عزلة

السبت 2017/04/01

ملاحظة أولية

تتأسس هذه المتوالية المسرحية على ثلاث قصص لي: «عزلة» و»ورقة على الطاولة بجانب الكرسي المقلوب» من مجموعة «الفوضى الرتيبة للوجود» (2010) وقصة «حقّاً قام؟» من مجموعة «عن الحب والموت» (2008)، وهي تعتمد تقنيات السرد القصصي في بناء المشاهد المسرحية المتتالية كأجزاء منفصلة ومكتملة فنيّاً بحد ذاتها، ولكنها متصلة في الثيمة الرئيسية والخط العام للفكرة وتنبني بعضها على بعض بشكل متتال كما هي أدناه أو بأيّ ترتيب آخر، إذ يمكن أن يصبح المشهد الأول ثالثاً والثاني أولاً.. الخ، باستثناء المشهدين الرابع والخامس اللذين يجب أن يعاملا كوحدة متماسكة بنفس الترتيب، وينقلان معاً. ويمكن أن يقدّم هذا العرض كل مرّة (إن كان سيقدّم لأكثر من مرّة) بترتيب مختلف للمَشاهد. وينبغي على المخرج أن يكرّس فكرة الانفصال والاتصال هذه في العرض.

المشهد الأول

المكان: قبو، حجارته رطبة وعليها مسحة من عفن داكن.

عناصر المكان: الحيطان كلّها عارية. هناك كنبة قديمة تتسع لشخصين موضوعة مقابل حاجز شفاف معلق عليه تلفاز LCD. الحاجز يبدو وكأنه جزء من الجدران لكن ذلك لا يفقده شفافيته. الرائحة ثقيلة، وبالإمكان رفع درجة حرارة المسرح أكثر من المعتاد لوضع المشاهد في حالة تشبه الانضغاط.

الشخصيات: هو، وهي. ليس لهما أسماء.

المسرح يغرق في ظلام دامس ثم ترفع الستارة. يستمر الظلام الكامل لحظات ثم ينبعث ضوء شحيح ملوّن يتقلَّب باستمرار من التلفاز، وتسمع منه أصوات بعيدة/قريبة لعجلات سيارات وموسيقى رخيصة وأحاديث غير مفهومة. وعلى ضوء التلفاز المتقطّع نراهما.

على الكنبة يجلسان، جنباً إلى جنب، يده في يدها، نحيلان، مشعثا الشّعر، جفونهما السفليّة منتفخة ومتهدّلة. إنهما هناك منذ زمن طويل. ثمة طبقة سميكة من الغبار تغطّيهما، وثمة عناكب بنت بيوتها في زوايا جسديهما الثابتين. ولا حتى رفّة جفن: العيون مفتوحة ومسمّرة بالحائط المقابل.

لا يدفع عنهما التأكيد بأنهما ميّتان سوى الصوت الخافت وارتفاع الصدر اللذين يحدثهما الشّهيق (بدون افتعال، الحركة والصوت بالكاد تلحظان).

يستمر جلوسهما دون حركة لفترة، فيما يصبح الصوت القادم من التلفاز والصورة أكثر وضوحاً، ويستطيع المشاهد تمييز صوت وصورة مقطع من المسلسل التركيّ المدبلج «نور»، مقطع من أغنية لـ»دانة»، مقطع من أوبْرا وينفري شو، فاصل إعلانيّ طويل لزيت قلي وفوط نسائية وهاتف خلوي، مقطع من سيربح المليون، مقطع من نشرة الأخبار لقناة الجزيرة، مقطع من ستار أكاديمي، مقطع من فيلم يمتلئ بإطلاق النار واصطدام السيارات. وفجأة يسمع صوت تماس كهربائي في الأعلى (ويفضّل في مكان ما فوق الجمهور). تتقطّع الصور المتحرّكة الملوّنة قليلاً قبل أن تموت الشّاشة، وتغرق الغرفة في ضوء مصفرّ باهت.

يسود صمت كامل لا يستمرّ طويلاً.

هي: هيّا. قمْ وافتح النافذة.

