فانتازيا‭ ‬الأحلام‭ ‬متلبسة‭ ‬بسريالية‭ ‬الواقع

الأربعاء 2017/03/01

‬تتضمن هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬أربع‭ ‬عشرة‭ ‬قصة‭ ‬قصيرة‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭ ‬“نكات‭ ‬للمسلحين”‭ ‬و”غراموفون”‭ ‬و”بسكويت”‭ ‬و”أكواريوم”و”برداية”‭ ‬و”سينما”‭ ‬و”نكتة”‭ ‬‮ ‬و”ماتادور”‭ ‬و”الحمال”‭ ‬و”برداية”،‭ ‬و”خوان‭ ‬وآوسا‭ ‬سيندروم”‭ ‬و”أحلام‭ ‬الآخرين”‭.‬

وتتميز‭ ‬“نكات‭ ‬للمسلحين”‭ ‬بكتابتها‭ ‬السيكولوجية‭ ‬السوسيولوجية‭ ‬حيث‭ ‬تغوص‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬وتقلباتها‭ ‬بطريقة‭ ‬فانتازية‭ ‬سريالية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الوقائع‭ ‬المتلبسة‭ ‬بالأحلام‭ ‬لطفل‭ ‬يعيش‭ ‬الحياة‭ ‬باندفاع‭ ‬وسخرية‭ ‬عميقة‭ ‬“حلمت‭ ‬بأن‭ ‬لأبي‭ ‬عينا‭ ‬زجاجية”،‭ ‬وراو‭ ‬يتلاعب‭ ‬بالأحداث‭ ‬وبنا‭ ‬وبالطفل‭ ‬فيخلق‭ ‬له‭ ‬عائلة‭ ‬غريبة‭ ‬بين‭ ‬أخ‭ ‬توأم‭ ‬أبكم‭ ‬لا‭ ‬يتكلم‭ ‬‮ ‬وأب‭ ‬ذي‭ ‬عين‭ ‬زجاجية‭ ‬يحاول‭ ‬اختراع‭ ‬النكات‭ ‬كي‭ ‬ينجو‭ ‬من‭ ‬براثن‭ ‬ومضايقة‭ ‬المسلحين‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬عودته‭ ‬من‭ ‬عمله،‭ ‬وأمّ‭ ‬متحولة‭ ‬متلونة‭ ‬فمرة‭ ‬هي‭ ‬أمّ‭ ‬مثالية‭ ‬ومرة‭ ‬هي‭ ‬مريضة‭ ‬نفسية‭ ‬تتردد‭ ‬على‭ ‬مصح‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬“أمي‭ ‬هادئة‭ ‬في‭ ‬المقعد‭ ‬الخلفي‭ .‬وأنا‭ ‬أسرد‭ ‬نكتة‭ ‬لزوجتي‭ ‬وأقود‭ ‬السيارة‭ .‬نحن‭ ‬في‭ ‬طريقنا‭ ‬إلى‭ ‬مصح‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬والعقلية”‭ ..‬وخال‭ ‬ماتادور‭ ‬يموت‭ ‬ثلاثة‭ ‬مرات‭ ‬ويبعث‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬“في‭ ‬أسبوع‭ ‬واحد‭ ‬مات‭ ‬خالي‭ ‬ثلاث‭ ‬مرات‭ .‬بدأ‭ ‬خالي‭ ‬ماراثون‭ ‬موته‭ ‬يوم‭ ‬الثلاثاء‭ ‬بعد‭ ‬مجيئه‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬المسلخ”‭.‬ويدخل‭ ‬هذا‭ ‬الطفل‭ ‬الحالم‭ ‬هو‭ ‬وعائلته‭ ‬في‭ ‬علائق‭ ‬عجيبة‭ ‬وغريبة‭ ‬مع‭ ‬محيطه‭ ‬لتتوالد‭ ‬الحكايات‭ ‬الساخرة‭ ‬في‭ ‬قص‭ ‬مكثف‭ ‬وجميل‭.‬

المجموعة‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬كابوس‭ ‬سريالي‭ ‬جميل‭ ‬تتواشج‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬متناقضات‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال‭ ..‬أليس‭ ‬الواقع‭ ‬اليوم‭ ‬أكثر‭ ‬سريالية‭ ‬وغرائبية‭ ‬من‭ ‬الأحلام‭ ‬والخيال‭ .‬وتتكثف‭ ‬هذه‭ ‬العبثية‭ ‬وهذا‭ ‬التناقض‭ ‬الجميل‭ ‬منذ‭ ‬العنوان‭ ‬“نكات‭ ‬للمسلحين”‭ ‬لتتواصل‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬ردهات‭ ‬المجموعة‭ ‬سخرية‭ ‬سوداوية‭ ‬وضحك‭ ‬مشوب‭ ‬ومتلبس‭ ‬بالبكاء‭ ..‬كما‭ ‬تحضر‭ ‬الحرب‭ ‬ببعدها‭ ‬الرمزي‭ ‬المجرد‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬القصص‭ ‬تقريبا‭ ‬ولكن‭ ‬القارئ‭ ‬يلامس‭ ‬تأثيرات‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الشخصيات‭ ‬بطريقة‭ ‬فنية‭ ‬سلسة‭ ‬وغير‭ ‬مباشرة.

‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬أكثر‭ ‬النقاط‭ ‬المضيئة‭ ‬في‭ ‬المجموعة‭ ‬التي‭ ‬نجح‭ ‬فيها‭ ‬مازن‭ ‬معروف‭ ‬حيث‭ ‬استطاع‭ ‬تحقيق‭ ‬هذه‭ ‬المعادلة‭ ‬الصعبة‭ ‬في‭ ‬المزج‭ ‬بين‭ ‬الأحلام‭ ‬والكوابيس‭ ‬وبين‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال‭ ‬المجنح،‭ ‬فكان‭ ‬يدس‭ ‬الفرح‭ ‬في‭ ‬الحزن‭ ‬والشجاعة‭ ‬في‭ ‬الخوف‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أنسنتها‭ ‬وتصعيدها‭ ‬فنيا‭ ‬وإبداعيا‭ ‬في‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الإعلاء‭ .‬أليس‭ ‬مازن‭ ‬معروف‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬أحد‭ ‬ضحايا‭ ‬الحرب‭ ‬والمنفى‭ ‬وحياة‭ ‬التشرد‭ ‬والتسكع‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬بين‭ ‬مخيمات‭ ‬بيروت‭ ‬وبرد‭ ‬وثلج‭ ‬أيسلندا‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬أمه‭ ‬الحقيقية‭ ‬فلسطين‭.‬‭ ‬وربما‭ ‬تصل‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬والواقع‭ ‬قمتها‭ ‬حين‭ ‬يحضر‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬المخيف‭ ‬المدمر‭ ‬‭-‬الحرب‭-‬‭ ‬بصيغته‭ ‬الماضية‭ ‬والحاضرة‭ ‬والمستقبلية‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬اضطر‭ ‬الطفل‭ ‬الراوي‭ ‬استحضاره‭ ‬لا‭ ‬لشيء‭ ‬إلا‭ ‬ليهزأ‭ ‬منه‭ ‬ويستقطبه‭ ‬ويجنده‭ ‬فيصرخ‭ ‬“لو‭ ‬عادت‭ ‬الحرب،‭ ‬فسأكون‭ ‬شخصاً‭ ‬له‭ ‬وجه‭ ‬يخوّف”‭.‬

الأدب‭ ‬والإبداع‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الاحتجاج‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬وقصص‭ ‬“نكات‭ ‬للمسلحين”‭ ‬هي‭ ‬احتجاج‭ ‬فنيّ‭ ‬على‭ ‬طفولة‭ ‬مترعة‭ ‬بالغربة‭ ‬واللجوء‭ ‬والتشرد‭ ‬واليتم‭ ‬الوطني،‭ ‬وذاكرة‭ ‬مشرعة‭ ‬على‭ ‬الحنين‭ ‬والخوف‭ ‬والوحشة والحلم‭ ‬والكوابيس‭ ‬والحرب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قصص‭ ‬مضمّخة‭ ‬بالسّخرية‭ ‬وشخصيات‭ ‬مثقلة‭ ‬بالتعب‭ ‬والتناقض،‭ ‬تتوارث‭ ‬الآلام‭ ‬والترسبات‭ ‬النفسية‭ ‬والتشوهات‭ ‬الجسدية‭ ‬للحرب‭ ‬مثل‭ ‬القذيفة‭ ‬التي‭ ‬تصيب‭ ‬الباص‭ ‬الذي‭ ‬يحوي‭ ‬أمثال‭ ‬شقيقه‭ ‬من‭ ‬صمّ‭ ‬وبكم‭ ‬وعمي،‭ ‬وتقتلهم‭ .‬والأخ‭ ‬الأصم‭ ‬الذي‮ ‬‭ ‬يعرضه‭ ‬أخوه‭ ‬للبيع‭ ‬لأنه‭ ‬سمع‭ ‬أن‭ ‬المسلحين‭ ‬يتاجرون‭ ‬بالأعضاء‭ ‬وهي‭ ‬التجارة‭ ‬الرائجة‭ ‬زمن‭ ‬الحروب.

