حدث‭ ‬بعد‭ ‬مائة‭ ‬عام

الأربعاء 2017/03/01
لوحة: عناية البخاري

(1)

هبطت‭ ‬بسيارتي‭ ‬الطائرة‭ ‬«تي‭ ‬أف‭ ‬‭-‬‭ ‬إيكس‭ ‬70»،‭ ‬ذات‭ ‬الدفع‭ ‬الكهربائي،‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬السريع،‭ ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬مدينتي‭ ‬االحويجةب‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬الزاب‭ ‬الأسفل،‭ ‬بمدينة‭ ‬اتكريتب،‭ ‬وطويت‭ ‬جناحيها‭ ‬وقدتها‭ ‬إلى‭ ‬بيتي‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬اشاووكب‭ ‬على‭ ‬مهل،‭ ‬بعدما‭ ‬انعطفت‭ ‬إلى‭ ‬طريق‭ ‬تحفه‭ ‬حقول‭ ‬الذرة‭ ‬الشامية‭ .‬منذ‭ ‬صغري‭ ‬وأنا‭ ‬أعشق‭ ‬خضرة‭ ‬أشجارها‭ ‬الفاقعة،‭ ‬وأزهارها‭ ‬الأنثوية‭ ‬التي‭ ‬تبزغ‭ ‬في‭ ‬آباط‭ ‬أوراقها؛‭ ‬لذا‭ ‬أهبط،‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر،‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الطريق‭ ‬لأستمتع‭ ‬برؤيتها‭.‬

أستلذّ‭ ‬كثيراً‭ ‬بطعم‭ ‬حبات‭ ‬الفشار‭ ‬في‭ ‬العرانيس‭ ‬المسلوقة،‭ ‬لكني‭ ‬أحزن‭ ‬لصوت‭ ‬انفجارها‭ ‬حينما‭ ‬أعرّضها‭ ‬للحرارة‭ ‬بطريقة‭ ‬بدائية‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تفعل‭ ‬جداتنا‭ ‬قبل‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ .‬يتملكني‭ ‬شعور‭ ‬غريب‭ ‬وكأن‭ ‬الحبات‭ ‬كائنات‭ ‬حية‭ ‬تُصلى‭ ‬فتستغيث‭! ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬أضعها‭ ‬في‭ ‬قِدر‭ ‬تيفال‭ ‬وأضيف‭ ‬إليها‭ ‬الملح‭ ‬والزبدة‭ ‬أو‭ ‬الكراميل‭ ‬وأغطيه،‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬قليلة‭ ‬أضعها‭ ‬في‭ ‬منخل‭ ‬وأحركه‭ ‬فوق‭ ‬النار،‭ ‬وهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬هي‭ ‬الأكثر‭ ‬إثارةً‭ ‬لذلك‭ ‬الشعور‭ ‬الغريب‭ ‬لأن‭ ‬الفشار‭ ‬يتطاير‭ ‬أمام‭ ‬عينيّ‭ ‬مكتوياً‭ ‬بالنار‭ .‬لكن‭ ‬أمي‭ ‬تقرّعني‭ ‬دائماً‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬وتقول‭ ‬لي‭ ‬اتبقى‭ ‬متخلفاً،‭ ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تستخدم‭ ‬آلة‭ ‬التحميص‭ ‬الكهربائية؟ب‭.‬

يقال‭ ‬إن‭ ‬موطن‭ ‬الذرة‭ ‬الأصلي‭ ‬هو‭ ‬جنوب‭ ‬المكسيك،‭ ‬وهذا‭ ‬سبب‭ ‬آخر‭ ‬لحبي‭ ‬لها،‭ ‬فأنا‭ ‬من‭ ‬عشّاق‭ ‬الحضارة‭ ‬الأزتيكية‭ ‬والساحل‭ ‬الكاريبي‭ .‬في‭ ‬الصيف‭ ‬الماضي‭ ‬قضيت‭ ‬أسبوعين‭ ‬رائعين‭ ‬برفقة‭ ‬صديقتي‭ ‬كارين‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬اكانكونب،‭ ‬عروس‭ ‬البحر،‭ ‬المرادف‭ ‬اسمها‭ ‬لعش‭ ‬الثعبان‭ ‬بالعربية‭ .‬كم‭ ‬كانت‭ ‬ساحرةً‭ ‬بغاباتها‭ ‬الكثيفة‭ ‬وأدغالها‭ ‬ورمالها‭ ‬الذهبية‭ ‬ومياه‭ ‬شطآنها‭ ‬التي‭ ‬تتغير‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬لون‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الواحد‭.‬

كان‭ ‬جدّ‭ ‬أبي،‭ ‬الذي‭ ‬أفضّل‭ ‬أن‭ ‬أسميه‭ ‬جدي‭ ‬الأول‭ ‬تمييزاً‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬جدي‭ ‬الثاني‭ ‬‭(‬والد‭ ‬أبي‭)‬،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬غرس‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬توفي‭ ‬قبل‭ ‬مولدي‭ ‬بربع‭ ‬قرن،‭ ‬لكن‭ ‬جدّي‭ ‬الثاني‭ ‬طالما‭ ‬حدّثني‭ ‬عنه‭ ‬وعن‭ ‬هيامه‭ ‬بالمكسيك‭ ‬وأديبها‭ ‬كارلوس‭ ‬فوينتس‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬الثانوية‭ ‬ليشجعني‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬كاتباً‭ ‬مثله،‭ ‬لكني‭ ‬فشلت‭ ‬فدرست‭ ‬الهندسة‭ ‬المعمارية‭ .‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يجيد‭ ‬اللغة‭ ‬الإسبانية‭ ‬بطلاقة‭ ‬‭(‬تخصص‭ ‬فيها‭ ‬بالجامعة‭)‬،‭ ‬ومتماهياً‭ ‬بروايات‭ ‬فوينتس،‭ ‬ويوم‭ ‬علم‭ ‬بوفاته‭ ‬ذرف‭ ‬دموعاً‭ ‬عليه‭ ‬وكأنه‭ ‬يبكي‭ ‬غياب‭ ‬حبيبته،‭ ‬وكتب‭ ‬عنه‭ ‬مقالاً‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الرثاء‭ ‬ومهاجمة‭ ‬لجنة‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬بسبب‭ ‬تجاهلها‭ ‬له‭.‬

انتابتني،‭ ‬وأنا‭ ‬عائد‭ ‬من‭ ‬اعمّانب،‭ ‬أمنية‭ ‬غريبة،‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬جدّي‭ ‬الأول‭ ‬يجلس‭ ‬إلى‭ ‬جانبي‭ ‬ليرى‭ ‬كيف‭ ‬تبدو‭ ‬البنايات‭ ‬العالية‭ ‬والأبراج‭ ‬في‭ ‬االرماديب‭ ‬وبسامراءب‭ ‬وببيجيب‭ ‬بحجم‭ ‬حبات‭ ‬الفشار،‭ ‬فيسترجع‭ ‬أحوالها‭ ‬البائسة‭ ‬أيام‭ ‬شبابه‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬دون‭ ‬قرى‭ ‬اليوم،‭ ‬يحلم‭ ‬أهلها‭ ‬المساكين‭ ‬بقليل‭ ‬من‭ ‬الكهرباء‭ ‬والماء‭ ‬والأمان‭ ‬تحت‭ ‬عسف‭ ‬حكومة‭ ‬فاشلة‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬تمزيق‭ ‬البلد‭ ‬وعودة‭ ‬النفوذ‭ ‬الأجنبي‭.‬

آه‭ ‬يا‭ ‬جدّي‭ ‬الأول،‭ ‬كنتَ‭ ‬فخراً‭ ‬لأبنائك‭ ‬وبناتك‭ ‬وإخوتك‭ .‬رواياتك‭ ‬السبع‭ ‬يعتبرها‭ ‬النقاد‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬كلاسيكيات‭ ‬السرد‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يمض‭ ‬على‭ ‬صدورها‭ ‬قرن‭ .‬ربما‭ ‬من‭ ‬حقهم‭ ‬ذلك،‭ ‬خاصةً‭ ‬أن‭ ‬أشكالاً‭ ‬سرديةً‭ ‬رقميةً‭ ‬عجيبةً‭ ‬تسود‭ ‬عصرنا‭ ‬الآن،‭ ‬وأصبح‭ ‬فيه‭ ‬الكتاب‭ ‬الورقي‭ ‬من‭ ‬مخلفات‭ ‬الماضي‭.‬

أرجو‭ ‬أن‭ ‬تطمئن‭ ‬روحك‭ ‬علينا،‭ ‬فنحن‭ ‬لم‭ ‬نتخلّ‭ ‬عن‭ ‬سعينا‭ ‬إلى‭ ‬الاستقلال‭ ‬وإدارة‭ ‬مملكتنا‭ ‬بأنفسنا،‭ ‬لكن‭ ‬ليس‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬العنف‭ ‬المسلّح‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬بل‭ ‬بالمقاومة‭ ‬السلمية‭ ‬كما‭ ‬يسميها‭ ‬غاندي،‭ ‬لأن‭ ‬الامتناع‭ ‬عن‭ ‬المعاقبة‭ ‬لا‭ ‬يُعدّ‭ ‬غفراناً‭ ‬إلاّ‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬المعاقبة‭ ‬قائمة‭ ‬فعلياً،‭ ‬وهي‭ ‬موجودة‭ ‬عندنا،‭ ‬ولن‭ ‬نستخدمها‭ ‬إلاّ‭ ‬إذا‭ ‬عجز‭ ‬الخيار‭ ‬السلمي‭.‬