هو: (محادثاً نفسه) وما أدراني أنا؟ أجلس على هذه الكنبة منذ أن بدأت أعرف أنني أجلس على هذه الكنبة. أراقب النافذة. كلّ ما أعرفه رأيته من هذه النافذة، لكنّي لا أعرف كيف تفتح أو تغلق. لم أغلق هذه النافذة أبداً. كانت مفتوحةً على الدوام. أما كان يجب أن أعرف كيف أغلقها لأعرف كيف أفتحها؟

هي: (بنفاد صبر) أوووه. ألم تسمعني؟ قلت لكَ قمْ وافتح النافذة. ألم تسمعني؟ وبَعْدين..

هو: (محادثاً نفسه) لقد تعلّمت من النافذة أشياءَ كثيرةً. رأيت عوالمَ ساحرةً ونساءً جميلات، وبشراً/آلهةً وبشراً/آلات، ومذابحَ، وهزائمَ، وانتصارات، وقلوباً منكسرةً، وجنس. آآآه! جنس! أرأيت كيفَ تضاجع فتاة الإعلان قضيبَ الشوكولاته؟ يا له من إعلان! لكنّ النافذة لم تعلّمني كيف أغلقها أو أفتحها. كانت مفتوحةً على الدوام. ألا ترَيْنَ ذلك غريباً؟

هي: (باحتقار) سَئمت أعذاركَ أيّها العاجز. بنافذة مغلقة سنختنق ونموت، أتفهَم؟ إنني أختنق الآن. أختنق.

هو: (محادثا نفسه) ترى لماذا لم نحاول إغلاق تلك النافذة ولو لمرّة واحدة؟ أفكّر في ذلك الآنَ بالتحديد، وبتحديد أكثر، أفكّر لماذا لم نحاول أن نمدّ أيدينا أو رؤوسنا منها. لماذا لم نناد على أحد من أولئك الجالسين خارجها أو المارّين أمامها. كان بإمكاني أن أطلب من تلك المضطجعة على الكنبة لوح شوكولاته. كان بإمكاني أن أسير مع التظاهرة إلى 10 داونينغ ستريت. كان بإمكاني دعوة تلك المغنية لتجلس معنا. قال مغنية قال! لا يسمع منها إلا صوت السيليكون! كان بإمكاني أن أساعد في إسعاف ذلك الطفل المليء بالثّقوب. ماذا كان يصيح؟ لم أعد أتذكّر. لكننا ظللنا صامتين ونراقب. كان عليّ أن أمدّ رأسي من النافذة.

هي: (بصراخ) أووووه. إنني أختنق هنا. افتح النافذة. أيها الحقير. تريد أن تحبسني. تريد أن تقتلني. تريد أن.. ويعتم المسرح تماماً فيما يظل صراخها مستمرّاً لعشر ثوان ثم فجأة صمت كامل.

المشهد الثاني

المكان: نفس القبو السابق يحتل نصف المسرح فقط. النصف الثاني (خلف الحاجز الشفاف) غرفة طالب جامعي متواضعة.

عناصر المكان: عناصر القبو نفسها، لكن التلفاز موضوع بحيث يكون مقابلاً للحضور، أما غرفة الطالب ففيها طاولة وكرسي ومكتبة متواضعة وسرير وضوء يتدلّى من الأعلى يشبه أضواء غرف التحقيق. على الطاولة دفاتر وكتب وقلم. مرتبة فوق بعضها إلى الجهة البعيدة عن الجمهور.

الشخصيات: هو وهي. قد يكونان نفس الهو والهي من المشهد الأول أو هو وهي جديدين، ويفضل الخيار الثاني، بحيث يؤدي كل مشهد هو وهي جديدان، باستثناء المشهدين الرابع والخامس الذي يفضّل فيهما إبقاء الـ»هو» والـ»هي» اللذين يؤديان هذين المشهدين.

يجلس هو في غرفة الطالب، يكتب شيئاً على ورقة ثم يجعلكها ويلقيها على الأرض، ثم يعكف على أخرى فيجعلكها ويلقيها على الأرض، وهكذا..

في ذات الوقت، تكون هي جالسة على الكنبة تشاهد التلفاز، تتأفف ثم تقلب القناة بعصبيّة، تشاهد القناة الجديدة، ثم تتأفف لتقلب القناة مرّة أخرى، وهكذا.

