وجه‭ ‬جميل

الأربعاء 2017/03/01
لوحة: عدي أتاسي

‬أعترف‭ ‬بأنني‭ ‬أحبها،‭ ‬وأنها‭ ‬علمتني‭ ‬معاني‭ ‬الحب‭ ‬التي‭ ‬دقت‭ ‬معانيه‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬توصف‭ .‬وحينما‭ ‬حملت‭ ‬حقيبتها‭ ‬وغادرت،‭ ‬انكفأت‭ ‬على‭ ‬نفسي،‭ ‬كأن‭ ‬شيئاً‭ ‬غالياً‭ ‬سُلب‭ ‬مني‭.‬

‮ ‬‭ ‬خطر‭ ‬في‭ ‬بالي‭ ‬صديق‭ ‬ودود،‭ ‬يكتم‭ ‬السر،‭ ‬هو‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬أجد‭ ‬فيه‭ ‬ضالتي،‭ ‬إذ‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬يراني‭ ‬حتى‭ ‬يسألني‭ ‬عنها‭ ‬وهو‭ ‬يضحك‭:‬

‭-‬‭ ‬ما‭ ‬أخبار‭ ‬الدكتورة؟

‮ ‬‭ ‬فأقول‭ ‬بلهفة‭ ‬وحزن‭:‬

‭-‬‭ ‬غادرت‭ ‬على‭ ‬خصام‭ ‬معي‭!‬

‮ ‬‭ ‬الهاتف‭ ‬مغلق،‭ ‬أين‭ ‬ذهبت‭ ‬يا‭ ‬صاحبي‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬الشدة؟‭ ‬بدت‭ ‬بغداد‭ ‬موحشةً‭ ‬بعدها،‭ ‬خاليةً‭ ‬من‭ ‬الناس‭ .‬هي‭ ‬وجه‭ ‬جميل‭ ‬أحبه،‭ ‬وشهادة‭ ‬علمية‭ ‬أفخر‭ ‬بها،‭ ‬لكن‭ ‬غيرتي‭ ‬عليها‭ ‬تفسد‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ .‬وقد‭ ‬غادرت‭ ‬لحضور‭ ‬مؤتمر‭ ‬طبي‭ ‬عاجل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬رضاي‭.‬

‮ ‬‭ ‬جعلت‭ ‬أدور‭ ‬بسيارتي‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هدف‭ .‬فكرت‭ ‬بكل‭ ‬أقاربي،‭ ‬بكل‭ ‬من‭ ‬أعرف،‭ ‬فبدوا‭ ‬لي‭ ‬مثل‭ ‬ظلال‭ ‬شاحبة،‭ ‬كرهت‭ ‬أشكالهم‭ ‬وأحاديثهم‭ ‬الساذجة‭ ‬كلها‭.‬

‮ ‬‭ ‬الزحام‭ ‬يرهقني،‭ ‬لكن‭ ‬بغداد‭ ‬مقفرة‭ .‬وجهها‭ ‬الجميل‭ ‬غائب‭ .‬أين‭ ‬أهل‭ ‬بغداد؟‭ ‬بغداد‭ ‬خالية‭ .‬أين‭ ‬مقاهيها‭ ‬الجميلة؟‭ ‬أين‭ ‬أغاني‭ ‬التراث‭ ‬التي‭ ‬تشكو‭ ‬ظلم‭ ‬الحبيب‭ ‬وهجره؟‭ ‬أين‭ ‬صخب‭ ‬الشوارع‭ ‬في‭ ‬الضحى‭ ‬وفرحها‭ ‬في‭ ‬المساء؟

‮ ‬‭ ‬فتحت‭ ‬المذياع،‭ ‬يا‭ ‬للكارثة،‭ ‬مازالت‭ ‬الأنباء‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬أمور‭ ‬لا‭ ‬يقبلها‭ ‬العقل‭ ‬ولا‭ ‬المنطق‭ .‬ولا‭ ‬من‭ ‬يسمع‭ ‬مشكلتي‭ ‬أو‭ ‬يؤنس‭ ‬وحدتي‭ .‬التناحر‭ ‬سمة‭ ‬العصر،‭ ‬لكنني‭ ‬أهيم‭ ‬بوجهها‭ ‬الجميل‭ .‬مشكلتي‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬البغضاء‭ ‬والحقد‭ ‬والحرب‭.‬

‮ ‬‭ ‬لِمَ‭ ‬لم‭ ‬تعتذر؟‭ ‬خوفي‭ ‬عليها‭ ‬يشعل‭ ‬حرائق‭ ‬مدمرةً‭ ‬في‭ ‬داخلي،‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تستأصل‭ ‬هذا‭ ‬القلق‭ ‬المهلك،‭ ‬وأن‭ ‬تطفئ‭ ‬تلك‭ ‬النيران‭ .‬هي‭ ‬نيران‭ ‬أعتى‭ ‬من‭ ‬نيران‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬العجيبة‭ ‬التي‭ ‬نفقد‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ .‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أفقدها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الرحلة،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يفلح‭ ‬أحدهم‭ ‬في‭ ‬سرقتها‭ ‬مني‭ .‬يا‭ ‬إلهي،‭ ‬الأفكار‭ ‬السود‭ ‬تتسلل‭ ‬إلى‭ ‬رأسي‭ ‬وتحتله‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬مريع‭.‬

وجهها‭ ‬الجميل‭ ‬غائب‭ .‬هاتفها‭ ‬لا‭ ‬يرد،‭ ‬أعرف‭ ‬عنادها‭ ‬بعد‭ ‬أيّ‭ ‬خصام‭ ‬عابر‭ .‬وبغداد‭ ‬تقف‭ ‬صامتةً‭ ‬محايدةً‭ ‬بوجه‭ ‬شاحب‭ ‬مريض‭ .‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أجد‭ ‬مكاناً‭ ‬ترتاح‭ ‬إليه‭ ‬روحي‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬مقفرة‭ .‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬البيت؟‭ ‬انقبض‭ ‬صدري،‭ ‬بدا‭ ‬سجناً‭ ‬سرياً‭ ‬موحشاً‭ ‬على‭ ‬أطراف‭ ‬بغداد‭.‬

فكرت‭ ‬بالمطعم‭ ‬الذي‭ ‬تناولنا‭ ‬فيه‭ ‬الغداء‭ ‬آخر‭ ‬مرة‭ .‬هو‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬ترتاح‭ ‬إليه‭ ‬روحي‭ .‬كان‭ ‬مكاننا‭ ‬شاغراً‭ .‬مكاننا‭ ‬الذي‭ ‬جلسنا‭ ‬فيه‭ ‬آخر‭ ‬مرة‭ .‬جلست‭ ‬قبالتها‭ .‬طلبت‭ ‬الأكلة‭ ‬التي‭ ‬تحبها‭ ‬لي‭ ‬ولها،‭ ‬سألني‭ ‬الرجل‭:‬

‭-‬‭ ‬معك‭ ‬أحد؟

‮ ‬‭ ‬هززت‭ ‬رأسي‭ ‬بالإيجاب،‭ ‬فقدم‭ ‬صحنين‭ ‬وقدحين‭ ‬وطعاماً‭ ‬يكفي‭ ‬لشخصين‭ .‬وظل‭ ‬يتأملني،‭ ‬ثم‭ ‬أصغى‭ ‬إليّ‭ ‬بقلق‭ ‬بالغ،‭ ‬حين‭ ‬شرعت‭ ‬أتحدث‭ ‬إليها‭ ‬بصوت‭ ‬عال،‭ ‬معتذراً‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬بدر‭ ‬مني،‭ ‬قلت‭ ‬لها‭ ‬بقلب‭ ‬جريح‭:‬

‭-‬‭ ‬اعذري‭ ‬غيرتي‭ ‬الزائدة‭ ‬فمبعثها‭ ‬الحب‭.‬

‮ ‬‭ ‬كانت‭ ‬تهزّ‭ ‬رأسها‭ ‬صامتةً،‭ ‬غير‭ ‬مقتنعة‭ ‬بما‭ ‬أقول،‭ ‬وكنت‭ ‬أسوق‭ ‬لها‭ ‬الدليل‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬صدق‭ ‬مشاعري،‭ ‬ولما‭ ‬أرادت‭ ‬مقاطعتي‭ ‬كورت‭ ‬قبضتي‭ ‬وضربت‭ ‬بها‭ ‬حافة‭ ‬المنضدة‭ ‬بقوة،‭ ‬وقلت‭ ‬وصوتي‭ ‬يرتجف‭:‬

‭-‬‭ ‬لن‭ ‬تسافري‭ ‬بمفردك‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬طبيبةً‭ ‬تحضرين‭ ‬مؤتمراً‭ ‬علمياً‭.‬

انتبه‭ ‬الزبائن‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬حدث،‭ ‬وهرع‮ ‬‭ ‬النادل‭ ‬ليسألني‭ ‬بإحراج‭ ‬شديد‭:‬

‭-‬‭ ‬ألم‭ ‬يعجبك‭ ‬الطعام‭ ‬سيدي؟‭ ‬لم‭ ‬تأكل‭ ‬لقمةً‭ ‬واحدةً؟‭ ‬ولم‭ ‬يأت‭ ‬أحد‭ ‬معك؟

‮ ‬‭ ‬قلت‭ ‬بانزعاج‭ ‬وأنا‭ ‬أهم‭ ‬بالمغادرة‭:‬

‭-‬‭ ‬أريد‭ ‬قائمة‭ ‬الحساب‭!‬

‭-‬‭ ‬لشخصين؟

‭-‬‭ ‬لشخصين‭.‬

‮ ‬‭ ‬هزّ‭ ‬الرجل‭ ‬كفه‭ ‬حائراً،‭ ‬وأخذ‭ ‬النقود‭ ‬مني‭ ‬بفتور،‭ ‬فأسرعت‭ ‬وسط‭ ‬ذهول‭ ‬الزبائن‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬وتناهى‭ ‬إلى‭ ‬سمعي‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬النادل‭ ‬للزبائن‭ ‬كمن‭ ‬يعتذر‭ ‬عن‭ ‬ذهول‭ ‬رجل‭ ‬تشاجر‭ ‬مع‭ ‬امرأة‭ ‬قبل‭ ‬أسبوع‭ .‬قبل‭ ‬أسبوع؟‭ ‬هل‭ ‬مرّ‭ ‬الأسبوع‭ ‬بسرعة‭ ‬وأنا‭ ‬تائه؟‭ ‬يقيناً‭ ‬أنها‭ ‬تصل‭ ‬اليوم،‭ ‬وتعود‭ ‬كما‭ ‬تفعل‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬مبتسمة‭ ‬تقول‭ ‬بدلال‭ ‬واتزان‭ ‬‮«‬شلونك‭ ‬أيها‭ ‬اللئيم؟‮»‬‭.‬

انطلقت‭ ‬بسيارتي‭ ‬متحرراً‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬قيد‭ .‬واستغربت‭ ‬أشد‭ ‬الاستغراب‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬ملأت‭ ‬الشوارع‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرة،‭ ‬وارتفع‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬ضجيج‭ ‬لم‭ ‬أسمعه‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬المذيع‭ ‬يتحدث‭ ‬بارتياح‭ ‬وبصوت‭ ‬جميل‭ ‬عن‭ ‬عودة‭ ‬مدن‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬ضائعة‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.