك‭ ‬نشيدا‭ ‬وطنيا،‭ ‬صار‭ ‬نشيد‭ ‬الثورة‭ ‬العربية‭ ‬الكبرى‭.‬

يا‭ ‬الله،‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬للتاريخ‭ ‬طعم‭ ‬مختلف،‭ ‬عندما‭ ‬يأتي‭ ‬هذا‭ ‬الربط‭ ‬الوجداني،‭ ‬عفو‭ ‬الخاطر،‭ ‬بعد‭ ‬عشرات‭ ‬السنين،‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو،‭ ‬وها‭ ‬أنا‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬رام‭ ‬الله،‭ ‬وفي‭ ‬حضرة‭ ‬الكبيرين‭ ‬‭(‬السكاكيني،‭ ‬ودرويش‭)‬،‭ ‬وأستعيد‭ ‬النشيد‭ ‬الذي‭ ‬كتبه‭ ‬السكاكيني،‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الوقت‭:‬

أيها‭ ‬المولى‭ ‬العظيم‮ ‬‭ ‬فخر‭ ‬كل‭ ‬العرب

ملك‭ ‬الملك‭ ‬الفخيم‮ ‬‭ ‬ملك‭ ‬جدك‭ ‬النبي

نحو‭ ‬هذا‭ ‬الملك‭ ‬سيروا‮ ‬‭ ‬قبل‭ ‬فوت‭ ‬الزمن

وعلى‭ ‬الخصم‭ ‬أغيروا‮ ‬‭ ‬لخلاص‭ ‬الوطن”‭.‬

‮ ‬

تداعيات‭ ‬كثيرة‭ ‬حملتها‭ ‬زيارتي‭ ‬لمركز‭ ‬السكاكيني،‭ ‬وأعادتني‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬عاشها،‭ ‬وقصة‭ ‬حياته،‭ ‬وتفاصيل‭ ‬نضاله،‭ ‬وإنسانيته‭ ‬العالية،‭ ‬ومواقفه‭ ‬الوطنية،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬كنت‭ ‬أتلمّسه،‭ ‬حتى‭ ‬وأنا‭ ‬أقف‭ ‬تحت‭ ‬شجرة‭ ‬التين‭ ‬العتيقة‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬صامدة‭ ‬أمام‭ ‬الدرج‭ ‬المفضي‭ ‬إلى‭ ‬بورتريه‭ ‬درويش،‭ ‬ومكتبه‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.