يقوم هو عن المكتب فيما تستمر هي بتقليب القنوات.

هو: لم أجرّب الغربة الحقيقيةَ بعد، الغربة بعيداً عن المكان المألوف والناس المعتادين. ولسبب ما، يخيّل إليّ أن ذاك لن يكون أشد وقعاً مما أنا فيه الآن، فلن أجد مشكلةً أعوَص من الإحساس بالانسلاخ عن هؤلاء الغرباء الحميمين الذين أراهم يومياً. عندما أنظر في وجوههم لا أرى شيئاً سوى صفحات بيضاء بلا أدنى شائبة، مرقّمة في أسفلها بحسب عدد أيام السنة، وتتوالى الأيام صفحةً بيضاء إثر أخرى بلا تغيير سوى في ذلك الرقم. لماذا كان عليّ أن أحيا مثل هذه الحياة؟

يعود هو إلى الطاولة، يكتب ويجعلك الأوراق فيما تقوم هي عن الكنبة.

هي: (وكأنها تجيب على سؤاله) سؤال ساذج! لقد أمضيت السنوات القليلة التي تفتّح فيها وعيي مقتنعة بحريّة الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله. كنت أهزأ من أولئك الذين يلْقون بأخطائهم على ظهور الآخرين: «إنتي اللي خلّيتيني أعصّب..»، وأقهقه عالياً في وجه من يقول: «الله يخزي الشيطان، نسيت..» وكأنه يَلْعَن بذلك الفاعل الحقيقي، أما هو (البريء المسكين الغافل المنقاد) فلم يفعل شيئاً، يَسوقه القضاء والقدر بحَتميّة اللوح المحفوظ. مقدّر ومكتوب. الآن، وبعد كلّ ما حصل، أعترف أننا مجبرون على الحياة. وكما -بحسب بعض الوجوديين- نحن لسنا أحراراً في أن نختار الحريّة (وكنت دائماً أقف أمام التناقض الهائل الذي تحتويه هذه العبارة)، فنحن كذلك لسنا أحراراً في اختيار وجودنا أو عدمه.

تعود هي لتقلّب القنوات، فيما يقوم هو عن الطاولة.

هو: (وكأنه يستكمل ما كانت هي تقوله) هذا ما جناه أبي عليّ. صدقَ المعرّي. لكني ما زلت أسأل: هل أثَّرَت حياتي؟ هل سيؤثّر موتي؟ هل أنا مجرّد حشرة؟ ألا تؤثّر الحشرة؟ ماذا عن موتها؟ لا أدري. ستفنى الحياة وتظل هذه الأسئلة بلا إجابات. ترى ماذا كان يدور في رأس تيسير سبول قبل أن يضغط الزّناد؟ أي شجاعة أسطوريّة حلّت في خليل حاوي وهو يفجّر رأسه على الشرفة؟ أذلك نهاية إنكار الذات، أم أعلى ذرى الشجاعة، أم قمة الجبْن؟ كنّا خمسةً في تلك المجموعة: ثلاثة شباب وصبيّتان. عندما طلبوا منا ثقب أصابعنا بدبّوس لنحدّد زمَرنا الدموية في مختبر البيولوجيا الجامعي، لم يجرؤ أيّ واحد على ثقب إصبعه بنفسه: كل واحد ثقب إصبع زميله. كيف بهذا الإنسان -الذي يخشى على إصبعه من وخزة صغيرة- وهو يعاقب نفسه العقوبة التي لا رجعة عنها؟ إنها الشجاعة إذن.

يعود هو إلى الطاولة، يكتب ويجعلك الأوراق فيما تقوم هي عن الكنبة.