‬والطفل‭ ‬المصدوم‭ ‬‭-‬حتما‭ ‬من‭ ‬الحرب‭-‬‭ ‬الذي‭ ‬يقضي‭ ‬حياته‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬الابتسام‭ ‬رغم‭ ‬توسل‭ ‬أمّه‭ ‬له‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬الموت‭ ‬ورغم‭ ‬حضور‭ ‬الجيران‭ ‬وتوسلهم‭ ‬له‭ ‬“أمضيت‭ ‬جل‭ ‬حياتي‭ ‬لا‭ ‬أجيد‭ ‬الابتسام،‭ ‬بت‭ ‬الآن‭ ‬أعرف‭ ‬بأنني‭ ‬الرجل‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬قتل‭ ‬الناس‭ ‬بدعابة”‭ .‬وكذلك‭ ‬النكات‭ ‬التي‭ ‬يقضي‭ ‬الطفل‭ ‬الليل‭ ‬‭-‬هو‭ ‬وأبوه‭-‬‭ ‬يصنعها‭ ‬لكي‭ ‬يعبر‭ ‬حاجز‭ ‬المسلحين،‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬أيضا‭ ‬مشغّل‭ ‬الغرامفون‭ ‬الذي‭ ‬فقد‭ ‬ذراعيه‭ ‬جراء‭ ‬قذيفة‭ ‬أصابت‭ ‬البار‭ ‬الذي‭ ‬يشتغل‭ ‬فيه،‭ ‬ولكن‭ ‬برغم‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المآسي‭ ‬الظاهرة‭ ‬يبقى‭ ‬الأمل‭ ‬والتحدي‭ ‬والصمود‭ ‬هو‭ ‬القاموس‭ ‬المعلن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬العجيبة،‭ ‬فمثلا‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬“غرامفون”‭ ‬رغم‭ ‬موت‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬البار‭ ‬لحظة‭ ‬سقوط‭ ‬القذيفة‭ ‬ينجو‭ ‬الأب‭ ‬ويبقى‮ ‬‭ ‬الغرامفون‭ ‬يشتغل‭ ‬وتعم‭ ‬الموسيقى‭ ‬المكان‭ ‬والفضاء‭ ‬في‭ ‬تحد‭ ‬كبير‭ ‬للموت،‭ ‬كما‭ ‬تصبح‭ ‬السينما‭ ‬‭-‬الفن‭-‬‭ ‬هي‭ ‬الملجأ‭ ‬للعائلة‭ ‬والجيران‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬“سينما”‭ ‬فنقرأ‭ ‬“حدث‭ ‬الأمر‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الخامس‭ ‬لاتخاذنا‭ ‬السينما‭ ‬ملجأ”،‭ ‬هو‭ ‬إذن‭ ‬القص‭ ‬والفن‭ ‬ملجأ‭ ‬والإبداع‭ ‬المتحدي‭ ‬وكأننا‭ ‬بمازن‭ ‬معروف‭ ‬يستعير‭ ‬من‭ ‬درويش‭ ‬صرخته‭ ‬المتحدية‭ ‬في‭ ‬الجدارية‭ ‬“هزمتك‭ ‬يا‭ ‬موت‭ ‬الفنون‭..‬”‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬كافكا‭ ‬“راهب‭ ‬الرواية‭ ‬المتشائم”‭ ‬فإن‭ ‬مازن‭ ‬معروف‭ ‬هو‭ ‬راهب‭ ‬القصة‭ ‬والكابوس‭ ‬الضاحك‭ ‬الحالم‭ ..‬الذي‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬“نكات‭ ‬للمسلحين”‭ ‬من‭ ‬التقاط‭ ‬اليومي‭ ‬المعيش‭ ‬والحروب‭ ‬التي‭ ‬طالما‭ ‬لازمت‭ ‬البشرية،‭ ‬بطريقته‭ ‬الساخرة‭ ‬وبكافكاوية‭ ‬وحالة‭ ‬من‭ ‬الإعلاء‭ ‬النفسي‭ ‬ومداواة‭ ‬لجراح‭ ‬الروح،‭ ‬روح‭ ‬الطفل‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الذي‭ ‬نشأ‭ ‬في‭ ‬ملجأ‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ .‬كما‭ ‬نجحت‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬في‭ ‬تكسير‭ ‬حاجز‭ ‬اللغة‭ ‬وحاجز‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‮ ‬‭ ‬والمنفى‭ ‬الداخلي‭ ‬والخارجي‭ ‬والأسلاك‭ ‬التي‭ ‬تنبت‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬فلسطيني‭ ‬منذ‭ ‬ولادته‭.‬

وللإشارة‭ ‬فإن‭ ‬مازن‭ ‬معروف‭ ‬شاعر‭ ‬وصحافي‭ ‬فلسطيني‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والمسرحي‭ ‬للعديد‭ ‬من‭ ‬الصحف‭ ‬والمجلات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬وفي‭ ‬أوروبا‭ .‬ترجم‭ ‬إلى‭ ‬العربية‭ ‬أربع‭ ‬روايات‭ ‬ومختارات‭ ‬شعرية‭ ‬وقصصية‭ ‬لشعراء‭ ‬وكتاب‭ ‬من‭ ‬العالم‭ .‬كما‭ ‬ترجمت‭ ‬بعض‭ ‬قصائده‭ ‬إلى‭ ‬الفرنسية‭ ‬والإنكليزية‭ ‬والسويدية‭ ‬والألمانية‭ ‬والصينية‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.