دعوة‭ ‬للتفكير‭ ‬النقدي

الأربعاء 2017/03/01

جاء الكتاب في قالب رسائل تحمل طابعاً شخصيّاً يتوجّه بها المؤلّف لأبنائه الذين ولِدوا ما بين عامي 2000 و2004 كما يذكر في مقدّمة كتابه، ويضمّنها آراءه الخاصة حول الكثير من القضايا الفكرية والدينية والاجتماعية التي تمسُّ معظم جوانب حياتنا وذلك في سياقٍ تساؤليّ يستعينُ بالكثير من الأمثلة المعيشة والغنيّة بالدلالة والرمزية.

في رسائله الكثيرة، يشدّد الأب (والدبلوماسي) لأبنائه الذين يخاطبهم على أهمية الإحاطة بمختلف وجهاتِ النظر التي تتعلّق بأيّ فكرةٍ قبل مناقشتها أو نقدها أو تبنِّيها، وأن تكون لديهم تصوّراتهم الخاصة المبنيّة على محاكمات وافية يخلصون إليها بأنفسهم بحيث تشكّلُ لهم مناعةً ضدّ أوبئة التطرّف والرؤية الأحادية المتشنّجة .ولا يتوقّف الكتاب عند تقديم النصح الأبوي أو الوصائيّ، إنّما يناقش قضايا إشكالية سياسية وفلسفية واجتماعية مثل «الحرب على الإرهاب» و”الإمبريالية الجديدة” و”أزمة السلطة في المجتمعات الإسلامية” وغيرها من الظواهر التي تواجه الفرد المسلم اليوم.

وكما نقرأ فإنَّ فكرة الكتاب القادحة جاءت بعد ولادةِ أول أطفال الكاتب بالتزامن مع وقوع هجمات 11 أيلول-سبتمبر في الولايات المتحدة الأميركية، منذ تلك اللحظة، يقول غبّاش “أدركت جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقي نحو هذا الطفل”، ورحتُ أفكّر كيف باستطاعتي أن أساهم عبر الفكر واللغة والأدب بتقديم ما من شأنه أن يعيد الثقة إلى العالم وإلى المجتمعات الإسلامية على حدّ سواء، بأنَّ لدينا الكثير لتقديمه للبشرية غير الأجيال المحبَطة والمتعصّبة.

يستند غبّاش إلى سيرته الشخصية في معالجةِ الكثير من محاور الكتاب ورسائله، وهو المولود لأبٍ عربيّ وأمٍّ روسية، وكان والده قد اغتيلَ حينَ أخطأهُ أحد المتحمّسين للقضيةِ الفلسطينية وأطلق النار عليه ظانّاً بأنّه الهدف من وراء عمليته التي يُعتقد بأنها كانت تستهدف سياسياً إسرائيليّاً آنذاك .كان غبّاش ما يزال طفلاً حينَ قُتِلَ أبوه، وفيما يبدو فإنّه أمضى وقتاً طويلاً وهو يتأمّلُ في النتائج المهولة التي جلبها العنف إلى حياته الشخصية وحياة أسرته كذلك.

يتحدّث غباش أربع لغات هي العربية والإنكليزية والروسية والفرنسية ولا شكّ بأنَّ امتيازاً كهذا يمنحُ المرء قدرةً على الإحاطة بالمسائل من عديد جوانبها ومن مناظير ثقافية مختلفة، إذ أنّ كلّ لغةٍ نتعلّمها هي بمثابة حياةٍ أخرى نحياها بتلك اللغة وبثقافة أهلها .ويقول “كلّما امتدّت فترة خدمتي في عملي كسفير، كلّما ازداد يقيني بقدرة الأفكار واللغة على جعل هذا العالم يبدو أفضل”.

يستهلُّ المؤلّفُ كتابه باستعادةٍ نوستالجيّةٍ لأياّم طفولته في دولة الإمارات قبلَ اكتمال نهضتها الحديثة، “كان أبناء جيلي عموماً إمّا من البدو الذين يسكنون الصحراء أو من الصيّادين الذين يعملون في صيد اللؤلؤ أو ممّن يتاجرون بالبضائع»، “كانت الأفكار تطوف من حولنا، إلاّ أنّها قلّما كانت على صلةٍ بالواقع»، “كان مفهوما ‘الحلال’ و’الحرام’ هما الأكثر شيوعاً في أذهاننا وحياتنا”، “وكان البالغون يصحبوننا معهم إلى صلاة الجمعة حيثُ يجلس الجميع بجانب بعضهم البعض، العامل والمليونير، كان المشهد في غاية الإمتاع لنا نحن الصّغار”، “لا شكّ في أنّنا أحببنا تلك الأفكار التي حدّثونا عنها في المدرسة، إلاّ أنّنا كنّا نتركها وننصرف إلى عالمٍ آخر لا يشبه تلك الأفكار التي بدت على النقيض من ذلك العالم، ولربّما كانت تلك أبرز نقاط ضعفها .كانت تلك حقبة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات حين كانت الحرب الأهلية اللبنانية تطحنُ الفرقاء اللبنانيين فيما اندلعت حربٌ أخرى بين دولتين مسلمَتين هما إيران والعراق .قيلَ لنا آنذاك بأنّ ‘الأمّةَ’ تدفع ثمن تخلّيها عن الدين السويّ وأنَّ الحل لاستعادة ‘مجد الأمّة’ هو في ‘العودة إلى الجذور’ أي أن نحيا على طريقة القرون السابقة .كان ذلك تناقضاً لا يحتمله عقل”، كما يقول غبّاش.