هي: (وكأنها ترد عليه) بل الاستسلام. أي جبْن هذا الذي يدفع أناساً غير عاديين -وما أقلّهم- في بداية عطائهم أو قمّتها، إلى الهرب بطريقة بشعة كهذه؟ جبْن وغباء أيضاً، فهم عجزوا عن استنباط حلول لأزماتهم. يقولون إنّ الأداء الفكري والعقلي يكون أشدّ مضاءً في أحرج الأوقات وأكثرها تأزّماً، فكيف بمشروع المنتحر هذا، وهو منغمس في أكثر الأوضاع استثارةً للفكر والعقل، لا يستطيع الخروج من مأزقه؟ أين بافلوف عنه؟ أم تراه لم يسمع ببافلوف وكلابه والإشراط الاستجابي؟ لكن هل المطلوب أن نتحوّل كلاباً يسيل لعابها كلّما دق الجرس أو سمعت وقع خطى سجّانها تقترب؟ هل المطلوب أن نجد حلاًّ لكل مشكلة كما يتوقع الباحث وكما تقتضي ظروف التجربة؟ «اشتدّي أزمة، تنفرجي»؟ أبهذه الميكانيكية؟ لن يحصل ذلك أبداً. أنا شخصيّاً أرفض التحوّل إلى كلب لبافلوف. أرفض حتى أن يسيل لعابي. سأحطّم الجرس وأقضم رجل ذلك العالم مدمن لعاب الكلاب. يحق لي أن أخرج عن طوري أحياناً، أن أصرخ، أبكي، أقهقه. أن أسبّ وألعن. ويحق لي أن أموت.

تعود هي لتقلّب القنوات، فيما يقوم هو عن الطاولة.

هو: (بتأمل) العالم الآخر. ذلك المجهول. كثيراً ما يستثيرني الفضول لمعرفة ماذا يوجد بعد الموت. ولكن يبدو أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو.. الموت. أنا نتاج منطقيّ لتاريخ البشر. فمنذ فجر الوعي ونحن نسأل السؤال ذاته بلا إجابة، فطريق الإجابة باتجاه واحد. أنا الآن أريد أن أعرف، وأريد السير في ذلك الطريق. ماذا يوجد هنا أصلاً؟ سأعدّد: الحروب والمذابح والأوبئة والاغتصاب والكذب والسرقة والخداع والاضطهاد والتعذيب والاغتراب والنفاق والمرض والجوع والعنصرية والانقلابات والتلوّث و.. قد تقول: العلم والحب والموسيقى والفن والشّعر. طيّب: هل يسوى كلّ شعْر الأرض ثمن حياة طفل إفريقي صغير مات جوعاً في حين ينتج العالم أضعاف ما يكفي لإطعام البشرية كلها؟ هل سيعوّض كل حبّ الأرض الأذى الذي لحق بفتاة اغتصبها جماعياً جنود شقر عبروا المحيطات من أجل «حرية العراق»؟

المضحك المبكي، بل والمخزي، هو أن الإنسان، سبب كل تلك المآسي والكوارث، ما زال موجوداً و»يتطور» باستمرار، بينما انقرضت أنواع وأجناس وأصناف هائلة من الكائنات بعضها أقوى وأعظم، ولائحة الانتظار طويلة. ماذا يطلق الإنسان على خرابه المتمدّد؟ إعمار! لنضحك الآن.. (يقهقه).

يقفان مقابل بعضهما الآن، بينهما الحاجز الشفاف، لكن كل واحد منهما وهو يتحدث وكأنه يتحدث إلى شخص خلف الشخص الواقف أمامه.

هي: أنا، تلك التافهة الهامشية، أعلن تمرّدي على ذلك كلّه من ألفه إلى يائه. إن عقلي المحدود (المحدود؟) لم يعد يتحمل. لم يعد يتحمل مجزرة قانا، ولا قصف ملجأ العامرية، ولا قنبلة هيروشيما، ولا العامل البرتقالي، ولا استئثار الحزب الحاكم بالسلطة، ولا ما يجري في سجون المخابرات، ولا والدي، ولا والده.

هو: لم يسمح لي بالزواج منها. أنا مسيحي وهي مسلمة. الديانة: المسيحية. هكذا كتب على الوجه الخلفي لبطاقتي الشخصية. ورغم أني حقيقةً غير مؤمن، لكني مختوم كعجول المسلخ البلدي. كلنا نختَم بألوان مختلفة حالما نولد. نَسحب النفَس الأول ونأخذ بالبكاء لنشمّ بعده رائحة احتراق الجلد. الختم ليس بالحبر، بل بالنار. العجول أفضل حالاً. ختمها بالحبْر، وتحمله بعد أن تموت، لا قبل أن تولد.

