ردًّا على الرُّؤية الكارِهة
العنوان، ذاته؛ وهو العتبة الأساسيَّة لكلامه، يكشف عن تعميم سافر؛ كما يكشف عن ادِّعاء كبير بالإحاطةِ بمُجمل الشِّعر المصريِّ وأنَّه متابع لتاريخ الشِّعر المصريِّ بتحوُّلاته المتعدِّدة وأشكاله المختلفة، متابعة تؤهِّله للحكم على هذا الشِّعر بجملته فاشلٌ، إنِّ الموقف المعادي للشِّعر المصريّ،وللأدب والنِّقد في مصر بشكل عام، لا يخفى منذ العنوان، وعبر تفاصيل الرأي غير العلميِّ.
- يُعطي الكاتب نفسه الحقَّ في تقييم تجربة أحمد شوقي، وهو (الكاتب!) لا يزال” تلميذا في الدّراسات الأوليّة في الأدب العربيّ”!، ويصل إلى النّتيجة الآتية: ” يئست .هذا الشّاعر ليس مقلدًا فقط وإنّما لا يعرف كيف يكتب قصيدة فنية تخاطب وجدان القارئ أو عقله(!) .لا إمارة للشّعر في قصائد شوقي ولا شعر بالمرّة بل هو، كما وصفه عبّاس محمود العقّاد، كومة تراب! لمن يشكّ في كلامي أن يطالع شعر أحمد شوقي ولا أعتقد أن هناك من يطالعه أو يكتب عنه الآن”، وهو بهذا يتغافل أن شوقي كان أبرز شعراء عصره، وأنَّه لا يمكن إخراجه من مرحلته التَّاريخيَّة لنحاكمه، حاليًا، بمعايير استجدَّت، وهو لا يعلم أنَّ العقَّاد تراجع، فيما بعد، عن هجومه على شوقي في كتابه- المُشترَك مع المازني – “الدِّيوان”، وكنتُ أريد ممَّن تعرَّض لمكانة شوقي في عصره، أن يأتي بمَن هو أهمّ منه في وقته، وعلى الرَّغم من كراهيتي لطريقته في إثارة النَّعرات ضدّ الأقطار فإنِّني أسأل المدعو أثير: هل الزّهاوي والرَّصافي، مثلاً، أهم من شوقي وحافظ؟، علمًا بأنَّه واصل كلامه غير المسؤول فضمَّ حافظ إبراهيم إلى شوقي، بل نسى أنَّه يتحدَّث عن الشِّعر فأضاف: “كذلك الحال مع لقب عميد الأدب العربيّ الذي أُطلق على طه حسين، فعلى الرّغم من أنّ الرّجل كان ناقدًا ولم يكتب من الأدب سوى سيرته الشخصية وسرديات ذاوية غير مهمَّة (!) فقد صار ولا يزال عميد الأدب العربيّ .كذلك الحال مع جابر عصفور النَّاقد المصريّ المعروف”، وينتقل إلى الهجوم على البارودي ..إنَّه كلام يكشف عن جهل كبير بالحقائق التَّاريخيَّة، وبمراحل التَّحوُّلات الأدب، ويرى ما جاء بعد شوقي من “مدارس شعريَّة مثل الدِّيوان وأبولو لم تكن سوى بدايات متواضعةٍ قياسًا بالحركة الشِّعرية الجديدة الجارفة التي انطلقت بفضل الشَّاعرين بدر شاكر السَّيَّاب ونازك الملائكة بعد الحرب العالميَّة الثانية في ما يعرف بالشِّعر الحرّ، أو شعر التَّفعيلة ..تأثَّر الأدباء المصريُّون بها ولكنَّها انطبعت عليهم أكثر من غيرهم ولم ينجحوا في الخروج منها حتَّى اللحظة.” وهنا يبدو أن المدعو أثير لم يقرأ تجارب شعريَّة مثل تجربة عبد الرحمن شكري ومحمود حسن اسماعيل وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي، وأسأله سؤالا واحدًا: ما الذي تأثَّر به كلٌّ من: صلاح عبد الصَّبور، وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمَّد عفيفي مطر وأمل دنقل بالسَّيَّاب ونازك الملائكة؟
- والمُدهش أن يصل إلى أن في مقدِّمة أسباب وصوله إلى نتيجة فشل المصريِّين، دائمًا، في كتابة الشِّعر، أنَّ المصريِّين ليس لديهم حاضنة لغويَّة (!)؛ لبعدهم عن الجزيرة العربيَّة، وقد فاته أن الحاضنة العربيَّة التي تعود إلى أكثر من ألف عام، هيَ: الأزهر، وأنَّها الجامعة العربيَّة الأولى لدراسة علوم اللغة العربيَّة وعلوم الشَّريعة الإسلاميَّة، وبمناسبة حديثه عن الشَّاميِّين فهو لا يعلم أنَّ مصر هي التي احتضنت شاميِّين وفدوا إليها شارَكوا في تأسيس النَّهضة الثَّقافيَّة في مجالاتٍ مُتعدِّدة؛ ومنهم: جمال الدِّين الأفغاني، وجُرجي زيدان، وأنطوان الجميل، وبشارة تكلا، ونجيب متري، وروز اليوسف، وبيرم التُّونسي، وفي مصر عاش وشارك شعراء عربٌ في تشكيلِ ظاهرة الشِّعريَّة العربيَّة الجديدةِ؛ المُتحرِّرةِ من الضَّوابطِ العَروضيَّةِ في مصرَ؛ التي كانتْ مركزَ الدَّائرةِ الشِّعريَّةِ العربيَّةِ، ومنهم: نقولا فيَّاض؛ صاحبُ أقدمِ نصٍّ شِعريٍّ مكتوب بالنَّثر العربيِّ، وخليل مُطران، وميِّ زيادة، وخليل شيبوب، وبِشر فارس، كما كانَ من بينِ شعراء جماعة “الفنَ والحريَّة”، المصريَّة، في أواخر الثَّلاثينيَّات، كنتروفيتش؛ الشَّاعر البولنديُّ الذي كتب بالعربيَّة.