هل‭ ‬تعلم‭ ‬أن‭ ‬المتغيّرات‭ ‬التي‭ ‬حدثت‭ ‬منذ‭ ‬وفاتك‭ ‬اقتصرت‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الجوانب‭ ‬المادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والثقافية‭ ‬في‭ ‬حياتنا؟‭ ‬خذ‭ ‬بلدتك‭ ‬االحويجةب،‭ ‬مثلاً،‭ ‬التي‭ ‬نزفتَ‭ ‬دماً،‭ ‬أيام‭ ‬شبابك،‭ ‬دفاعاَ‭ ‬عن‭ ‬أهلها‭ ‬في‭ ‬اعتصامها‭ ‬الشهير‭ ‬قد‭ ‬أصبحت‭ ‬مدينةً‭ ‬عصريةً‭ ‬كبيرةً‭ ‬بعدما‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬محافظة،‭ ‬وزحفت‭ ‬باتجاه‭ ‬الغرب،‭ ‬مبتلعةً‭ ‬قراها‭ ‬من‭ ‬االمنصوريةب‭ ‬وبالسليمانب‭ ‬وبالأمينةب‭ ‬حتى‭ ‬الزاكةب‭ ‬وبتل‭ ‬عليب‭ ‬وبشاووكب‭ ‬وبالفاخرةب‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬االزابب،‭ ‬لتغدو‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬أحيائها،‭ ‬وصارت‭ ‬شوارعها‭ ‬فسيحةً،‭ ‬وحدائقها‭ ‬تغمرها‭ ‬الورود،‭ ‬وازداد‭ ‬عدد‭ ‬النساء‭ ‬السافرات‭ ‬فيها،‭ ‬بل‭ ‬قلّما‭ ‬تجد‭ ‬واحدةً‭ ‬ترتدي‭ ‬الحجاب‭ ‬اليوم،‭ ‬وأنشئت‭ ‬فيها‭ ‬بحيرة‭ ‬اصطناعية‭ ‬يحيطها‭ ‬منتجع‭ ‬سياحي‭ ‬ذو‭ ‬طراز‭ ‬تراثي،‭ ‬ومسابح‭ ‬مختلطة،‭ ‬ومراكز‭ ‬رياضية‭ ‬وثقافية،‭ ‬ومسرح‭ ‬أشرفت‭ ‬على‭ ‬بنائه‭ ‬بنفسي‭ .‬قبل‭ ‬مدة‭ ‬شجّعت‭ ‬أحد‭ ‬المخرجين‭ ‬المشتغلين‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬تكييف‭ ‬روايتك‭ ‬االحويجة‭ ‬تعرج‭ ‬إلى‭ ‬السماءب‭ ‬إلى‭ ‬مسرحية،‭ ‬فوعدني‭ ‬بأنه‭ ‬سيعمل‭ ‬عليها‭ .‬والحق‭ ‬يُقال‭ ‬إن‭ ‬المحافظ،‭ ‬رغم‭ ‬خضوعه‭ ‬للإرادة‭ ‬البريطانية،‭ ‬يبذل‭ ‬جهوداً‭ ‬كبيرةً‭ ‬لتطوير‭ ‬المدينة‭ .‬أما‭ ‬النهر‭ ‬فقد‭ ‬جرى‭ ‬توسيعه‭ ‬كثيراً،‭ ‬وازداد‭ ‬تدفق‭ ‬المياه‭ ‬من‭ ‬المنبع‭ ‬إلى‭ ‬حوضه،‭ ‬وتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬مقصد‭ ‬للسياح‭ ‬يقضون‭ ‬في‭ ‬شاليهاته‭ ‬ومطاعمه‭ ‬العائمة‭ ‬أجمل‭ ‬السهرات،‭ ‬وينطلقون‭ ‬بالتكسيات‭ ‬النهرية‭ ‬السريعة‭ ‬في‭ ‬نزهات‭ ‬ليلية‭ ‬ونهارية‭ ‬من‭ ‬مرساه‭ ‬في‭ ‬شاطئ‭ ‬شاووك‭.‬

في‭ ‬آخر‭ ‬الشتاء‭ ‬هبطنا‭ ‬أنا‭ ‬وكارين‭ ‬بطائرتها‭ ‬الجو‭ ‬مائية‭ ‬الصغيرة‭ ‬على‭ ‬سطحه‭ ‬الرقراق‭ ‬عند‭ ‬منحدر‭ ‬اأبو‭ ‬الصوفب‭ ‬‭(‬كانت‭ ‬تحبّ‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬لأنه‭ ‬يذكرها‭ ‬بمدينتها‭ ‬برادفورد‭ ‬التي‭ ‬عُرفت‭ ‬قبل‭ ‬قرن‭ ‬ونصف‭ ‬بعاصمة‭ ‬الصوف‭ ‬في‭ ‬العالم‭)‬،‭ ‬وكادت‭ ‬تصطدم‭ ‬بزورق‭ ‬مرق‭ ‬كالسهم‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬جناح‭ ‬الطائرة،‭ ‬لحظتها‭ ‬شعرتُ‭ ‬برعب‭ ‬شديد،‭ ‬فلو‭ ‬حدث‭ ‬أن‭ ‬اصطدمت‭ ‬به‭ ‬لتحول‭ ‬قائده‭ ‬إلى‭ ‬أشلاء،‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬كيف‭ ‬تذكرت‭ ‬موقفاً‭ ‬مشابها‭ ‬لبطل‭ ‬روايتك‭ ‬انهر‭ ‬الشتاءب‭ ‬الذي‭ ‬كاد‭ ‬يدهس‭ ‬راعي‭ ‬غنم‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬الترابي‭ ‬الموصل‭ ‬بين‭ ‬البلدة‭ ‬وإحدى‭ ‬القرى،‭ ‬لكنه‭ ‬تمالك‭ ‬نفسه‭ ‬وأوقف‭ ‬سيارته‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬ليتنفس‭ ‬الصعداء‭ ‬ويستعيد‭ ‬توازنه‭.‬

أما‭ ‬الوضع‭ ‬الجيوسياسي‭ ‬فقد‭ ‬بقي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عليه،‭ ‬فلا‭ ‬تزال‭ ‬حدود‭ ‬المملكة‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬أطراف‭ ‬اكركوكب‭ ‬الغربية‭ ‬شرقاً‭ ‬إلى‭ ‬محافظة‭ ‬االعقبةب‭ ‬غرباً‭ ‬وقضاءي‭ ‬االنخيبب‭ ‬وبجرف‭ ‬الصخرب‭ ‬جنوباً،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬ما‭ ‬برحت‭ ‬المنطقة‭ ‬الشمالية‭ ‬من‭ ‬االعماديةب‭ ‬شرقاً‭ ‬إلى‭ ‬ادمشقب‭ ‬غرباً‭ ‬والحدود‭ ‬التركية‭ ‬شمالاً‭ ‬تحت‭ ‬النفوذ‭ ‬الفرنسي‭.‬

منذ‭ ‬عدة‭ ‬أشهر‭ ‬وأنا‭ ‬أؤجل‭ ‬قراءة‭ ‬مذكراتك‭ ‬يا‭ ‬جدّي،‭ ‬أغلب‭ ‬أحفادك‭ ‬قرأها‭ ‬إلاّ‭ ‬أنا،‭ ‬كنت‭ ‬منشغلاً‭ ‬عنها‭ ‬بسفراتي‭ ‬المتكررة‭ ‬لإنجاز‭ ‬مشروعي‭ ‬في‭ ‬اعمّانب‭ ‬دار‭ ‬اأوبرا‭ ‬فيلادلفياب‭ .‬عثر‭ ‬أبي‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬مؤخراً‭ ‬بعد‭ ‬اختفائه‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬عمي‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً‭ .‬إنه‭ ‬مجلد‭ ‬تجليداً‭ ‬فاخراً‭ ‬يقيه‭ ‬من‭ ‬التلف‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬قرون‭ .‬أعدك‭ ‬بأنني‭ ‬سأباشر‭ ‬بقراءته‭ ‬قريباً‭.‬

(2)

في‭ ‬الربيع‭ ‬يحلو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أجلس‭ ‬في‭ ‬شرفة‭ ‬بيتنا‭ ‬المطلّ‭ ‬على‭ ‬النهر،‭ ‬خاصةً‭ ‬في‭ ‬المساء‭ .‬أضع‭ ‬كأسي‭ ‬وإناءً‭ ‬بّلورياً‭ ‬معبأً‭ ‬بالفستق‭ ‬والكاجو‭ ‬على‭ ‬الحافة‭ ‬العريضة‭ ‬للشرفة،‭ ‬وأستمتع‭ ‬برائحة‭ ‬السمك‭ ‬المشوي‭ ‬التي‭ ‬تهبّ‭ ‬من‭ ‬مطاعم‭ ‬الشاطئ،‭ ‬وانعكاس‭ ‬المصابيح‭ ‬الملونة‭ ‬على‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬الجهة‭ ‬المقابلة‭ ‬من‭ ‬النهر،‭ ‬والأغاني‭ ‬المنبعثة‭ ‬من‭ ‬الزوارق‭.‬

قبل‭ ‬أيام‭ ‬أخرجت‭ ‬مذكرات‭ ‬جدّي‭ ‬من‭ ‬مخبئها،‭ ‬وشرعت‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬منها‭ ‬مع‭ ‬أول‭ ‬جرعة‭ ‬من‭ ‬كأسي‭ .‬ياه‭! ‬مضى‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬على‭ ‬تصفحي‭ ‬لكتاب‭ ‬ورقي‭ .‬في‭ ‬صفحته‭ ‬الأولى‭ ‬يشير‭ ‬جدّي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المذكرات‭ ‬تغطي‭ ‬أعوامه‭ ‬الواقعة‭ ‬بين‭ ‬2003‭ ‬و‭ ‬2045،‭ ‬أي‭ ‬منذ‭ ‬احتلال‭ ‬المارينز‭ ‬لبغداد‭ ‬حتى‭ ‬بداية‭ ‬انهيار‭ ‬أميركا‭ ‬وهجرة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬سكانها‭ ‬إلى‭ ‬كندا،‭ ‬واحتلال‭ ‬الصين‭ ‬موقع‭ ‬الدولة‭ ‬العظمى‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬مروراً‭ ‬بانتهاء‭ ‬الحكم‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬ونضوب‭ ‬البترول‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬وحرب‭ ‬المياه‭ ‬بين‭ ‬تركيا‭ ‬والعراق‭ ‬قبل‭ ‬إعلان‭ ‬دولة‭ ‬كردستان‭ ‬على‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬أراضيهما‭.‬