هي: بالختم يخرج الواحد منّا من تصنيفHomo sapiens ليصبح: أسود وسنّي وأردني وكاثوليكي وأصفر وهندي وفلسطيني وشيعي وكردي وأورثوذكسي وعربي وتركي وأبيض وأحمر وأمازيغي، وكثيراً ما يكون واحدنا تركيبةً من عدّة أختام فيصبح أثرها مضاعفاً.

صوت عال من التلفاز (مع ما يشبه صافرة الإنذار): إلى المسلخ. جهزوا أنفسكم. إلى المسلخ. جهزوا أنفسكم.

في أثناء ذلك -والصوت ما يزال يتحدث- يركض هو وهي كل في المساحة المخصصة له وكأنهما يريدان الهرب من الصوت، لكنهما محاصران، وبعد كل دورة من الهرب يلتقيان عند الحاجز لكن دون أن يرى أحدهما الآخر. ثم تعتم الإضاءة بالكامل، والصوت ما يزال يتحدث، وهما يركضان، ثم يسمع صوت انقلاب الأثاث، وصوت تعثّرهما لعشر ثوانٍ تالية، ثم فجأة صمت كامل.

المشهد الثالث

المكان: نفس القبو السابق يحتل نصف المسرح، الحاجز الشفاف، ثم نفس غرفة الطالب الجامعي المتواضعة تحتل نصف المسرح الآخر.

عناصر المكان: عناصر القبو نفسها ولكن بدون الكنبة، بل توجد فيه مجموعة من المرايا الطولية المتقابلة (التي تقارب طول وعرض إنسان)، وصورة لـ»هو» ثابتة على شاشة التلفاز. أما غرفة الطالب ففيها نفس العناصر السابقة. القبو مضاء بالأزرق الخافت، وغرفة الطالب مضاءة بالأحمر الخافت.

الشخصيات: هو وهي. قد يكونان نفس الهو والهي من المشهد السابق أو هو وهي جديدين، ويفضل الخيار الثاني.

هي تقف أمام التلفاز. تبتسم. أنت؟ (بحب) تقول وهي تحسّ بالدفء في الداخل. دم حار يسري في العروق. ينطفئ التلفاز، فينعكس وجهها في زجاجه. أنا؟ (باستنكار) فتتراجع ابتسامتها قليلاً.

يعمل التلفاز مرة أخرى، فيختفي انعكاسها وتعود صورته، فتعود الابتسامة إلى سابق عهدها. تلتمع عيناها ويخفق قلبها بشدة، وتشعر بقشعريرة غريبة. تلمس صورته في التلفاز. ترسم بإصبعها استدارة الوجه، وتداعب الأنف والشفتين. تقترب بوجهها وتطبع قبلةً طويلة على شفتيه.

عند تلك اللحظة، يكون هو على الجهة الأخرى من المسرح يستقبل القبلة على شفتيه وكأنها حقيقية، وكأنها أمامه تقبّله، وعندما تبعد هي وجهها عن التلفاز، يقول هو بالتزامن مع نفس الكلام تقوله صورته في التلفاز، (يسمع الكلام من هو مباشرة ومن سماعات التلفاز بالتزامن، كل عبارات هو التالية تتم بهذا الشكل): ما أجمل قبلتك يا حبيبتية

تضطرب هي: م م م ماذا؟ أنت صورة.. مجرّد صورة.

هو: ما أدفأ شفتيك يا حبيبتي.

تضطرب هي أكثر وأكثر: صورة.. صورة.. مجرّد صورة.. الصورة لا تتحدث. الصورة لا تحس. إنني أهذي. لا بد أنني أهذي.

هو: تعالي إليّ. انتظرتك طويلاً. تعبت. تعالي إليّ (يمدّ يديه نحوها، لكنه لا ينظر إليها وكأنه يميد يديه نحو شخص خلفها. صورته في التلفاز تفعل الشيء نفسه). ويبدأ بالحركة (الحركة بطيئة ومتعبة) (وهو يهذي) تعالي.. تعالي.. أين أنت.. من أنت.. أين أنا.. من أنا.. تعالي.. أحس أنك هنا لكنّك لست هناة أين أنت.. أين أناة تعالي.

