في البحث عن دور مفقود

السبت 2017/04/01

إذ لطالما عوَّدتنا سياسة الولايات المتحدة الأميركية، وفي ملمحٍ أساسيٍّ يتوافق مع تموقع ذلك البلد بعيداً عن قلب القارات الأعتق، وفي منأىً جغرافي عن اللهيب الحارق لأيّ نزاعٍ دوليّ مباشر فيها، أن تكون الشهور الأولى، بل وحتى العام الأول لأيّ رئيسٍ أميركيٍّ منتخب، فترةً يجري خلالها توضيب البيت الداخليّ، وتوزيع مغانم الظفر الانتخابي على الحزب الفائز، دون نسيان الحزب المهزوم من حصّةٍ قد تعادل حصة الفائزين. وهي بالمثل فترة تريّثٍ واستشفافٍ للآفاق على الصعيد الدولي، بل وكانت تتضمن استمراراً مؤقّتاً لثوابت السياسة الخارجية السابقة.

وفي معظم ما سبق من أحوال كنّا، ومعنا العالم برمته، وبحسب التطورات الجارية، أو تلك الطارئة، أمام فرصة زمنية نقعد خلالها في مقاعد الانتظار، نحن البعيدين، نرقب بتحفّز ما قد تتمخض عنه سياسة ذلك البلد النائي والشاسع؛ البلد الذي أهّله تطّورُّه التقنيّ، وشيخوخة منافسيه، والانهيار الداخلي لخصومه العقائديين، لأن يتسلّم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قيادة نصفٍ هامّ من النصفين اللذين انقسم العالم إليهما، ومن ثم، قيادة العالم بأغلبية دوله بعد انتهاء الحرب الباردة، وبعد ما قد تراءى من أن التاريخ قد وصل إلى خاتمته.

كنا نقعد، كأوطان وكقضايا وكبشر، في انتظار حصّتنا المرتقبة من شعارات الحملات الانتخابية والتي يكون مرشحو الرئاسة الأميركية قد شحنوها، في الأثناء، بكثيرٍ من الوعود لإسرائيل وبكثيرٍ من الوعيد لنا. ولكن، أن يبدأ عهد رئيسٍ أميركيّ جديد كما هي حالة ترامب بتظاهراتٍ عارمة، وبهلعٍ ودعواتٍ لإلغاء زياراته أو مقاطعتها، من جانب الحليف التقليدي الأوروبيّ، وأن تبدأ مسيرة الوعيد الترامبيّ ضدنا بقرارٍ عصابيٍّ يتخذ مادته الثأرية من مأساة اللاجئين، ومن تضخيمٍ مبالغٍ فيه لخطر قدومهم إلى الأرض الأميركية، فذلك هو الجديد والمريع.

على أننا ونحن نستذكر بنوعٍ من الأسى حصتنا المرتقبة، وهي حصة كفّت عن أن تكون مرتقبة بعد الآن، إذ فيها فضلاً عن موضوع اللاجئين الذي جرى دحضه مؤقتاً، من جانب المؤسسة الدستورية الأميركية ذاتها، فيها ذلك التهديد الاستفزازيّ بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وهو تهديدٌ إذا جرى تفعيله، كمثل شعار اللاجئين، ليتحول من مجرد مادة انتخابية إلى غُدُوِّه حقيقةً من حقائق الأرض فقد تكون له مضاعفاتٌ لا تخطر بالحسبان، ولربما هدّم في أيامٍ ما جرى تنميتُهُ طوال عقود!

ولكن وبالرغم من هذا وذاك فإن علينا أن نشير إلى أن نتيجة الانتخابات الأميركية التي جرت في العام الماضي، وأتت مع بداية هذا العام بالرئيس دونالد ترامب وفي نوعية الاختيار الذي أجمع المجتمع الأميركي عليه، عكست شكل الرد الذي اختاره الأميركيون في مواجهة خللٍ ضرب العلاقات الدولية في الصميم، وأدّى في ما أدّى إليه من انهيار طرائق المواجهات المعهودة بين الدول، وقاد إلى ما نراه في غير مكان من تفردّ كثيرين بفرض إراداتهم بقوة السلاح، بحيث اختفت الحدود وسط مساحاتٍ شاسعة من قلب هذا العالم، وما عاد النسيج الوطني بمفرده قادراً على صيانة الكيانات.

وإزاء مثل تلك التعقيدات، فما مِنْ ألغازِ كبرى تختفي وراء نجاح ترامب في تلك الانتخابات ولا في خسارة كلينتون لها. لا ولا من علاقة تذكر لذلك الشأن الأميركي الداخليّ الصرف بأسطورة التهكير الروسيّ للانتخابات. والمبالغات التي ما فتئت تتكرر يومياً عن تلاعبٍ بنتيجةِ الانتخابات، وهي مبالغات ترافق في العادة كلّ خطابٍ مهزوم، حتى في أقلّ الانتخابات ديمقراطيّةً.

والتوصيف ذاته يصحُّ تمام الصحة في تحليل الوجه الآخر من المعادلة الأميركية، والمفضي إلى أنه لا علاقة لعرق الرئيس الأميركيّ الأسبق باراك أوباما، ولا لانتمائه للحزب الديمقراطيّ، ولا لتراخي أوروبا في مسألة المهاجرين، لا علاقة لكلّ ذلك لا من قريبٍ ولا من بعيد بالتراجع الكبير لسطوة الولايات المتحدة ولتآكل دورها التاريخيّ، وهو تآكلٌ كنا في السنين الثماني الماضية شهوداً يوميين عليه، فأسباب ذلك التآكل، وأسباب ما يجري في العالم الأوسع أعمق، من أن يُترَكَ لنظريات المؤامرة أمر تفسيرها.