يشدّد الكاتب في رسائله/توصياته/نصائحه لأبنائه ولغيرهم من الشباب على أهمية أن نتصدّى للأسئلة التي قد يخبرنا البعض بأنها ليست ذات أهميّة أو أنّها لا تنطبق على سياقنا الثقافيّ، فالسؤال أداة العقل الأهم .وإلى جانب ما يبدو أنّها الفكرة الرئيسية التي تحاول الرسائل بلورَتَها بمنتهى الذكاء، وهي فكرةُ الاستقلالية الفردية عن كلّ ما من شأنه توظيف الذات البشرية لصالح منظومته القيمية الأحادية؛ ثمّة فكرةٌ أخرى تبرِزُها الرسائل بمنتهى الوضوح ألا وهي تجنّبُ التزام الصمت حينما يكون الكلام واجباً، فإلى جانب دعوتهم للحفاظ على استقلاليّتهم الفكرية والثقافية وبأن يفكِّروا لأنفسهم بدلاً من توكيل الآخرين بالقيام بهذه المهمّة بالغة الحساسيّة، إذ يخبرهم بأنّه ليس من المفترض أن يفكّر رجال الدين أو العلماء أو الدعاة أو سواهم بالنيابة عنّا، يحثُّ المؤلّف الأبناء ولربّما القرّاء على التمسّك بحقِّ التعبير والكلام موصياً ابنه بأنّه ليس عليك أن تصمت لأنّ أحداً ما يريد منك فعل ذلك، ولعلّ أهمية تلك النصيحة تبرز من خلال فصلِ كاملٍ يخصّصه لهذه النصيحة.

يعود الكاتب إلى سيرة طفولته في سردٍ دافئ لاستحضار أمثلةً أقرب لإدراك ابنه، فيسرد له بعضاً من الأمثلةِ حول أسئلته التي لم يتوانَ عن طرحها كلّما شعر بضرورة ذلك وعلى الرغم من أنّ غالبيّة المحيطين به من الكبار اعتادوا نهيَهُ عنها “لعدم جدواها”، خصوصاً إذا ما كانت تخصُّ الدين أو السياسة أو الجنس .“كنتُ أسألُ معلّم الدين: كيف تتأكّد بأنّ الله موجود؟ ولماذا نصلّي؟ وهل من المعقول أن يكون الله قد خلقنا لعبادته فقط، ألا يبدو الأمر أنانياً بعض الشيء؟ وغيرها من الأسئلة التي ألحّت على طفولتي” كما يقول الكاتب، وتحضُر تلك الأمثلة في معرضِ المناقشة الحصيفة التي نطالعها حول حوادث كحادثة مقتل رسّامي صحيفة شارل إيبدو الفرنسية على خلفية نشرها رسوماً مسيئةً للإسلام، حيث نلاحظ معالجةً “دبلوماسيّةً” ذكيّةً لمسألةٍ بالغة الحساسيّة.

“حينما ننظر إلى القدر المريع من العنف الذي يلفُّ البشرية -كما يقول- فإنَّ على نظرتنا تلك أن تتحلّى بالمسؤولية تجاه العالم الذي نحيا فيه وننتمي إليه، انظروا إلى العالم بمنظور المسؤولية .افعلوا الخير واهتمّوا بحاجات الآخرين من حولكم، تلك مسؤوليةٌ تقع في جوهر الإيمان الإسلامي ومنظومته القيمية .علينا أن نتحلّى بالمسؤولية عن السلام كجوهرٍ إسلاميّ”، ذلك ما يقوله الكاتب في إحدى رسائله لأبنائه.

يطرح الكتاب العديد من الآراء “الليبرالية” إذا ما جاز التعبير، إذ أنّه لا يتفق مع الكثير من الأدبيات الدينية التقليدية السائدة، والتي لم تخضع لما يلزم من النقد المنطقيّ ويؤكّد على حريّة المرأة ومساواتها غير المنقوصة بالرجل وأهميّة دورها في بناء المجتمع وتنميته، إذ يقول الكاتب لابنه الذي يستهلّ معظم رسائله له “حبيبي سيف إنّك محظوظ، فقد نشأتَ في أسرةٍ وفي زمنٍ تحظى فيه المرأة بالقوّة الكافية…”.

يجمع الكتاب ما بينَ حرص الأب وعنايته من جهة، وبين حصافة الدبلوماسي وذكائه في ملامسة أشدّ المسائل تعقيداً، كما يحفل بالكثير من التفاصيل الهامة والممتعة حول تاريخ المنطقة على نحوٍ عام، وتاريخ دولة الإمارات وتجربتها على نحوٍ خاص، كما أنّه يصلح لأن يكون رسائل للآباء أيضاً وليس للأبناء فقط، إذ تُشكّل مسألة تنشئة جيلٍ يستطيع تخطّي العقبات المتزايدة في عالمٍ تهيمِنُ عليه مناخاتٌ من الكراهية والاستقطاب الأيديولوجيّ والتطرّف والمشاكل الثقافية التي تأتي ظاهرة الإسلاموفوبيا في عدادِ أبرزها؛ أحد أبرز التحديات التي تواجه مجتمعاتنا اليوم.

يقول الكاتب في بداية الفصل الأول من الكتاب مخاطباً أكبر أبنائه “حبيبي سيف، لقد اعتدتَ على سؤالي لماذا أعمل على تأليف هذا الكتاب وما هي فكرته؟ أحياناً كنتُ أقول لك بأنَّني أكتبه من أجلك، وأحياناً من أجل أمثالك من الشباب المسلم، كنت أراك وأنت تكبر وأفكّر في التحديات التي واجهتها وسوف تواجهها، وفي بعض الأحيان كنتُ أرى في الكتاب رسائل أوجّهها لنفسي أيضاً”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.