هي: (تهرب لتصطدم بصورها في المرايا. انعكاسات متوالية لشخص واحد، لها هي. تهرب من أمام كل مرآة لتقف أمام أخرى) أين أذهب من نَفسي؟ (تهرب إلى مرآة أخرى) أيّهم نَفسي؟ (تهرب إلى مرآة ثالثة) أهذه أنا؟ (إلى رابعة) أهذه أنا؟ (إلى خامسة) من أنا؟ (إلى سادسة) أهذه أنا؟.

(في نفس الوقت الذي تقول فيه هي «من أنا؟» يبدأ هو بالحركة والهذيان مرّة أخرى)

هو: تعالي.. تعالي.. أين أنت.. من أنت.. أين أنا.. من أنا.. تعالي.. أحس أنك هنا لكنك لست هناة أين أنت.. أين أناة تعالي.

(يتعالى صوتاهما بالتزامن ليصبح أقرب إلى الصراخ، ثم تعتم الإضاءة بالكامل عن الصالة فيما يستمر صوتاهما بالارتفاع لعشر ثوانٍ تالية، ثم فجأة يسود صمت كامل).

المشهد الرابع

المكان: نفس القبو السابق يحتل نصف المسرح، الحاجز الشفاف، ثم نفس غرفة الطالب الجامعي المتواضعة تحتل نصف المسرح الآخر.

عناصر المكان: عناصر القبو نفسها مع الكنبة، المرايا الطولية مصفوفة بجانب بعضها كحاجز أمام الحاجز الشفاف، والتلفاز مطفأ. أما غرفة الطالب ففيها نفس العناصر السابقة مضافاً إليها درج يصعد إلى ارتفاع طابق واحد يفضي إلى مسطبة خشبية تنتهي بنافذة حافتها الخارجية باتجاه الغرفة وعليها حوض أزهار من الخارج وستارة من الداخل، في وسط المسطبة باب يؤدي إليها. القبو وغرفة الطالب مضاءتان بالأزرق الخافت.

الشخصيات: هو وهي. قد يكونان نفس الهو والهي من المشهد الأول أو هو وهي جديدين، ويفضل الخيار الثاني.

هو في القبو يحاول التحرّك ليعبر حاجز المرايا، لكنه يصطدم بصورته كل مرة. مرة يقف مستغرباً، مرة يقف متأملاً، مرة يضحك، مرة يبكي، مرة يتأفف.. وهكذا. أما هي فتكون تنظر من النافذة، تنتظر، تتلفت يميناً ويساراً وأسفل، وتنتظر. باب الغرفة مغلق عليها.

هي: (تحدّث نفسها، وفي نفس اللحظة يشتعل التلفاز وتظهر صورتها وهي تقول الشيء ذاته ويسمع الصوت منها مباشرة ومن سماعات التلفاز) لمَ لمْ تأت في الموعد؟ انتظرتك في النافذة كثيراً. بحثت عنك ببصري من أول الشارع إلى آخره. (تتجمد صورة التلفاز الآن ويصمت صوته) لم أجدك. مرّ جنود في طريقهم إلى الجبهة، ولعب أولاد صغار على المراجيح، وحطّت طائرة كبيرة نزل منها مسافرون كثر، ولم تأت.

(عندما يشتعل التلفاز وتظهر صورتها، ينتبه هو إلى التلفاز ويتحرّك باتجاهه، يلمس الصورة، يمرّر أصابعه عليها، وعندما تتوقف هي عن الكلام) يقول محدّثاً الصورة:

هو: أين كنت؟ لمَ لمْ تلتزمي بالموعد؟ كنت هناك تحت النافذة، في الثامنة والنصف تماماً، أحضرت لك ضمّة من الورود، أحضرت لك عازفي قيثارات من الغجر، كل ذلك دون أن تهتزّ ستارة النافذة.