قاطعتني‭ ‬كارين‭ ‬عن‭ ‬مواصلة‭ ‬القراءة‭ .‬جاءت‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬فجأةً‭ ‬لتخبرني‭ ‬بأنها‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تسافر‭ ‬إلى‭ ‬ابرادفوردب‭ ‬لحضور‭ ‬مراسم‭ ‬دفن‭ ‬جدّتها،‭ ‬وأوكلت‭ ‬إدارة‭ ‬المنتجع‭ ‬السياحي‭ ‬الذي‭ ‬تمتلك‭ ‬حصةً‭ ‬كبيرةً‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬مساعدتها‭ ‬هيلاري،‭ ‬ووعدتني‭ ‬بألاّ‭ ‬تتأخر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أسبوعين‭.‬

تعود‭ ‬علاقتي‭ ‬بكارين‭ ‬إلى‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ .‬تصغرني‭ ‬قليلاً،‭ ‬لكنها‭ ‬تبدو‭ ‬صبيةَ‭ ‬بسبب‭ ‬نعومتها‭ ‬واعتنائها‭ ‬بصحتها‭ ‬وممارستها‭ ‬للرياضة‭ ‬يومياً‭ .‬تعتز‭ ‬كثيراً‭ ‬بانتمائها‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا،‭ ‬وقد‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المنتجع،‭ ‬من‭ ‬ثروتها‭ ‬التي‭ ‬ورثتها‭ ‬عن‭ ‬أبيها،‭ ‬على‭ ‬قطعة‭ ‬أرض‭ ‬استُأجرت‭ ‬لمدة‭ ‬ثلاثين‭ ‬عاماً،‭ ‬وهي‭ ‬تحفظ‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬قصائد‭ ‬الشعراء‭ ‬الإنجليز‭ ‬القدامى‭ ‬مثل‭: ‬بيليك،‭ ‬بايرون،‭ ‬ووردز‭ ‬وورث،‭ ‬وشيلي‭ .‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬مازحتني‭ ‬قائلةً‭ ‬اكان‭ ‬أجدادك‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنهم‭ ‬أخرجوا‭ ‬بريطانيا‭ ‬العظمى‭ ‬من‭ ‬بلدهم‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬ولم‭ ‬يخطر‭ ‬ببالهم‭ ‬أنها‭ ‬ستعود‭ ‬إليهم‭ ‬بعد‭ ‬قرن‭ ‬بثوب‭ ‬جديدب،‭ ‬فأجبتها‭ ‬انعم،‭ ‬عادت‭ ‬ترتدي‭ ‬ثوباً‭ ‬مصنوعاً‭ ‬من‭ ‬نسيج‭ ‬مدينتك،‭ ‬لكنه‭ ‬سيهترئ‭ ‬حتماً‭ ‬وتغادر‭ ‬عاريةً‭ ‬هذه‭ ‬المرةب‭ .‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬صارت‭ ‬كلمة‭ ‬اعاريةب‭ ‬تذكّرها‭ ‬بتلك‭ ‬المزحة‭ ‬كلما‭ ‬مارسنا‭ ‬الحب،‭ ‬وخاصةً‭ ‬لما‭ ‬أهمس‭ ‬في‭ ‬أذنها‭ ‬اكم‭ ‬تبدين‭ ‬صبيةً‭ ‬يا‭ ‬حلوتي‭ ‬حينما‭ ‬تكونين‭ ‬عاريةًب‭.‬

مضت‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬على‭ ‬سفر‭ ‬كارين،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تحادثني،‭ ‬اتصلت‭ ‬بها‭ ‬مرات‭ ‬كثيرةً‭ ‬فوجدت‭ ‬جهازها‭ ‬معطّلاً،‭ ‬لا‭ ‬صوت‭ ‬ولا‭ ‬صورة‭ ‬وكأن‭ ‬شحنه‭ ‬قد‭ ‬نفد‭ .‬في‭ ‬المرتين‭ ‬الأولى‭ ‬والثانية‭ ‬لم‭ ‬ينتبني‭ ‬إحساس‭ ‬بالقلق،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬تملكتني‭ ‬الوساوس،‭ ‬خاصةً‭ ‬أن‭ ‬آخر‭ ‬اتصال‭ ‬بيني‭ ‬وبينها‭ ‬انقطع‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الجو‭ .‬يومها‭ ‬أخبرتني‭ ‬أن‭ ‬طائرتها‭ ‬على‭ ‬مشارف‭ ‬نهر‭ ‬اهمبرب،‭ ‬وحدثتني‭ ‬قليلاً‭ ‬عنه‭ ‬قائلةً‭ ‬إنه‭ ‬يفصل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬مقاطعتين‭ ‬تاريخيتين‭ ‬في‭ ‬إنجلترا‭ ‬هما‭ ‬ايوركشيرب‭ ‬وبلينكونشيرب،‭ ‬ويربط‭ ‬بين‭ ‬ضفتيه‭ ‬جسر‭ ‬معلق‭ ‬يبلغ‭ ‬عمره‭ ‬نحو‭ ‬قرن‭ ‬ونصف‭.‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬سفرها‭ ‬استنجدت‭ ‬بهيلاري‭ ‬لمعرفة‭ ‬أخبارها‭ .‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬مكتبها‭ ‬في‭ ‬المنتجع‭ ‬فاستقبلتني‭ ‬بوجه‭ ‬يكسوه‭ ‬الحزن،‭ ‬شعرت‭ ‬لحظتها‭ ‬بانقباض‭ ‬في‭ ‬صدري،‭ ‬لكني‭ ‬لم‭ ‬أشأ‭ ‬أن‭ ‬أعزو‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أمر‭ ‬مفجع،‭ ‬بل‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬اربما‭ ‬تكون‭ ‬متعبةً‭ ‬بسبب‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬تعرّضت‭ ‬إلى‭ ‬وعكة‭ ‬صحيةب‭.‬

لم‭ ‬تتفاجأ‭ ‬هيلاري‭ ‬بزيارتي،‭ ‬هكذا‭ ‬شعرت،‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬ما‭ ‬اعتدت‭ ‬أن‭ ‬أتردد‭ ‬على‭ ‬المكتب‭ ‬سابقاً‭ ‬لئلا‭ ‬أشغل‭ ‬كارين‭ ‬عن‭ ‬عملها،‭ ‬وكانت‭ ‬كل‭ ‬لقاءاتي‭ ‬بها‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬أماكننا‭ ‬الأثيرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يتطفّل‭ ‬فيها‭ ‬أحد‭ ‬علينا‭ .‬وأيقنت‭ ‬بأن‭ ‬هيلاري‭ ‬أدركت‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬عدم‭ ‬علمي‭ ‬بأخبار‭ ‬كارين‭ ‬ولذا‭ ‬جئت‭ ‬إليها‭ ‬لأسألها‭ ‬عنها‭ .‬حاولت‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬أن‭ ‬تشغل‭ ‬نفسها‭ ‬عني‭ ‬بأمور‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬المنتجع،‭ ‬لكني‭ ‬حينما‭ ‬أطلت‭ ‬البقاء‭ ‬عندها،‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬لديها‭ ‬ما‭ ‬تفتعله‭ ‬حول‭ ‬العمل،‭ ‬اضطرت‭ ‬إلى‭ ‬التفرغ‭ ‬لي،‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬خطر‭ ‬على‭ ‬بالها‭ ‬أن‭ ‬تحدثني‭ ‬عن‭ ‬المشاكل‭ ‬التي‭ ‬تواجهها‭ ‬في‭ ‬المنتجع‭ ‬وعدم‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬حلها‭ ‬وحدها،‭ ‬فأسرعتُ‭ ‬إلى‭ ‬القول‭:‬

‭ ‬ذ‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬كارين‭ ‬طبعاً‭.‬

أربكها‭ ‬ردي‭ ‬فأجابت‭:‬

‭-‬‭ ‬طبعاً،‭ ‬طبعاً‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أقصده‭.‬

‭-‬‭ ‬هل‭ ‬لديك‭ ‬أخبار‭ ‬عنها؟

ارتبكت‭ ‬أكثر‭ ‬وقالت‭:‬

‭-‬‭ ‬ألم‭ ‬تتصل‭ ‬بها‭ ‬أو‭ ‬تتصل‭ ‬بك؟

‭-‬‭ ‬جهازها‭ ‬لا‭ ‬يعمل‭ ‬منذ‭ ‬أسبوع،‭ ‬هل‭ ‬حاولتِ‭ ‬الاتصال‭ ‬بها‭ ‬أنتِ‭ ‬أيضاً؟

‭ ‬ذ‭ ‬نعم،‭ ‬لكن‭ ‬جهازها‭ ‬مثلما‭ ‬قلتَ‭.‬

‭ ‬ذ‭ ‬ألم‭ ‬تتصلي‭ ‬بأحد‭ ‬من‭ ‬أهلها‭ ‬أو‭ ‬معارفها؟

صمتت‭ ‬قليلاً،‭ ‬ثم‭ ‬أسبلت‭ ‬عينيها‭ ‬وأخذت‭ ‬تفرك‭ ‬أصابعها،‭ ‬فنهضتُ‭ ‬من‭ ‬مقعدي‭ ‬ووضعت‭ ‬يديّ‭ ‬على‭ ‬مكتبها،‭ ‬وقلت‭ ‬بصوت‭ ‬منكسر‭:‬