- والمُضحك في استخلاصه أنَّه يرى كذلك أنَّ من أسباب الفشل الشِّعريِّ الدَّائم في مصر: “الفقر الدِّيموغرافي“، وهو يرى، مُتفلسفًا، أنَّ مصرَ “خلافًا للطَّبيعة السُّكانيَّة العراقيَّة والشَّاميَّة التي تسمح بالانتشار على مساحة واسعة، فإنَّ مصر مُقيَّدة بشريط مائيٍّ ضيِّق يعيش فيه النَّاس بكثافة كبيرة .هذا الانحشار في منطقة واحدة يجعل النَّاس بعد مرور مدَّة قصيرة مُتشابهين جدًّا إلاَّ في الأطراف النائيَّة .لذلك، مصر تهرس كلّ الثَّقافات بثقافة واحدة ولغة واحدة ومزاج واحد”!
- كما يُرجع أسباب الفشل الشِّعريِّ المصريِّ الدَّائم أيضًا إلى “الثَّقافة المُمنهجة“، ويصل إلى النَّتيجة، العامة الآتية: ” يرى المرء أنَّ الشِّعر لدى الأديب والنَّاقد المصريِّ لا بدَّ أن يحمل رسالة مباشرة إلى القارئ هيَ في الأساس رسالة إصلاحيَّة تدعو إلى التَّغيير نحو الأفضل .المُباشرة ليست جليَّة فقط في مضمون الرِّسالة وإنَّما أيضًا في الشَّكل .فالشِّعر العربيُّ في مصر في الغالب يفصح عن رسالته إفصاحًا مباشرًا أيضًا .الإسراف في المُباشرة يحول دون كتابة قصيدة غنيَّة وعميقة ومتعدِّدة الدّلالات.”، فهل هذا الكلام، بعيدًا عن الاستدلال الخاطئ، يصدر عن أحد قرأ شعر محمد عفيفي مطر وحلمي سالم ورفعت سلام وغيرهم؟ .واللافت أنَّ المدعو أثير يُرجع الفشل الشِّعريّ إلى نتيجة أخرى، وهيَ أنَّه بسبب “التَّعليم المدرسيّ في مصر، ظلَّ الشُّعراء المصريُّون تابعين فنيًّا لأقرانهم في العراق وبلاد الشَّام وكذلك الحال مع الصحافة وحركة الترجمة والكتابة السردية والنشاطات التمثيلية التي أذاعها بين المصريَّين وافدون من بلاد الشَّام تحديدًا .شعراء ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية في مصر ظلُّوا أيضًا مقلِّدين بصورة عامة لرواد قصيدة التَّفعيلة .لا تجد في صلاح عبدالصَّبور مثلا إلا تقليدًا لا يكلُّ ولا يملُّ للسَّيَّاب (!) .الشُّعراء المعاصرون مثل أحمد عبد المعطي حجازي لم يستطيعوا للأسف الخروج عن قصيدة التَّفعيلة في حين فعل ذلك شعراء العراق وبلاد الشَّام منذ ستينات القرن الماضي(!).” أي أن الرجل لايعلم شيئا عن قصيدة النَّثر في مصر أيضًا!
- هو لا يرى، أيضًا، في شعر العاميَّة المصريَّة شعرًا، ويُقرِّر “ضعف الشِّعر الشَّعبيّ المصريّ، فهذا الشِّعر يشكو، هو الآخر، من جميع الآفات التي تستشري في الشِّعر المصريّ الفصيح من ضعف المستوى الفني وقلَّة التَّجديد وغياب العُمق على مستوى الأفكار والأشكال وشُحّ الموهبة واستفحال المُباشرة والتَّعليميَّة.”
- وعلى الرَّغم من أنَّ ما يدَّعيه على مُجمل الشِّعر المصريّ يمكن قوله على الشِّعر العراقيّ وغيره من الشِّعر العربيّ، فإنَّه يصل إلى نتيجة عامَّة لا تحتاج إلى تعليق هيَ أنَّ: ” مصر لم تكد تكتب شعرًا جيِّدًا في الغالب العام ..لا بالفصحى ولا العامية.”