(يتحرّك هو باتجاهها، يقف أمام حاجز المرايا ويرفع رأسه نحوها لكنه لا ينظر إليها بل وكأنه يحدّث شخصاً ما خلفها) انزلي قليلاً. رائع هنا. بعيدا عن القذارات والأوساخ. إنزلي. قليلاً فقط. سنرجع معاً إلى الأعلى، لكن لا بدّ أن تنزلي أولاً.

هي: (تردّ عليه لكنها لا تنظر إليه بل وكأنها تحدّث شخصاً ما خلفه) اصعد قليلاً. رائع هنا. بعيد عن القذارات والأوساخ. إصعد. قليلاً فقط. سنرجع معاً إلى الأسفل، لكن لا بدّ أن تصعد أولاً.

هو: أين المخرج؟ أين المخرج؟ أين المخرج؟ (يتحرّك باتجاه جدران القبو، يلتصق فيها ويمرّر يديه عليها باحثاً عن حافة باب أو مخرج وكأنه يبحث في ظلام تام، يتحرك على جدران القبو وهو بهذا الشكل إلى أن يصل عند أول مرآة فينتفض إلى الخلف كالملسوع. يتنافر تماماً مع صورته في المرآة. ويأخذ بتأملّها ثم يقول لنفسه) لا مخرج. الآخرون هم الجحيم. لا مخرج. الآخرون هم الجحيم.

هي: (تأخذ هي بتحسس حيطان الغرفة، تلتصق بها وتحرّك يديها باحثة عن حافّة أو مخرج وكأنها تبحث في ظلام تام إلى أن تجد يد الباب، تحاول أن تفتح الباب لكنه مغلق، تحاول بعنف أكبر، الباب لا يفتح، تعود تتحسس الجدران إلى أن تعود إلى النافذة وتنظر إلى الأسفل. أثناء ذلك كلّه يكون هو لا يزال يردد نفس العبارة بلا توقّف، ويتصاعد صوتها (وليس بالتناسق مع صوته بل بالتعارض معه من حيث ترتيب الكلمات) لا مخرج. الآخرون هم الجحيم. لا مخرج. الآخرون هم الجحيم.

يتصاعد صوتاهما إلى أن يصبح أقرب إلى الصراخ ثم تعتم الأضواء فجأة، ويستمر صوتاهما لعشر ثوان أخرى في العتمة ثم فجأة صمت كامل.

المشهد الخامس

المكان: نفس القبو السابق يحتلّ نصف المسرح، الحاجز الشفاف، ثم نفس غرفة الطالب الجامعي المتواضعة والدرج والمسطبة والنافذة تحتل نصف المسرح الآخر.

عناصر المكان: عناصر القبو نفسها ولكن بدون الكنبة، والمرايا موضوعة على شكل دائرة، والتلفاز مطفأ. أما غرفة الطالب ففيها نفس العناصر السابقة. ستارة نافذة الغرفة المعلّقة مغلقة. القبو مضاء بالأحمر الخافت بشكل عمودي على مركز دائرة المرايا، وغرفة الطالب مضاءة بالأزرق الخافت.

الشخصيات: هو وهي. قد يكونان نفس الهو والهي من المشهد الأول أو هو وهي المشهد الرابع، ويفضل الخيار الثاني.

هو: (يمشي هنا وهناك. ينظر إلى ساعته كثيراً، كما ينظر إلى الشبّاك في الأعلى) لا أحد.

هي: (تقف في مركز دائرة المرايا وتدور ببطء وتهمهم بكلام لا يكاد يسمع) أيّهم أنا؟ من أنا؟.. الخ.

هو: الساعة الثامنة والنصف صباحاً. إنه الموعد تماماً (ينظر مرة أخرى إلى الشبّاك) لا أحد. (بتأفّف) أين هي، قالت لي إنها ستنتظرني في النافذة (عند هذه اللحظة يشتعل التلفاز وتظهر فيه صورة «هي» وهي تتلفت يميناً ويساراً وكأنها تنظر إلى الشارع من نافذة).

هو: وعدتني. قالت لي إنها ستكون في النافذة في الثامنة والنصف تماماً. مرّت خمس دقائق فوق الموعد. (ينظر إلى النافذة مرّة أخرى) آه؟ كأن الستارة تتحرك قليلاً؟ أتكون خجلة؟ إنها المرّة الأولى التي نلتقي فيها. سأصعد.

