مفترق‭ ‬الحائرين

الخميس 2017/06/01
لوحة: موسى النعنع

يعاني‭ ‬عالمنا‭ ‬من‭ ‬مشاكل‭ ‬مزمنة‭ ‬منها‭ ‬الفقر‭ ‬والتصحر‭ ‬والأميّة‭ ‬و‭ ‬الإرهاب‭ ‬والتميز‭ ‬ضد‭ ‬المرأة‭ ‬وكلها‭ ‬مشاكل‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬أزمات‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬توافر‭ ‬الإمكانيات‭ ‬المادية‭ ‬والثقافية‭ ‬و‭ ‬الأخلاقية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تقديم‭ ‬حلول‭ ‬مستدامة؛‭ ‬لأن‭ ‬المشكلة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬آليات‭ ‬التعاون‭ ‬والتفاوض‭ ‬والتفاوض‭ ‬الناجح‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تقديم‭ ‬الحلول‭ ‬التي‭ ‬تحترم‭ ‬تنوّعنا‭ ‬الثقافي‭ ‬والحضاري‭ ‬والديني‭ ‬والسياسي‭. ‬فإن‭ ‬كرتنا‭ ‬الأرضية‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لسد‭ ‬احتياجات‭ ‬كل‭ ‬البشر‭ ‬والمشكلة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬التوزيع،‭ ‬فالتفرد‭ ‬والاستحواذ‭ ‬لا‭ ‬ينتج‭ ‬حلولاً،‭ ‬بل‭ ‬يعمق‭ ‬المشكلة،‭ ‬وهذا‭ ‬يجعلنا‭ ‬نستعيد‭ ‬سؤال‭ ‬نيتشه‭: ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬الوجود‭ ‬البشري؟‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الحكمة‭ ‬من‭ ‬وجوده؟

هناك كثير‭ ‬من‭ ‬الأجوبة‭ ‬جاء‭ ‬بها‭ ‬الدين‭ ‬والفلسفة‭ ‬والعلم،‭ ‬ومنها‭ ‬إجابة‭ ‬نيتشه‭ ‬نفسه‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬‮«‬المنظومة‭ ‬البشرية‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬نظام‭ ‬أيكولوجي‭ ‬متكامل،‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المخلوقات‭ ‬أكثر‭ ‬ذكاء‭ ‬من‭ ‬المنظومات‭ ‬الحيوانية‭ ‬والنباتية‭ ‬تعتمد‭ ‬في‭ ‬وجودها‭ ‬على‭ ‬التناسل‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬تنوعت‭ ‬الإجابات‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد،‭ ‬جاء‭ ‬الدين‭ ‬بحلول‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬الأخلاق‭ ‬والعقاب؛‭ ‬لكنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬دوغمائية‭ ‬مولد‭ ‬للعنف‭ ‬الرمزي‭ ‬على‭ ‬رغم‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬كان‭ ‬يروم‭ ‬إلى‭ ‬هدف‭ ‬مغاير‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الراغبين‭ ‬بالسلطة‭ ‬حولوه‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬للصراع‭ ‬حول‭ ‬الحقيقة‭ ‬الكاملة،‭ ‬وهو‭ ‬صراع‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭ ‬المرغوب‭ ‬بها‭ ‬وما‭ ‬الدين‭ ‬إلا‭ ‬كبش‭ ‬فداء‭ ‬في‭ ‬التغالب‭ ‬على‭ ‬المنافع‭. ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الحداثة‭ ‬بمقاربة‭ ‬تنويرية‭ ‬إذ‭ ‬ادّعت‭ ‬أنها‭ ‬تريد‭ ‬محاربة‭ ‬التوحش‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تحوّل‭ ‬التنوير‭ ‬من‭ ‬مدافع‭ ‬عن‭ ‬الحريات‭ ‬والمعرفة‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬للتوحش‭ ‬والرغبة‭ ‬بالهيمنة‭ ‬والاستعباد‭ ‬وتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬يوتوبيا‭ ‬التنوير‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬كولونيالي‭ ‬غربي‭ ‬يحاول‭ ‬الاستحواذ‭ ‬على‭ ‬الخيرات،‭ ‬وقد‭ ‬تحولت‭ ‬الحريّة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬إشهار‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الهيمنة‭ ‬والاستعمار‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬مقاربات‭ ‬عرقيّة‭ ‬تنفي‭ ‬تحوِل‭ ‬كل‭ ‬إمكانية‭ ‬إلى‭ ‬عدالة‭ ‬وتعارف‭ ‬كما‭ ‬دعا‭ ‬لها‭ ‬كانط‭.‬

فالرغبة‭ ‬بالهيمنة‭ ‬حولت‭ ‬العقلانية‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬شعار‭ ‬خلف‭ ‬تغوّل‭ ‬الرأسمالية‭ ‬الغربية،‭ ‬زصحيح‭ ‬أنه‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬والبشر‭ ‬يحاولون‭ ‬بشتى‭ ‬الوسائل‭ ‬عبور‭ ‬مسيرة‭ ‬الحياة‭ ‬كل‭ ‬بحسب‭ ‬إمكانياته‭ ‬البيئية‭ ‬والعقلية‭ ‬نظراً‭ ‬لازدياد‭ ‬التناسل‭ ‬ومحدودية‭ ‬الثروات‭ ‬المتوافرة‭ ‬إذ‭ ‬طغى‭ ‬على‭ ‬الفرد‭ ‬الأنانية‭ ‬واستعمال‭ ‬الشر‭ ‬ضد‭ ‬منافسيه‭ ‬لجمع‭ ‬أكبر‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الثروة‭ ‬والسلطة‭.‬

وهكذا‭ ‬كان‭ ‬الخطاب‭ ‬الغربي‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬قيم‭ ‬مزدوجة؛‭ ‬فهو‭ ‬خطاب‭ ‬كولونيالي‭ ‬اعتمد‭ ‬على‭ ‬العنف‭ ‬وإنكاره‭ ‬لقيمة‭ ‬الإنسان‭ ‬الفرد‭ ‬وحريته‭ ‬في‭ ‬ناحية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬بحجة‭ ‬تخلفه‭ ‬وهمجيته‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يعتمد‭ ‬داخل‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬قيمة‭ ‬مختلفة‭ ‬ترفع‭ ‬راية‭ ‬التحضر‭ ‬الذي‭ ‬يرفض‭ ‬العنف‭ ‬ويرفع‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الإنسان‭ ‬وقيم‭ ‬الحرية‭ ‬والعدل‭ ‬والمساواة‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬الغربي‭ ‬طبعاً،‭ ‬وبين‭ ‬النقيضين‭ ‬توجد‭ ‬حدود‭ ‬الأنسنة‭ ‬الغربية‭ ‬إذ‭ ‬تطرد‭ ‬منها‭ ‬الآخر‭ ‬المختلف‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬عوائل‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الشركات‭ ‬كانت‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬كينيون‭ ‬غيبسون‭ ‬في‭ ‬‮«‬أوكار‭ ‬للشر‮»‬‭ ‬‭(‬ص‭ ‬14‭)‬‭ ‬بأنهم‭ ‬‮«‬كانوا‭ ‬كالثعابين‭ ‬بين‭ ‬أوراق‭ ‬الشجر‮»‬‭ ‬كانوا‭ ‬يصنعون‭ ‬المؤامرات‭ ‬ويتلاعبون‭ ‬بالمشاعر؛‭ ‬للانقياد‭ ