أوركيسترا‭ ‬لوجه‭ ‬قلق

الأربعاء 2017/03/01
لوحة: حسين جمعان

لخالسّنجاب‭ ‬چامبا‭ ‬يمسك‭ ‬حبّة‭ ‬الجوز‭ ‬في‭ ‬انفعال‭ .‬كان‭ ‬انفعاله‭ ‬شديدا‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬العادة‭ .‬يلتفت‭ ‬وراءه‭ ‬ثم‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬مكانه‭ ‬على‭ ‬جذع‭ ‬الشجرة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يهمّ‭ ‬بقضم‭ ‬الجوزة‭.‬

موسيقى‭ ‬سيمفونية‭ ‬بيتهوفن‭ ‬يسمع‭ ‬صداها‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬الغابة‭ .‬تخترق‭ ‬أغصان‭ ‬الأشجار‭ ‬المكسوّة‭ ‬بالثّلوج‭ ‬كرعشة‭ ‬خفيفة‭ ‬ثم‭ ‬تتبيّن‭ ‬الألحان‭ ‬واضحة‭ ‬نقيّة‭ .‬طربت‭ ‬لها‭ ‬الطيور‭ ‬فرفرفت‭ ‬بأجنحتها‭ ‬كفواصل‭ ‬اندمجت‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬اللّحن‭ ‬الذي‭ ‬اقتحم‭ ‬الغابة‭ ‬فجأة‭.‬

چامبا‭ ‬قلق‭ ‬جدا‭ .‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬وجهه‭ ‬صباحا‭ ‬في‭ ‬البحيرة‭ ‬الجليديّة‭ ‬ولم‭ ‬يستسغ‭ ‬ملامحه‭ .‬وجه‭ ‬مكوّر‭ ‬ضئيل‭ ‬تنبثق‭ ‬منه‭ ‬أسنان‭ ‬بشكل‭ ‬فاضح‭ ‬وعينان‭ ‬صغيرتان‭ ‬يعتصرهما‭ ‬خدّان‭ ‬منتفخان‭.‬

لم‭ ‬تكن‭ ‬لديه‭ ‬أدنى‭ ‬فكرة‭ ‬حول‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬البريّة‭ ‬الجليدية‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬شكّل‭ ‬له‭ ‬عقدة‭ ‬منذ‭ ‬ابتعد‭ ‬عن‭ ‬عائلته‭ ‬كراشد‭ ‬متحمس‭ ‬لحياة‭ ‬الوحدة‭ ‬واللّامبالاة‭ .‬كما‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬راضيا‭ ‬عن‭ ‬شكله‭ .‬شعر‭ ‬أنه‭ ‬مقيّد‭ ‬عن‭ ‬فعل‭ ‬عدة‭ ‬أمور‭ ‬كحمل‭ ‬أشياء‭ ‬ثقيلة‭ ‬أو‭ ‬مكالمة‭ ‬الإنسيّين‭ ‬الذين‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يأتون‭ ‬للغابة‭ ‬للاحتطاب‭ .‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يمسك‭ ‬حبّة‭ ‬الجوز‭ ‬بعصبية‭ ‬مفرطة‭ .‬لم‭ ‬يكتم‭ ‬تشنّجه‭ .‬طفق‭ ‬يخربش‭ ‬جذع‭ ‬الصنوبر‭ ‬بمخالبه‭ ‬الصغيرة‭ ‬ويحكّ‭ ‬وبره‭ ‬مبديا‭ ‬أسفا‭ ‬وحنقا‭ ‬كبيرين‭.‬

بيتهوفن‭ ‬يبعث‭ ‬الألحان‭ ‬في‭ ‬الغابة‭ ‬بلا‭ ‬انقطاع‭ .‬لا‭ ‬رتابة‭ ‬فيها‭ .‬تلسع‭ ‬الأغصان‭ ‬المنحنية‭ ‬بثلجها‭ ‬فتزعزع‭ ‬صمتها‭ ‬وتحيلها‭ ‬إلى‭ ‬انشراح‭ ‬فترتجف‭ ‬خفيفة‭ ‬وهي‭ ‬تلفظ‭ ‬ما‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الغابة‭ ‬البيضاء‭ .‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬الأصوات‭ ‬في‭ ‬الغابة‭ ‬منبثقة‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬حيوانية‭ ‬في‭ ‬البريّة‭ .‬كتزاوج‭ ‬ثعالب‭ ‬الثلج‭ ‬أو‭ ‬عواء‭ ‬الذّئاب‭ ‬الحارسة‭ ‬لمناطق‭ ‬نفوذها‭ ‬أو‭ ‬نعيق‭ ‬غربان‭ ‬شريدة‭ .‬كان‭ ‬چامبا‭ ‬يحبّذ‭ ‬تأمّل‭ ‬السّماء‭ ‬ومباركة‭ ‬ذوبان‭ ‬الجليد‭ .‬ولشدّ‭ ‬ما‭ ‬يمقت‭ ‬جحره‭ ‬المريع‭ ‬المليء‭ ‬بملصقات‭ ‬إشهارية‭ ‬لمنتوجات‭ ‬الغابة‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬عصائر‭ ‬ومربّى‭ ‬وقشطة‭ ‬وسريره‭ ‬الضّئيل‭ ‬الذي‭ ‬يحيل‭ ‬على‭ ‬تساؤل‭ ‬منطقي‭ .‬أين‭ ‬ينام؟

انتصف‭ ‬النهار‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ .‬وانتبذت‭ ‬السّحب‭ ‬أركانا‭ ‬أشتاتا‭ ‬في‭ ‬السّماء‭ .‬جالت‭ ‬أصوات‭ ‬مزمجرة‭ ‬الأرجاء‭ .‬طيور‭ ‬سوداء‭ ‬تقتحم‭ ‬المكان‭ ‬وتلهب‭ ‬الأفئدة‭ ‬بالفزع‭ ‬والارتباك‭ .‬تقذف‭ ‬بيضا‭ ‬ناريّا‭ ‬بنسق‭ ‬مسترسل‭ ‬فينفجر‭ ‬تباعا‭ .‬بيد‭ ‬أنّ‭ ‬چامبا‭ ‬لم‭ ‬يفقه‭ ‬ماهية‭ ‬هذه‭ ‬الأطياف‭ ‬الدّخيلة‭ ‬ذوات‭ ‬الأصوات‭ ‬المرعبة‭ .‬وحسبه‭ ‬أنّها‭ ‬غضب‭ ‬مفاجئ‭ ‬زمجرت‭ ‬به‭ ‬السّماء‭ .‬فكّر‭ ‬أنّ‭ ‬بقاءه‭ ‬هناك‭ ‬ليس‭ ‬إلّا‭ ‬موتا‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬حال‭ ‬وأنّ‭ ‬قلقه‭ ‬لن‭ ‬يزيد‭ ‬انتكاسته‭ ‬إلّا‭ ‬وبالا‭.‬‭ ‬انتحى‭ ‬طرف‭ ‬الجذع‭ ‬المائل‭ ‬في‭ ‬توجّس‭ ‬وصمّم‭ ‬على‭ ‬اتّخاذ‭ ‬قرار‭ ‬جسور‭ ‬ورأي‭ ‬يقيه‭ ‬النّهاية‭ ‬التي‭ ‬نسجتها‭ ‬مخيّلته‭ ‬الغضّة‭ .‬ازدادت‭ ‬الطّيور‭ ‬تهيّجا‭ ‬واتّخذت‭ ‬حركاتها‭ ‬مسارات‭ ‬لولبيّة‭ ‬دائريّة‭ .‬تجمّلت‭ ‬اللّوحة‭ ‬بدخان‭ ‬أبيض‭ ‬متماوج‭ ‬فكانت‭ ‬السّماء‭ ‬بهيجة‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬معدودة‭ ‬ومكدودة‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬أخر‭ ‬وزادت‭ ‬الانفجارات‭ ‬المتقطّعة‭ ‬أوصال‭ ‬الغابة‭ ‬تمزيقا‭ ‬وغاب‭ ‬سكون‭ ‬الصّباح‭ ‬عبثا‭ ‬بددا‭.‬

بيتهوفن‭ ‬يرسل‭ ‬ألحانه‭ .‬تميس‭ ‬على‭ ‬سمت‭ ‬نقيّ‭ ‬ثمّ‭ ‬تتداخل‭ ‬مع‭ ‬زفير‭ ‬الطّيور‭ ‬اللّاذع‭ ‬وهي‭ ‬تقذف‭ ‬بيضها‭ ‬النّاريّ‭ ‬فتتلاشى‭ ‬أسرارها‭ ‬الطّروب‭ ‬وما‭ ‬تفتأ‭ ‬أن‭ ‬تعاود‭ ‬تفوّقها‭ ‬في‭ ‬تراقص‭ .‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬رسالة‭ ‬بيتهوفن‭ ‬إلى‭ ‬الطّيور‭ ‬الغاضبة‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬إجاباتها‭ ‬المعربدة‭ ‬لألحانه‭.‬

خمّن‭ ‬چامبا‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬الهرب‭ ‬والمغادرة‭ .‬حمل‭ ‬ما‭ ‬خفّ‭ ‬وترك‭ ‬ما‭ ‬ثقل‭ ‬ثمّ‭ ‬قفز‭ ‬إلى‭ ‬أسفل‭ .‬فكّر‭ ‬أنّه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬طريقا‭ ‬يسلكه‭ .‬جال‭ ‬ببصره‭ ‬مطرقا‭ ‬سمعه‭ ‬ثمّ‭ ‬تدانى‭ ‬برأسه‭ ‬قليلا‭ ‬إلى‭ ‬الجهة‭ ‬اليمنى‭ ‬حيث‭ ‬تناهت‭ ‬إليه‭ ‬أصوات‭ ‬مرحة‭ .‬الأمر‭ ‬في‭ ‬غرابته‭ ‬مخيف‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬ملامح‭ ‬السّنجاب‭ ‬الصّغير‭ ‬متكدّرة‭ ‬ممتقعة‭ .‬تلهّف‭ ‬مجدّدا‭ ‬واستطاب‭ ‬تلك‭ ‬الألحان‭ ‬الشّجية‭ ‬فكان‭ ‬ينطّ‭ ‬بين‭ ‬الأعشاب‭ ‬والحصى‭ ‬بشغف‭ ‬وتولّع‭ .‬فكّر‭ ‬أنّ‭ ‬المعركة‭ ‬القائمة‭ ‬اندلعت‭ ‬إثر‭ ‬عدم‭ ‬تمكّن‭ ‬الطّيور‭ ‬من‭ ‬إيجاد‭ ‬مكان‭ ‬ملائم‭ ‬لوضع‭ ‬بيضها‭ ‬فكانت‭ ‬تبيض‭ ‬في‭ ‬الهواء‭.‬

أطلّ‭ ‬من‭ ‬صخرة‭ ‬ملساء‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬مرسل‭ ‬ألحان‭ ‬بيتهوفن‭ .‬تناكب‭ ‬مع‭ ‬سنّور‭ ‬ووشقٌ‭ ‬سيبيريّ‭ ‬متلهّفين‭ ‬لاستبيان‭ ‬اللّحن‭ ‬الأخاّذ‭ .‬حطّت‭ ‬بومة‭ ‬إثر‭ ‬ذاك‭ ‬فكانت‭ ‬حيوانات‭ ‬الغابة‭ ‬وطيورها‭ ‬تصل‭ ‬متتابعة‭ ‬إلى‭ ‬السّهل‭ ‬ثم‭ ‬تتوجّه‭ ‬إلى‭ ‬بيتهوفن‭ ‬يقودهم‭ ‬چامبا‭ ‬في‭ ‬زهوّ‭.‬

لاح‭ ‬سراب‭ ‬لامع‭ ‬بجانب‭ ‬البحيرة‭ .‬كان‭ ‬يهفهف‭ ‬أعلى‭ ‬وأسفل‭ .‬توقّف‭ ‬چامبا‭ ‬والآخرون‭ ‬على‭ ‬مرمى‭ ‬بصر‭ ‬منه‭ .‬بدا‭ ‬لهم‭ ‬إنسيّ،‭ ‬إنسيّ‭ ‬يصدر‭ ‬ألحانا‭ ‬بالنّقر‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬أسود‭ ‬له‭ ‬أسنان‭ ‬بيضاء‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬فكرة‭ ‬الوجه‭ ‬تنقر‭ ‬على‭ ‬ناصية‭ ‬چامبا‭ ‬وتمسح‭ ‬سحنته‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الرّيبة‭ .‬اقترب‭ ‬من‭ ‬الإنسيّ‭ ‬ومكث‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬أخذ‭ ‬وردّ،‭ ‬مقارنا‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الشّيء‭ ‬الأسود‭ ‬الذي‭ ‬ينقر‭ ‬عليه‭ ‬باهتمام‭ ‬وفضول،‭ ‬باحثا‭ ‬عن‭ ‬مخرج‭ ‬من‭ ‬ورطة‭ ‬الوجه‭ ‬القلق‭ ‬وسيطرت‭ ‬عليه‭ ‬غبشة‭ ‬من‭ ‬انهزام‭ ‬فكان‭ ‬كسيرا‭.‬

بيتهوفن‭ ‬يواصل‭ ‬العزف‭ ‬والطّيور‭ ‬المتهيّجة‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬تقذف‭ ‬بيضها‭ ‬النّاريّ‭ ‬بدون‭ ‬انقطاع‭ .‬انفجرت‭ ‬بيضة‭ ‬حذو‭ ‬جامبا‭ ‬فاحتمى‭ ‬بصفصافة‭ ‬وتفرّقت‭ ‬الحيوانات‭ ‬منتبذة‭ ‬المغاور‭ ‬والآجام‭ .‬التهب‭ ‬عقل‭ ‬السّنجاب‭ ‬الصّغير‭ ‬بصورة‭ ‬وجهه‭ ‬القلق‭ .‬حاول‭ ‬تبديد‭ ‬تلك‭ ‬الوساوس‭ ‬بمناورة‭ ‬ساذجة‭ ‬إذ‭ ‬التفت‭ ‬صوب‭ ‬الوجه‭ ‬الخشبيّ‭ ‬الأسود‭ .‬كيف‭ ‬لذلك‭ ‬الشّيء‭ ‬الصّامت‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬صوتا‭ ‬متناغما؟‭ ‬لم‭ ‬يتمكّن‭ ‬من‭ ‬استيعاب‭ ‬هذا‭ ‬المنطق‭ ‬الجديد‭ .‬ربّما‭ ‬كان‭ ‬لوجهه‭ ‬صوت‭ ‬متناغم‭ ‬أيضا‭ .‬حاول‭ ‬صارخا‭ ‬إصدار‭ ‬صوت‭ ‬رخيم‭ ‬فزعق‭ .‬حاول‭ ‬مجدّدا‭ .‬تبعته‭ ‬حيوانات‭ ‬الغابة‭ .‬اعتقدت‭ ‬أنّ‭ ‬چامبا‭ ‬يطلق‭ ‬نداء‭ ‬استغاثة‭ .‬تلذّذت‭ ‬بالصّراخ‭ ‬مرّة‭ ‬أخرى‭ ‬وانبرى‭ ‬الجميع‭ ‬يتصايحون‭.‬

طائرات‭ ‬حربيّة‭ ‬تقصف‭ ‬المكان‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭ .‬عجوز‭ ‬قرويّ‭ ‬يواصل‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬بيانو‭ ‬قديم‭ .‬حيوانات‭ ‬الغابة‭ ‬تنتحب‭ ‬بشجن‭ .‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الأوركيسترا‭ ‬تدغدغ‭ ‬أذني‭ ‬چامبا‭ .‬واصل‭ ‬الصّراخ‭ ‬مفكّرا‭ ‬أنّ‭ ‬وجهه‭ ‬ليس‭ ‬بتلك‭ ‬الدّرجة‭ ‬من‭ ‬البشاعة‭ ‬طالما‭ ‬يصدر‭ ‬منه‭ ‬عزف‭ ‬شجيّ‭ ‬فانبلج‭ ‬فرح‭ ‬هادئ‭ ‬من‭ ‬محيّاه‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬آخر‭ ‬عهده‭ ‬ببيتهوفن‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.