(يصعد هو الدرجات بينما تتصاعد سرعة حركة «هي» في مركز الدائرة وبين المرايا ويعلو صوتها ويصبح مسموعاً ومفهوماً. يدق هو جرس الباب مرّة ومرّتين وثلاثاً. لا جواب. يطرق الباب. لا جواب. يطرق بعنف. لا جواب. يطرق بعنف أكبر. لا جواب. يقرر أن يكسر الباب. يستجمع قواه ويهجم على الباب بكتفه، مرّة ومرّتين، وتكون حركة هي هنا قد تسارعت جداً وصار صوتها أقرب إلى الصراخ. في الهجمة الثالثة ينكسر الباب ويسقط هو على الأرض داخل الغرفة، وفي نفس تلك اللحظة تماماً (لحظة انكسار الباب) تجمد هي تماماً وتسكت وينطفئ التلفاز. يقوم هو ببطء، وبدون أيّ كلمة ينظر في الغرفة حواليه كمن يبحث عن شيء في غرفة فارغة، يمشي ببطء نحو النافذة، يفتح الستارة ويطلّ منها إلى الأسفل، يشاهد في الأسفل غرفته، فيحيط رأسه بيديه ثم بذراعيه وينهار بهدوء على حافة النافذة، ثم تخفت الإضاءة قليلاً قليلاً لتصل إلى عتمة كاملة).

هوامش

تيسير سبول: شاعر وكاتب من الأردن، انتحر بإطلاق النار على نفسه وهو في ريعان شبابه، من أبرز ما كتب رواية «أنت منذ اليوم».

خليل حاوي: شاعر من لبنان، أطلق النار من بارودة صيد على صدغه وهو واقف على شرفة منزله، احتجاجاً على الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982.

بافلوف، إيفان: (1849- 1936) عالم وطبيب روسي مختص في علم وظائف الأعضاء، اشتهر بوصفه ظاهرة «الإشراط الاستجابي» وتجربته حولها على الكلاب. حصل على جائزة نوبل في العام 1904 لبحوثه على الجهاز الهضمي.

الإشراط الاستجابي: لاحظ بافلوف أن لعاب الكلاب يسيل عند سماع وقع أقدام من يقدّم لهم الطعام، وقبل رؤية الطعام نفسه، وبمجموعة من التجارب، استطاع أن يثبت أنه بالإمكان ربط مؤثر حيادي (مثل الصوت) في عقل الحيوانات العليا (ومنها الإنسان) بمؤثر حقيقي (مثل الطعام)، فيصبح المؤثر الحيادي قادراً على استثارة استجابة لها علاقة بالمؤثر الحقيقي (الصوت يستثير اللعاب بدلاً من الطعام)، وهو ما يعني إمكانية التحكم بسلوك الإنسان وصناعتها حين يتم التحكم في ظروف الحياة الاجتماعية. والترجمة العربية المعتمدة في النص هي ذاتها المعتمدة علمياً، وهي ترجمة قاموسية قاصرة لا تعطي هذا الموضوع حقه، فالترجمة الأدق لهذه الظاهرة بنظري هي: التكييف الاستجابي.

حريّة العراق: Operation: Iraqi Freedom الاسم الكودي الذي أطلقته الولايات المتحدة على عملية غزوها للعراق عام 2003 واحتلالها اللاحق له.

العامل البرتقالي: Agent Orange، الاسم الكودي لمبيد نباتي كيماوي استعملته الولايات المتحدة في حربها على فيتنام لإبادة الغابات التي كانت تشكل المخبأ الطبيعي للمقاومة الفيتنامية، وقد نتج عن استعماله مئات آلاف القتلى، ومئات آلاف الولادات المشوّهة، إضافة إلى الكارثة البيئية.

Homo sapiens: الاسم العلمي للإنسان بحسب علم تصنيف الكائنات الحية.

«لا مخرج» (No Exit) عنوان مسرحية جان بول سارتر التي ترد فيها عبارته الشهيرة: «الآخرون هم الجحيم».

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.