وبالتالي فإنّ إرادة الأكثرية الأميركية التي رجّحت كفة نتائج الانتخابات، أأعجبنا ترجيحها لترامب أم لا، تمثلّ في مظهر رئيسيّ من مظاهرها، تعبيراً آنيّاً من تعبيرات الذات الأميركية في تأكيد ذاتيّتها، في لحظة ضياع دور كان ذات ماضٍ بهيج يرهب العالم ويتركه معقود اليدين، وفي انعدام المقدرة المتجددة، وسط المعطى الراهن، على الإمساك بذلك الدور ثانيةً، إلاّ بإحداث اختراقٍ كبير في إحدى الساحات الدولية الهامة، يؤديّ إلى انفتاح الآفاق المسدودة، وإلى وقف تفلّت الأحداث، وانطوائها على المجهول.

نقول ذلك دون أن يغادرنا، ولو لثانية واحدة، ما انتابنا وانتاب قطاعات واسعة من الأميركيين ذاتهم، وانتاب حلفاءهم الأوروبيين، من قلق وخوف من جراء إقدام الأميركيين، مع احترامنا الأكيد لخيارهم، على ترجيح كفة رئيسٍ، تنتمي أفكاره وأفكار جمهور واسعٍ من مؤيّديه إلى تيارات انعزاليّة، وقياميّة، وتنحاز إلى الجانب المخيف والظلامي من شعار»أميركا أولاً». وهو الشعار، الذي يُذكّر، بحسب الروائي الأميركي بول أوستر بالإرثين المخجلين، اللذين يثقلان الضمير الأميركي: إبادة الهنود الحمر، والاضطهاد العرقي لزنوج الولايات المتحدة، فضلاً عن تذكيره بحالاتٍ فاشيّة مماثلة عمدت عبر «أولاً» تلك إلى اكتساب شعبيةٍ لمخطّطاتها المخيفة.

ولقد قرأنا جميعنا حيثيات الحكم الذي أبطل القاضي الفيدرالي الأميركي جيمس روبارت، بموجبه أوامر ترامب بمنع مواطني سبع دولٍ إسلامية من دخول الأراضي الأميركية. وأبتغي من التذكير بذلك القاضي الشجاع، أن أعيد ما يعرفه الكل من أن التدقيق الذي يصل حد الإملال، والذي تعمل بموجبه سلطات الهجرة الأميركية يجعل من شبه المحال على غير المتميزين وذوي الكفاءات العالية دخول الأرض الأميركية، فضلاً عن أن الإجابات التي تلقاها روبارت عن أسئلته بخصوص مرتكبي الأعمال الإرهابية فوق الأراضي الأميركية تؤكّد حتى ولو لم تقل ذلك صراحةً، بأن العولمة قد قضت على احتكار دولةٍ أو منطقة بعينها للإرهاب، وأن الإرهاب بات موجوداً في كلّ مكان، ومسألة التصدي له تقع على عاتق جميع الدول، ولا ينبغي لشعوبٍ بعينها أن تتحمل وزر تلك الآفة التي ساعد الغرب ذات يوم على إيجادها، في صراعه المستميت لتركيع الاتحاد السوفييتي السابق. فمواطنو الدول المشمولة بحظر السفر هم الضحايا الأساسيون للإرهاب، ومطاردة الإرهاب لهم وتدميره لبيوتهم هو الذي يدفعهم رغم أنوفهم لترك جنى العمر، واختيار أوطانٍ بديلة.

ولا أكتم أنني، وفيما أكتب كانت تتراءى أمام ناظريّ أطياف ساكني هذه المنطقة المتوسطية المنكوبة من المجروحين والمهزومين والشاعرين بمرارة أنهم تُرِكوا في منتصف الدرب، بعد أن ساهم الجميع في توريطهم. كما واستوقفتني كثرة المثقفين والمشاهير والناشطين الأميركيين في مختلف الحقول، ممن أخذوا على عاتقهم بعد وصول ترامب إلى السلطة، مهمة إبقاء شعلة القيم الأميركية المتمثلة بالديمقراطية والحرية الفردية والتنوع الإثني والديني عاليةً.

واستوقفني الغلاف المريع لمجلة «دير شبيغل» الألمانية وقد ظهر فيه الرئيس الأميركي ترامب ممسكاً بالسكين بيد، وبرأس تمثال الحرية باليد الأخرى. واستوقفتني حالة الذهول الأوروبي والإحساس بأن قيم الحداثة والتقدم والعلمانية قد صارت مع وصول ترامب إلى السلطة أمام مفترق طرق. واستوقفتني بل وحتى أخافتني رؤية وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري يمضي في يومٍ لحضور مراسم تنصيب الرئيس الجديد، وفي اليوم التالي إلى تظاهرةٍ صاخبة ضدّ ذلك الرئيس.

وبالتالي فإننا ما في ذلك شكٍّ مقبلون على اتساعٍ أكبر للمواجهة في المجال الدوليّ، وداخل المجتمع الأميركي، بين المصممين على التمسك بالقيم الأميركية التي لطالما أبهرت الغرباء والمراقبين البعيدين، وجعلت من الوصول إلى الأراضي الأميركية والانتماء إلى جملة مواطنيها، ليس في أيامنا البائسة هذه فحسب، بل ومنذ بداية تأسيس الولايات المتحدة، حلماً يداعب على الدوام مخيلة المضطهدين في أرجاء هذا الكون الفسيح، وبين من قد يدفعهم استعجال استعادة الدور الأميركي المفقود إلى التفتيش عنه عبر خطواتٍ متهورة، تفتقر إلى الدراية التي باتت متوجّبة على الجميع!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.