‭-‬‭ ‬هيلاري،‭ ‬أنت‭ ‬تخفين‭ ‬عني‭ ‬أمراً،‭ ‬هل‭ ‬أصاب‭ ‬كارين‭ ‬مكروه؟

رفعت‭ ‬رأسها‭ ‬إليً‭ ‬وتمتمت‭ ‬قائلةً‭:‬

‭-‬‭ ‬ماذا‭ ‬أقول‭ ‬لك؟‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬تتلقى‭ ‬الخبر‭ ‬بهدوء‭.‬

‭ ‬ذ‭ ‬سأفعل،‭ ‬تكلمي‭.‬

‭ ‬ذ‭ ‬طائرتها‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬نهر‭ ‬همبر‭ ‬وغرقت‭.‬

هويت‭ ‬على‭ ‬المقعد‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬المفاجأة،‭ ‬وبسطت‭ ‬كفيّ‭ ‬على‭ ‬رأسي،‭ ‬فنهضت‭ ‬هيلاري‭ ‬من‭ ‬مكانها‭ ‬وتقدمت‭ ‬إليّ‭ ‬وشرعت‭ ‬تواسيني،‭ ‬كما‭ ‬تواسي‭ ‬أمّا‭ ‬ثكلى،‭ ‬فقلت‭ ‬بجرس‭ ‬متهدّج‭:‬

‭-‬‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬أجواء‭ ‬ذلك‭ ‬النهر‭ ‬حينما‭ ‬انقطع‭ ‬الاتصال‭ ‬بيني‭ ‬وبينها‭ .‬لكن‭ ‬كيف؟‭ ‬كيف‭ ‬سقطت‭ ‬الطائرة؟

‭ ‬ذ‭ ‬أخبروني‭ ‬بأن‭ ‬إشعاعاً‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يعرف‭ ‬مصدره‭ ‬فجّرها‭ ‬فهوت‭ ‬إلى‭ ‬الماء‭.‬

‭-‬‭ ‬هل‭ ‬انتشلوا‭ ‬جثتها؟

‭ ‬ذ‭ ‬لم‭ ‬يعثروا‭ ‬عليها،‭ ‬لكن‭ ‬أهلها‭ ‬أقاموا‭ ‬لها‭ ‬قبراً‭ ‬رمزياً‭.‬

(3)

كان‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أسافر‭ ‬إلى‭ ‬ابرادفوردب‭ ‬لأضع‭ ‬باقة‭ ‬ورد‭ ‬على‭ ‬قبر‭ ‬كارين‭ .‬رافقتني‭ ‬هيلاري‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ ‬إلى‭ ‬لندن،‭ ‬وتركت‭ ‬إدارة‭ ‬المنتجع‭ ‬للمدير‭ ‬التنفيذي،‭ ‬ابن‭ ‬عمي‭ ‬سليم‭ ‬صاحب‭ ‬الأرض،‭ ‬الذي‭ ‬يطمح‭ ‬إلى‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬حصة‭ ‬فيه،‭ ‬وينتمي‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬يعمل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحرير‭ ‬المملكة‭ ‬من‭ ‬نفوذ‭ ‬بريطانيا‭.‬

في‭ ‬الطائرة‭ ‬شعرت‭ ‬بأن‭ ‬هيلاري‭ ‬تحاول‭ ‬التودّد‭ ‬إليّ،‭ ‬ولمّحت‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أمحو‭ ‬الأثر‭ ‬الفاجع‭ ‬الذي‭ ‬خلّفه‭ ‬فقدان‭ ‬كارين‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬وأجدَ‭ ‬من‭ ‬تعوضني‭ ‬عنها،‭ ‬وتملأ‭ ‬حياتي‭ ‬متعةً‭ ‬وسعادةً،‭ ‬لكني‭ ‬تجاهلت‭ ‬ذلك،‭ ‬وفتحت‭ ‬مذكرات‭ ‬جدّي‭ ‬ورحت‭ ‬أقرأ‭ ‬فصلاً‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬مشاركته‭ ‬في‭ ‬اعتصام‭ ‬االحويجةب‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬أما‭ ‬هي‭ ‬فقد‭ ‬بدا‭ ‬الاستياء‭ ‬واضحاً‭ ‬على‭ ‬ملامحها،‭ ‬رغم‭ ‬استغرابها‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬كتاب‭ ‬ورقي‭ ‬في‭ ‬يدي،‭ ‬وأخرجت‭ ‬من‭ ‬حقيبتها‭ ‬كومبيوتراً‭ ‬ليزرياً‭ ‬صغيراً‭ ‬ذا‭ ‬رأسين،‭ ‬وجهت‭ ‬إشعاع‭ ‬أحدهما‭ ‬إلى‭ ‬ظهر‭ ‬المقعد‭ ‬أمامها‭ ‬ليتحول‭ ‬إلى‭ ‬شاشة‭ ‬زرقاء،‭ ‬وسلّطت‭ ‬إشعاع‭ ‬الثاني‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬الطعام‭ ‬لتحصل‭ ‬على‭ ‬لوح‭ ‬ضوئي‭ ‬أحمر‭ ‬للكتابة،‭ ‬وشرعت‭ ‬تتصفح‭ ‬مجلةً‭ ‬إلكترونية‭ ‬مخزنةً‭ .‬اختلست‭ ‬نظرةً‭ ‬إلى‭ ‬غلافها‭ ‬فإذا‭ ‬بها‭ ‬تحمل‭ ‬عنوان‭ ‬انساء‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬والعشرينب‭.‬

أرفق‭ ‬جدّي‭ ‬بداية‭ ‬ذلك‭ ‬الفصل‭ ‬بصور‭ ‬عن‭ ‬الاعتصام‭ ‬يظهر‭ ‬في‭ ‬إحداها‭ ‬حاملاً‭ ‬مع‭ ‬رفيقه‭ ‬يافطةً‭ ‬كُتب‭ ‬عليها‭ ‬اكفى‭ ‬طائفيةً‭ ‬يا‭ ‬دولة‭ ‬القانونب،‭ ‬وإلى‭ ‬جانبهما‭ ‬صبيّ‭ ‬يرفع‭ ‬بذراعيه‭ ‬يافطةً‭ ‬صغيرة‭ ‬كتب‭ ‬عليها‭ ‬الن‭ ‬نرحل‭ ‬يا‭ ‬هالكي‭ ‬حتى‭ ‬ترحلب،‭ ‬ويقصد‭ ‬بذلك‭ ‬نوري‭ ‬المالكي‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬العراق‭ ‬آنذاك‭ .‬وفي‭ ‬صفحة‭ ‬أخرى‭ ‬صورة‭ ‬لمانشيت‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬بالبنط‭ ‬الكبير‭ ‬االحويجة‭ ‬تشتعل‭ ‬بعد‭ ‬اقتحام‭ ‬ساحة‭ ‬الاعتصام‭ ‬فيها‭ ‬ومقتل‭ ‬وإصابة‭ ‬المئات،‭ ‬والعشائر‭ ‬تعلن‭ ‬الاستنفارب،‭ ‬وتحت‭ ‬المانشيت‭ ‬موجز‭ ‬للخبر‭ ‬يقول‭ ‬ابدأت‭ ‬قوات‭ ‬الجيش‭ ‬التابعة‭ ‬لعمليات‭ ‬دجلة‭ ‬المعزّزة‭ ‬بأسلحة‭ ‬ثقيلة‭ ‬وطائرات‭ ‬مروحية،‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬الخامسة‭ ‬من‭ ‬فجر‭ ‬أمس،‭ ‬عملية‭ ‬اقتحام‭ ‬لساحة‭ ‬الاعتصام‭ ‬في‭ ‬الحويجة،‭ ‬وقامت‭ ‬بإطلاق‭ ‬النار‭ ‬على‭ ‬المعتصمين‭ ‬وحرق‭ ‬خيمهم‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬مقتل‭ ‬وإصابة‭ ‬العشرات‭ ‬منهم،‭ ‬في‭ ‬خطوة‭ ‬وصفت‭ ‬بـبغير‭ ‬الحكيمةب‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كبريات‭ ‬الأحزاب‭ ‬والشخصيات‭ ‬السياسية‭ ‬وشيوخ‭ ‬العشائر‭ ‬ورجال‭ ‬دينب‭.‬

استغرقت‭ ‬الرحلة‭ ‬من‭ ‬مطار‭ ‬االحويجةب‭ ‬إلى‭ ‬إنجلترا‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات‭ ‬ونصف‭ ‬الساعة،‭ ‬لم‭ ‬يفارقني‭ ‬فيها‭ ‬هاجس‭ ‬سقوط‭ ‬طائرة‭ ‬كارين‭ .‬توجهنا‭ ‬مباشرةً‭ ‬من‭ ‬مطار‭ ‬اغاتوكب‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬اكروليب‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬أهلها‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬اهاكنيب‭ ‬بلندن‭ .‬في‭ ‬المترو‭ ‬حدثتني‭ ‬عنها‭ ‬قائلةً‭ ‬إنها‭ ‬منطقة‭ ‬راقية‭ ‬الآن،‭ ‬لكنها‭ ‬قبل‭ ‬مئة‭ ‬عام‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المناطق‭ ‬حرماناً‭ ‬في‭ ‬إنجلترا،‭ ‬وانتشاراً‭ ‬للجريمة،‭ ‬واحتواءً‭ ‬على‭ ‬المصابين‭ ‬بمرَضي‭ ‬الإيدز‭ ‬والشيزوفرينيا‭.‬

وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬خمس‭ ‬دقائق،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬استقبالنا‭ ‬أبوها‭ ‬وأختها‭ ‬الصغرى‭ ‬اسونياب‭ .‬ما‭ ‬إن‭ ‬دلفت‭ ‬إلى‭ ‬صالة‭ ‬الضيوف‭ ‬حتى‭ ‬لفتت‭ ‬انتباهي‭ ‬لوحة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الجدار‭ ‬المواجه‭ ‬ثُبّتت‭ ‬عليها‭ ‬ثلاثة‭ ‬مثلثات‭ ‬خشبية‭ ‬خضراء‭ ‬اللون‭ ‬متداخلة‭ ‬الأضلاع،‭ ‬تشكّل‭ ‬نجمةً‭ ‬تساعيةً‭ ‬تشبه‭ ‬بلدة‭ ‬بالمانوفا‭ ‬الإيطالية‭ ‬من‭ ‬الجو،‭ ‬ولم‭ ‬أعرف‭ ‬إلى‭ ‬ماذا‭ ‬ترمز‭ ‬إلاّ‭ ‬حينما‭ ‬أوضحت‭ ‬لي‭ ‬هيلاري‭ ‬أنها‭ ‬شعار‭ ‬ديانتهم‭ ‬البهائية‭ .‬وفي‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬توجهنا‭ ‬إلى‭ ‬برادفورد‭ ‬بالقطار‭ ‬الشمسي‭ ‬السريع،‭ ‬وعزينا‭ ‬أهل‭ ‬كارين،‭ ‬ووضعنا‭ ‬باقتي‭ ‬ورد‭ ‬على‭ ‬قبرها‭.‬

عقب‭ ‬موت‭ ‬كارين‭ ‬امتنعتُ‭ ‬نهائياً‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬سيارتي‭ ‬الطائرة‭ ‬في‭ ‬تنقلاتي‭ ‬الداخلية،‭ ‬بعتها‭ ‬لأحد‭ ‬أصدقائي،‭ ‬وصرت‭ ‬أستخدم‭ ‬القطار‭ ‬الكهربائي،‭ ‬فوجدت‭ ‬فيه‭ ‬متعةً‭ ‬كبيرة‭ ‬وهو‭ ‬يقلّني،‭ ‬في‭ ‬ساعتين‭ ‬إلى‭ ‬عمّان‭ ‬لمتابعة‭ ‬مشروع‭ ‬دار‭ ‬الأوبرا‭ .‬وبقيت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬صديقة،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هيلاري‭ ‬ظلت‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الحلول‭ ‬محل‭ ‬كارين‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬لكني‭ ‬لم‭ ‬أستجب‭ ‬لها‭ ‬احتراماً‭ ‬للصداقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تربطهما،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬أنها‭ ‬تكبرني‭ ‬ببضع‭ ‬سنين‭ .‬وكنا‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬ذلك‭ ‬نلتقي‭ ‬باستمرار،‭ ‬وسوينا‭ ‬أمر‭ ‬انتقال‭ ‬حصة‭ ‬كارين‭ ‬في‭ ‬المنتجع‭ ‬إلى‭ ‬أهلها‭.‬

(4)


لوحة: عناية البخاري

ذات‭ ‬يوم،‭ ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬شهراً‭ ‬على‭ ‬رحيل‭ ‬كارين،‭ ‬وجدتني‭ ‬أحلم‭ ‬بأنني‭ ‬نائم‭ ‬في‭ ‬سريري،‭ ‬وأمي‭ ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬توقظتني‭:‬

‭-‬‭ ‬سلام،‭ ‬كفى‭ ‬نوماً‭ .‬كارين‭ ‬بانتظارك‭ ‬في‭ ‬الصالة‭.‬

قفزت‭ ‬كالملدوغ‭ ‬من‭ ‬السرير‭:‬

‭-‬‭ ‬ماذا‭ ‬قلتِ؟‭ ‬مستحيل‭!‬

‭-‬‭ ‬كارين‭ ‬عندنا‭ ‬وتريد‭ ‬أن‭ ‬تراك‭ .‬أين‭ ‬كانت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المدة؟

لم‭ ‬تكن‭ ‬أمي‭ ‬تعلم‭ ‬بموتها،‭ ‬تعمّدت‭ ‬ألاّ‭ ‬أخبرها‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تلح‭ ‬عليّ‭ ‬بالزواج‭ ‬من‭ ‬ابنة‭ ‬أختها‭.‬

‭ ‬ذ‭ ‬هل‭ ‬أنتِ‭ ‬متأكدة‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬امرأة‭ ‬أخرى‭ ‬تشبهها؟

‭-‬‭ ‬مثل‭ ‬تأكدي‭ ‬من‭ ‬أنك‭ ‬أمامي‭ ‬الآن؟

‭-‬‭ ‬عجيب؟

‭-‬‭ ‬هل‭ ‬كانت‭ ‬زعلانةً‭ ‬منك؟

‭-‬‭ ‬لا،‭ ‬ربما،‭ ‬لا‭ ‬أدري،‭ ‬لم‭ ‬أرها‭ ‬مذ‭ ‬سافرت‭ ‬إلى‭ ‬أهلها‭.‬

خرجت‭ ‬من‭ ‬غرفتي‭ ‬بلباس‭ ‬النوم‭ ‬مسرعاً،‭ ‬وكدت‭ ‬أسقط‭ ‬على‭ ‬وجهي‭ ‬وأنا‭ ‬أهبط‭ ‬الدرج‭ ‬إلى‭ ‬الصالة‭ .‬كانت‭ ‬تجلس‭ ‬في‭ ‬مواجهتي‭ ‬تماماً،‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬هي،‭ ‬لكنها‭ ‬تغيرت‭ ‬قليلاً،‭ ‬أصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬نحافةً،‭ ‬وشعرها‭ ‬الأشقر،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬ينسدل‭ ‬على‭ ‬كتفيها،‭ ‬صار‭ ‬قصيراً‭ ‬ومصبوغاً‭ ‬بصبغة‭ ‬بنية‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬الحمراء،‭ ‬وتخلّت‭ ‬عن‭ ‬الشورت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬لباسها‭ ‬المفضل،‭ ‬وارتدت‭ ‬تنورةً‭ ‬طويلةً‭ .‬قلت‭ ‬مشدوهاً،‭ ‬وأنا‭ ‬أضع‭ ‬قدمي‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬بينما‭ ‬لا‭ ‬زالت‭ ‬تفصلني‭ ‬عنها‭ ‬مسافة‭ ‬عشرة‭ ‬أمتار‭:‬

‭-‬‭ ‬كارين‭! ‬حقاً؟

نهضت‭ ‬وأجابت‭ ‬بصوت‭ ‬تشوبه‭ ‬بحة‭:‬

‭-‬‭ ‬مفاجأة‭ ‬كبيرة،‭ ‬أليس‭ ‬كذلك؟

قلت‭:‬

‭ ‬ذ‭ ‬بل‭ ‬صدمة‭ ‬كبيرة‭.‬

أخذتها‭ ‬بين‭ ‬أحضاني،‭ ‬وقبلت‭ ‬فمها‭ ‬ووجنتيها‭ ‬بنهم،‭ ‬غير‭ ‬مصدق‭ ‬أنني‭ ‬ألمس‭ ‬امرأةً‭ ‬وضعتُ‭ ‬على‭ ‬قبرها‭ ‬باقة‭ ‬ورد‭:‬

‭ ‬ذ‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬أسألك‭ .‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬الأمر‭ ‬مثل‭ ‬حلم‭ ‬أو‭ ‬كابوس‭.‬

لم‭ ‬أستطع‭ ‬أن‭ ‬أكمل‭ ‬كلامي،‭ ‬فبادرت‭ ‬كارين‭ ‬إلى‭ ‬القول‭:‬

‭-‬‭ ‬هل‭ ‬تذكر‭ ‬حينما‭ ‬انقطع‭ ‬الاتصال‭ ‬بيني‭ ‬وبينك‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬الطائرة؟

‭-‬‭ ‬نعم،‭ ‬قلتِ‭ ‬لي‭ ‬أنك‭ ‬تطيرين‭ ‬لحظتها‭ ‬فوق‭ ‬نهر‭ ‬همبر‭.‬

‭-‬‭ ‬كان‭ ‬عدد‭ ‬الركاب‭ ‬في‭ ‬الطائرة‭ ‬لا‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬خمسة‭ ‬وعشرين‭ ‬راكباً،‭ ‬وفجأةً‭ ‬شعرنا‭ ‬بهبوط‭ ‬شيء‭ ‬ثقيل‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الطائرة،‭ ‬فانتابنا‭ ‬الرعب،‭ ‬وتعطلت‭ ‬جميع‭ ‬أجهزة‭ ‬الاتصال‭ ‬فيها‭ .‬وبعد‭ ‬دقائق‭ ‬فتحت‭ ‬نوافذ‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬سقفها‭ ‬ونزلت‭ ‬منها‭ ‬مجموعة‭ ‬مخلوقات‭ ‬تفوق‭ ‬البشر‭ ‬طولاً،‭ ‬ترتدي‭ ‬أقنعةً‭ ‬تنبعث‭ ‬منها‭ ‬إشعاعات‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬غشت‭ ‬أبصارنا‭ .‬حملتنا‭ ‬المخلوقات‭ ‬من‭ ‬مقاعدنا‭ ‬بخفة‭ ‬ورفعتنا‭ ‬عبر‭ ‬النوافذ‭ ‬إلى‭ ‬داخل‭ ‬المركبة‭ ‬التي‭ ‬هبطت‭ ‬منها،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬اكتمل‭ ‬عددنا‭ ‬حتى‭ ‬تحركت‭ ‬من‭ ‬مكانها،‭ ‬وبعد‭ ‬عدة‭ ‬ثوانٍ‭ ‬سمعنا‭ ‬انفجاراً‭ ‬تحتنا‭ .‬لم‭ ‬تصدر‭ ‬المخلوقات‭ ‬أيّ‭ ‬أصوات‭ ‬لنتبين‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬لغة‭ ‬تتحدث‭ ‬بها،‭ ‬لكن‭ ‬كانت‭ ‬تنبعث‭ ‬داخل‭ ‬المركبة‭ ‬موسيقى‭ ‬غريبة‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬أن‭ ‬أميز‭ ‬الآلات‭ ‬التي‭ ‬تعزفها‭.‬

لا‭ ‬أدري‭ ‬كم‭ ‬لبثنا‭ ‬ونحن‭ ‬مرميين‭ ‬في‭ ‬المركبة،‭ ‬يلاصق‭ ‬أحدنا‭ ‬الآخر،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ترشّ‭ ‬علينا‭ ‬المخلوقات‭ ‬غازاً‭ ‬ذا‭ ‬رائحة‭ ‬نفاذة‭ ‬أعاد‭ ‬لنا‭ ‬أبصارنا‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬لكنه‭ ‬مسح‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬ذاكرتنا،‭ ‬ولم‭ ‬نعد‭ ‬نعرف‭ ‬بعضنا‭ ‬بعضاً‭ ‬وكأننا‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬واحدة،‭ ‬وصار‭ ‬أحدنا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الآخر‭ ‬باستغراب‭ .‬ثم‭ ‬أخذ‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المخلوقات‭ ‬يشير‭ ‬إلينا‭ ‬بأن‭ ‬نجلس‭ ‬في‭ ‬مقاعد‭ ‬فُتحت‭ ‬تواً‭ ‬بجهاز‭ ‬تحكم‭ ‬على‭ ‬جانبي‭ ‬المركبة‭ ‬ففعلنا‭ .‬كانت‭ ‬حقيبتي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬كتفي‭ ‬فأخرجت‭ ‬منها‭ ‬هاتفي‭ ‬لأعرف‭ ‬الوقت،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يشتغل،‭ ‬وحاول‭ ‬آخرون‭ ‬أن‭ ‬يفتحوا‭ ‬هواتفهم‭ ‬وأجهزة‭ ‬اتصال‭ ‬أخرى‭ ‬كانوا‭ ‬يحملونها‭ ‬في‭ ‬جيوبهم‭ ‬فلم‭ ‬يفلحوا‭.‬

بعد‭ ‬مضي‭ ‬وقت،‭ ‬خمنت‭ ‬أنه‭ ‬ساعة‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬بقليل،‭ ‬وزع‭ ‬علينا‭ ‬أحد‭ ‬المخلوقات‭ ‬حبةً‭ ‬حمراء‭ ‬بحجم‭ ‬فاكهة‭ ‬المعجزة‭ ‬(Miracle Fruit)‭ ‬أو‭ ‬البلح،‭ ‬كان‭ ‬طعمها‭ ‬يشبه‭ ‬طعم‭ ‬العنب،‭ ‬وتذوب‭ ‬في‭ ‬الحلق‭ ‬بسهولة،‭ ‬فذهب‭ ‬عنا‭ ‬الجوع،‭ ‬ثم‭ ‬جلب‭ ‬لنا‭ ‬ثلاثة‭ ‬آخرون‭ ‬بطانيات‭ ‬مغلفة‭ ‬وحقائب‭ ‬مليئة‭ ‬بأدوية‭ ‬وأمصال‭ ‬ومعدات‭ ‬طبية،‭ ‬وملابس‭ ‬نسائية‭ ‬ورجالية‭ ‬غريبة‭ ‬ذات‭ ‬طراز‭ ‬قديم‭ ‬وأمرونا‭ ‬بأن‭ ‬نخلع‭ ‬ملابسنا‭ ‬ونرتديها‭ .‬كانت‭ ‬حصتنا‭ ‬نحن‭ ‬النساء‭ ‬السبع‭ ‬ضمن‭ ‬المجموعة‭ ‬ثياباً‭ ‬طويلة‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬أقدامنا،‭ ‬وقطعتي‭ ‬قماش‭ ‬لكل‭ ‬واحدة‭ ‬منا‭ ‬إحداها‭ ‬قطنية‭ ‬تشبه‭ ‬الكاب،‭ ‬والثانية‭ ‬من‭ ‬الشيفون‭ ‬لنغطي‭ ‬بهما‭ ‬رؤوسنا‭ ‬وصدورنا‭ .‬تصورت‭ ‬لحظتها‭ ‬أننا‭ ‬مُساقات‭ ‬لتمثيل‭ ‬شخصيات‭ ‬نساء‭ ‬مسلمات‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬سينمائي‭ ‬تدور‭ ‬أحداثه‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬غابر‭ .‬حين‭ ‬انتهينا‭ ‬من‭ ‬ارتدائها‭ ‬شعرنا‭ ‬بأن‭ ‬المركبة‭ ‬بدأت‭ ‬تهبط‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬ما،‭ ‬إلاّ‭ ‬أن‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬نوافذ‭ ‬فيها‭ ‬حال‭ ‬دون‭ ‬تمكننا‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬ملامحه‭ .‬ثم‭ ‬فُتح‭ ‬أحد‭ ‬أبوابها،‭ ‬وسلّم‭ ‬قائد‭ ‬المخلوقات،‭ ‬مغلفاً‭ ‬لأحد‭ ‬رجالنا،‭ ‬وأشار‭ ‬إلينا‭ ‬بالنزول‭ .‬كان‭ ‬الليل‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬دامس‭ ‬الظلمة،‭ ‬إلاّ‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬نجوم‭ ‬صغيرة‭ ‬متناثرة‭ ‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬ضوؤها‭ ‬الشحيح‭ ‬ينير‭ ‬المكان،‭ ‬ورحنا‭ ‬نتدافع‭ ‬في‭ ‬الخروج‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬أملاً‭ ‬في‭ ‬الانعتاق‭ ‬من‭ ‬خاطفينا‭ .‬وما‭ ‬إن‭ ‬وضع‭ ‬آخر‭ ‬شخص‭ ‬قدميه‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬حتى‭ ‬أغلقت‭ ‬المركبة‭ ‬بابها‭ ‬وارتفعت‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬بسرعة‭ ‬فائقة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نلمح‭ ‬على‭ ‬هيكلها‭ ‬أيّ‭ ‬ضوء‭.‬

كان‭ ‬الجو‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬البرودة،‭ ‬والمكان‭ ‬الذي‭ ‬أنزلتنا‭ ‬المركبة‭ ‬فيه‭ ‬معشوشباً،‭ ‬فطلب‭ ‬منا‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬استلم‭ ‬المغلف،‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬كابتن‭ ‬طائرتنا‭ ‬المنكوبة،‭ ‬ألاّ‭ ‬نبرحه‭ ‬حتى‭ ‬ينبلج‭ ‬الصباح‭ ‬ثم‭ ‬نقرر‭ ‬ماذا‭ ‬نفعل،‭ ‬فلبى‭ ‬الجميع‭ ‬طلبه،‭ ‬واستلقى‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬بقعة‭ ‬اختارها‭ ‬ليغفو‭ ‬فيها،‭ ‬واضعاً‭ ‬رأسه‭ ‬على‭ ‬حقيبته‭ ‬الطبية‭ .‬من‭ ‬بعيد‭ ‬جداً‭ ‬كان‭ ‬يلوح‭ ‬شريط‭ ‬ضوئي‭ ‬ضعيف‭ ‬محاذٍ‭ ‬للأرض‭ ‬لم‭ ‬نستطع‭ ‬أن‭ ‬نخمّن‭ ‬ماذا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭.‬

في‭ ‬الفجر‭ ‬تناهت‭ ‬إلى‭ ‬أسماعنا‭ ‬أصوات‭ ‬إطلاقات‭ ‬نارية‭ ‬بعيدة‭ ‬رافقتها‭ ‬حزمات‭ ‬ضوئية‭ ‬في‭ ‬السماء،‭ ‬فشعر‭ ‬بعض‭ ‬منا‭ ‬بالقلق‭ ‬وطار‭ ‬النوم‭ ‬من‭ ‬عينيه،‭ ‬بينما‭ ‬تجاهلها‭ ‬بعضنا‭ ‬الآخر‭ ‬وظل‭ ‬غارقاً‭ ‬في‭ ‬نومه‭.‬

استفاق‭ ‬الجميع‭ ‬عند‭ ‬شروق‭ ‬الشمس،‭ ‬وتجمعوا‭ ‬حول‭ ‬حامل‭ ‬المغلف‭ ‬ليعرفوا‭ ‬ماذا‭ ‬يحتوي،‭ ‬وحين‭ ‬فتحه‭ ‬وجد‭ ‬فيه‭ ‬ورقةً‭ ‬مكتوبةً‭ ‬بحروف‭ ‬غريبة‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬قراءتها،‭ ‬فخطفها‭ ‬من‭ ‬يده‭ ‬رجل‭ ‬أكبرنا‭ ‬سناً‭ ‬وألقى‭ ‬نظرةً‭ ‬عليها‭ ‬وقال‭:‬

‭ ‬ذ‭ ‬إنها‭ ‬كتابة‭ ‬سومرية‭ ‬بحروف‭ ‬مسمارية‭ ‬وأنا‭ ‬متخصص‭ ‬بها‭.‬

فصاح‭ ‬الجميع‭ ‬فرحين‭:‬

‭-‬‭ ‬ماذا‭ ‬تنتظر؟‭ ‬ترجمها‭ ‬لنا‭.‬

شرع‭ ‬الرجل‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬بترجمتها‭ ‬قائلاً‭ ‬اننتظركم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬نفسه‭ ‬مساءً‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬بالضبط‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬لتواصلوا‭ ‬رحلتكم‭ .‬أنتم‭ ‬حالياً‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬بلدة‭ ‬اسمها‭ ‬الحويجة‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬العراق،‭ ‬وقد‭ ‬تحررت‭ ‬توّاً‭ ‬من‭ ‬سيطرة‭ ‬تنظيم‭ ‬إرهابي‭ ‬يسمى‭ ‬داعش‭ .‬لكن‭ ‬كونوا‭ ‬حذرين‭ ‬لأن‭ ‬الحرب‭ ‬لم‭ ‬تنته‭ ‬بعد،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬التنظيم‭ ‬متمركزين‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬الغربي‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ .‬مهمتكم‭ ‬هي‭ ‬إنقاذ‭ ‬مئات‭ ‬المصابين‭ ‬بالغازات‭ ‬بواسطة‭ ‬الأمصال‭ ‬التي‭ ‬زودناكم‭ ‬بها‭ .‬سيدربكم‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الأطباء‭ ‬الثلاثة‭ ‬الموجودون‭ ‬معكم‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ .‬وتقبلوا‭ ‬خالص‭ ‬أمنيات‭ ‬الأنانوكي‭ ‬وأمنياتنا‭ ‬نحن‭ ‬أعضاء‭ ‬منظمة‭ ‬إيتانا‭ ‬الفضائية‭ ‬بأن‭ ‬تنجحوا‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬مهمتكم‭.‬

صمتت‭ ‬كارين‭ ‬برهةً‭ ‬ثم‭ ‬قالت‭:‬

‭-‬‭ ‬بالطبع‭ ‬لم‭ ‬ندرك‭ ‬أنهم‭ ‬أعادونا‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬مائة‭ ‬سنة‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬بسبب‭ ‬فقدان‭ ‬ذاكرتنا‭.‬

‭-‬‭ ‬أنانوكي؟‭ ‬إيتانا؟

سألت‭ ‬مستغرباً،‭ ‬ثم‭ ‬أردفت‭:‬

‭-‬‭ ‬أمر‭ ‬محيّر،‭ ‬الأنانوكي‭ ‬هم‭ ‬مجلس‭ ‬الآلهة‭ ‬في‭ ‬أساطير‭ ‬بلادنا‭ ‬القديمة‭ ‬ميزوبوتاميا،‭ ‬وإيتانا‭ ‬اسم‭ ‬ملك‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬أسطورة‭ ‬بابلية‭ ‬أنه‭ ‬عرج‭ ‬على‭ ‬ظهر‭ ‬نسر‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬ليجلب‭ ‬دواءً‭ ‬لزوجته‭ ‬العاقر‭.‬

قالت‭ ‬كارين‭:

‭-‬‭ ‬ربما‭ ‬احتجزته‭ ‬إحدى‭ ‬الإلاهات‭ ‬وتزوجته،‭ ‬ولعل‭ ‬هذه‭ ‬المنظمة‭ ‬يديرها‭ ‬أحفاده،‭ ‬والدواء‭ ‬الذي‭ ‬أرسلوه‭ ‬للبشر‭ ‬هو‭ ‬تعويض‭ ‬عما‭ ‬فات‭ ‬زوجة‭ ‬جدهم‭.‬

‭ ‬ذ‭ ‬شيء‭ ‬عجيب‭ .‬لماذا‭ ‬اختاروا‭ ‬معالجة‭ ‬ناس‭ ‬من‭ ‬عصر‭ ‬مضى‭ ‬عليه‭ ‬زمن‭ ‬طويل،‭ ‬وهم‭ ‬موتى‭ ‬الآن،‭ ‬وفي‭ ‬مكان‭ ‬هو‭ ‬منطقتنا‭ ‬بالذات؟

‭-‬‭ ‬لا‭ ‬أدري،‭ ‬ربما‭ ‬لأننا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬وأرادوا‭ ‬أن‭ ‬يكشفوا‭ ‬لنا‭ ‬عن‭ ‬ماضيها‭.‬

‭-‬‭ ‬يا‭ ‬إلهي‭! ‬تُرى‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬جدي‭ ‬الأول‭ ‬مِن‭ ‬بين‭ ‬مَن‭ ‬عالجتموهم؟‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬مذكراته‭ ‬إنه‭ ‬أصيب‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬تحرير‭ ‬البلدة‭ ‬من‭ ‬التنظيم‭ ‬الذي‭ ‬ذكرت‭ ‬اسمه؟

‭-‬‭ ‬نعم‭ ‬كان‭ ‬بينهم‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬الحويجة‭ ‬العام‭ .‬أنت‭ ‬تشبهه‭ ‬كثيراً‭ .‬عالجته‭ ‬بنفسي،‭ ‬وأهداني‭ ‬رواية‭ ‬له‭ ‬بعنوان‭ ‬انهر‭ ‬الشتاءب‭.‬

‭-‬‭ ‬إنه‭ ‬هو‭ ‬بالضبط‭ ‬صاحب‭ ‬المذكرات‭ ‬التي‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬حدّثتك‭ ‬عنها،‭ ‬وعندي‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ .‬ليتني‭ ‬كنت‭ ‬معك‭ ‬لأراه‭.‬

‭-‬‭ ‬لو‭ ‬كنتَ‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬الرحلة‭ ‬لتحققت‭ ‬أمنيتك‭.‬

‭-‬‭ ‬كيف‭ ‬وجدتِ‭ ‬المدينة،‭ ‬أقصد‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬بلدةً‭ ‬صغيرةً،‭ ‬وهل‭ ‬رأيت‭ ‬الزاب‭ ‬والمكان‭ ‬الذي‭ ‬يقع‭ ‬فيه‭ ‬المنتجع‭ ‬الآن؟

‭-‬‭ ‬ذاكرتي‭ ‬كانت‭ ‬ممسوحة‭ ‬كما‭ ‬قلت‭ ‬لك،‭ ‬فلم‭ ‬أعلم‭ ‬أنني‭ ‬عائدة‭ ‬من‭ ‬شرفة‭ ‬المستقبل‭ ‬إلى‭ ‬خزانة‭ ‬الماضي‭ ‬كي‭ ‬أقارن‭ ‬بين‭ ‬البلدة‭ ‬والمدينة‭ ‬الآن،‭ ‬أو‭ ‬أتذكر‭ ‬النهر‭ ‬والبحيرة‭ ‬والمنتجع‭ .‬وجدتها‭ ‬بلدةً‭ ‬متعبةً‭ ‬جداً‭ ‬بسبب‭ ‬الإهمال‭ ‬والمعارك‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬فيها،‭ ‬شوارعها‭ ‬وحواريها‭ ‬محفّرة‭ ‬ومغبرة‭ ‬تشوهها‭ ‬العجلات‭ ‬العسكرية‭ ‬والمدنية‭ ‬المحترقة،‭ ‬وآثار‭ ‬القصف،‭ ‬وآلاف‭ ‬الأسلاك‭ ‬الكهربائية،‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬مولدات‭ ‬كهربائية‭ ‬تعمل‭ ‬بالوقود‭ ‬إلى‭ ‬بيوت‭ ‬سكانها‭ ‬البسطاء‭ ‬الطيبين‭ ‬الكرماء‭ .‬أما‭ ‬النهر‭ ‬فكان‭ ‬يبعد‭ ‬عن‭ ‬البلدة‭ ‬نحو‭ ‬عشرين‭ ‬كيلومتراً،‭ ‬رأيته‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬كانت‭ ‬تنتشر‭ ‬على‭ ‬ضفافه‭ ‬أدغال‭ ‬وحقول‭ ‬زراعية‭ ‬وقرى‭ ‬صغيرة‭ ‬بعض‭ ‬بيوتها‭ ‬مبني‭ ‬بالطين،‭ ‬وقيل‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬ماءه‭ ‬ملوث‭ ‬بسبب‭ ‬مخلفات‭ ‬مقالع‭ ‬الحجارة‭ ‬ومعامل‭ ‬البلوك‭ ‬ومياه‭ ‬شبكات‭ ‬الصرف‭ ‬الصحي‭ ‬للبلدات‭ ‬الصغيرة‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬ضفافه‭.‬

‭-‬‭ ‬كيف‭ ‬استدلّيتم‭ ‬على‭ ‬البلدة‭ ‬بعدما‭ ‬قرأتم‭ ‬رسالة‭ ‬المنظمة؟

‭-‬‭ ‬عقب‭ ‬وقت‭ ‬قصير‭ ‬أحاطت‭ ‬بنا‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬السيارات‭ ‬الحكومية‭ ‬وأخذتنا‭ ‬إليها‭ .‬لكن‭ ‬مَن‭ ‬أعلمَ‭ ‬المسؤولين‭ ‬الحكوميين‭ ‬بوجودنا،‭ ‬أو‭ ‬هل‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬مسبق‭ ‬بمجيئنا؟‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ .‬أسكنوني‭ ‬أنا‭ ‬وبقية‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬ذي‭ ‬طابقين‭ ‬بجانب‭ ‬المستشفى،‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬مولدة‭ ‬كهربائية‭ ‬خاصة،‭ ‬ووزعوا‭ ‬الرجال‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬بيوت‭ ‬أخرى‭ .‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭ ‬دربنا‭ ‬الأطباء‭ ‬على‭ ‬العمل،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أجروا‭ ‬فحوصات‭ ‬لقسم‭ ‬من‭ ‬المصابين‭ .‬وخلال‭ ‬أشهر‭ ‬شفي‭ ‬بعضهم‭ ‬وغادر‭ ‬المستشفى،‭ ‬وظل‭ ‬آخرون‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬عناية‭ ‬وعلاج‭ ‬مستمر‭ ‬مدةً‭ ‬أطول‭.‬

في‭ ‬البداية‭ ‬عانينا‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬جفاف‭ ‬الحياة‭ ‬وسوء‭ ‬الخدمات‭ ‬وصعوبة‭ ‬التأقلم‭ ‬مع‭ ‬الناس،‭ ‬وأصيب‭ ‬عدد‭ ‬منا‭ ‬بالكآبة،‭ ‬لكننا‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭ ‬اعتدنا‭ ‬على‭ ‬العيش،‭ ‬وصرنا‭ ‬نسلّي‭ ‬أنفسنا‭ ‬بقراءة‭ ‬الكتب‭ ‬الإنجليزية‭ ‬التي‭ ‬جلبوها‭ ‬لنا،‭ ‬ومشاهدة‭ ‬القنوات‭ ‬الفضائية‭ .‬وحدث‭ ‬مرتين‭ ‬أن‭ ‬حاول‭ ‬مسلحون‭ ‬من‭ ‬تنظيم‭ ‬داعش‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬البلدة،‭ ‬لكن‭ ‬قوات‭ ‬من‭ ‬الجيش‭ ‬والعشائر‭ ‬تصدوا‭ ‬لهم‭ ‬وقضوا‭ ‬عليهم‭.‬

الروائي،‭ ‬الذي‭ ‬فهمت‭ ‬الآن‭ ‬أنه‭ ‬جد‭ ‬أبيك،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬الذين‭ ‬استجابت‭ ‬أجسامهم‭ ‬للعلاج‭ ‬بسرعة،‭ ‬وقد‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬زيارتي‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬كل‭ ‬أسبوع،‭ ‬والاتصال‭ ‬بي‭ ‬هاتفياً‭ ‬باستمرار‭ .‬هل‭ ‬تصدق‭ ‬أنه‭ ‬أحبني؟‭ ‬كان‭ ‬دمثاً‭ ‬جداً‭ ‬وذا‭ ‬قلب‭ ‬كبير‭ ‬وثقافة‭ ‬موسوعية،‭ ‬لكنه‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬أدب‭ ‬أميركا‭ ‬اللاتينية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬الأوروبي،‭ ‬رغم‭ ‬أنه،‭ ‬كما‭ ‬قال،‭ ‬قرأ‭ ‬لكبار‭ ‬الكتّاب‭ ‬الإنجليز‭ ‬والألمان‭ ‬والفرنسيين‭ ‬والروس،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬بمقدوري‭ ‬أن‭ ‬أجاريه‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬لأن‭ ‬ذاكرتي‭ ‬كانت‭ ‬ممسوحة‭ ‬تماماً‭ .‬مرةً‭ ‬جلب‭ ‬لي‭ ‬مجلةً‭ ‬وفتح‭ ‬إحدى‭ ‬صفحاتها،‭ ‬ودعاني‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬فقرةً‭ ‬فيها‭ ‬وضع‭ ‬تحتها‭ ‬خطاً‭ ‬بقلمه،‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬وزيراً‭ ‬بريطانياً‭ ‬مستعد‭ ‬للتضحية‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬والممالك،‭ ‬لكنه‭ ‬غير‭ ‬مستعد‭ ‬للتضحية‭ ‬بمسرحية‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬مسرحيات‭ ‬شكسبير‭ .‬وشرح‭ ‬لي‭ ‬مَن‭ ‬تكون‭ ‬بريطانيا‭ ‬ومكانة‭ ‬شكسبير‭ ‬في‭ ‬أدبها،‭ ‬ثم‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬تعليق‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬أسفل‭ ‬الصفحة‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭: ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬قول‭ ‬الوزير‭ ‬ينطوي‭ ‬على‭ ‬نزعة‭ ‬كولونيالية‭ ‬تستهين‭ ‬بالشعوب‭ ‬الأخرى،‭ ‬فإنه‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬اعتزاز‭ ‬الإنجليز‭ ‬بمبدعهم‭ ‬الكبير‭ ‬شكسبير‭ .‬تُرى‭ ‬هل‭ ‬سنقرأ‭ ‬يوما‭ ‬كلاماً‭ ‬لوزير‭ ‬عراقي‭ ‬يقول‭: ‬مستعد‭ ‬للتضحية‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬اأمواليب،‭ ‬لكني‭ ‬لست‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬للتضحية‭ ‬بديوان‭ ‬شاعر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬شعرائنا؟

يوم‭ ‬ودعته‭ ‬لأعود‭ ‬مع‭ ‬جماعتي‭ ‬إلى‭ ‬المركبة،‭ ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬عام‭ ‬كامل‭ ‬على‭ ‬وجودنا‭ ‬في‭ ‬البلدة،‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬عنواناً‭ ‬بريدياً‭ ‬أو‭ ‬إلكترونياً‭ ‬كي‭ ‬يتواصل‭ ‬معي،‭ ‬فزودته‭ ‬للأسف‭ ‬بعنوان‭ ‬وهمي،‭ ‬عندها‭ ‬دس‭ ‬ورقةً‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬ومضى‭ .‬حين‭ ‬فتحتها‭ ‬وجدت‭ ‬أنه‭ ‬دون‭ ‬فيها‭ ‬بقلم‭ ‬أحمر‭ ‬االمرأة‭ ‬أمّ‭ ‬الخيال،‭ ‬أمّ‭ ‬الآلهة،‭ ‬لديها‭ ‬بصيرة،‭ ‬أجنحة‭ ‬تمكنها‭ ‬من‭ ‬التحليق‭ ‬إلى‭ ‬اللامتناهي‭ .‬في‭ ‬عالم‭ ‬الرغبة‭ ‬والخيال،‭ ‬الآلهة‭ ‬مثل‭ ‬الرجال‭ ‬يولدون‭ ‬ويموتون‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬امرأةب‭.‬

قاطعت‭ ‬كارين‭ ‬قائلاً‭:‬

‭ ‬ذ‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬تحول‭ ‬ذاكرتك‭ ‬إلى‭ ‬صفحة‭ ‬بيضاء‭ ‬جعلها‭ ‬تحفظ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬شاهدته‭ ‬وسمعته‭ ‬وقرأته‭ ‬هناك‭.‬

‭-‬‭ ‬بل‭ ‬أفكر‭ ‬في‭ ‬تدوين‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬التجربة،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬سيقرأونه‭ ‬لن‭ ‬يصدقوا‭ ‬محتواه،‭ ‬بل‭ ‬سيعدّونه‭ ‬فانتازيا‭ ‬محضة‭.‬

‭-‬‭ ‬لا‭ ‬يهم‭ ‬يا‭ ‬كارين،‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬عرف‭ ‬بموتك‭ ‬سيصدقك،‭ ‬وأنا‭ ‬أكثرهم‭ ‬لأنك‭ ‬أنقذت‭ ‬حياة‭ ‬جدي‭ ‬وعشرات‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬بلدتي،‭ ‬وعليك‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬تقفي‭ ‬إلى‭ ‬جانبهم‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬حلمهم‭ ‬المشروع‭ .‬سأصطحبك‭ ‬غداً‭ ‬إلى‭ ‬اعمّانب‭ ‬لنحضر‭ ‬حفل‭ ‬افتتاح‭ ‬دار‭ ‬الأوبرا‭.‬

‭-‬‭ ‬اعذرني‭ ‬سلام،‭ ‬لا‭ ‬أستطيع،‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أبدأ‭ ‬فوراً‭ ‬بإجراءات‭ ‬بيع‭ ‬حصة‭ ‬أهلي‭ ‬في‭ ‬المنتجع‭ ‬لمن‭ ‬يشتريها‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‭.‬

‭-‬‭ ‬هل‭ ‬معنى‭ ‬هذا‭ ‬أنكِ؟

‭ ‬ذ‭ ‬لا،‭ ‬سأبقى‭ ‬هنا،‭ ‬لكني‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬صديقةً‭ ‬لك‭ ‬فقط،‭ ‬وربما‭ ‬زوجةً‭ ‬إن‭ ‬اتفقنا،‭ ‬وليس‭ ‬مسماراً‭ ‬في‭ ‬المشروع‭ ‬الاستعماري‭ ‬لحكومة‭ ‬بلدي‭.‬

أيقظني‭ ‬صوت‭ ‬أمي‭ ‬من‭ ‬النوم،‭ ‬مرةً‭ ‬أخرى،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬حقيقياً‭ ‬هذه‭ ‬المرة،‭ ‬فتحت‭ ‬عيني‭ ‬ونظرت‭ ‬إليها‭ ‬باستغراب،‭ ‬ثم‭ ‬تلمست‭ ‬جسدي‭ ‬والتفت‭ ‬يمنةً‭ ‬ويسرةً،‭ ‬فألفيت‭ ‬شباك‭ ‬غرفتي‭ ‬قد‭ ‬أزيحت‭ ‬عنه‭ ‬الستارة،‭ ‬وتسللت‭ ‬منه‭ ‬أشعة‭ ‬شمس‭ ‬الضحى‭ .‬قالت‭ ‬أمي‭:‬

‭-‬‭ ‬ما‭ ‬بك،‭ ‬هل‭ ‬كنت‭ ‬غارقاً‭ ‬في‭ ‬حلم‭ ‬وردي‭ ‬أم‭ ‬كابوس؟

‭ ‬ذ‭ ‬لا‭ ‬أدري‭.‬

‭-‬‭ ‬هيا‭ ‬استحم‭ ‬بسرعة‭ ‬وانزل‭ ‬إلى‭ ‬الصالة،‭ ‬ثمة‭ ‬امرأة‭ ‬بانتظارك‭ ‬تحمل‭ ‬لك‭ ‬مفاجأةً‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.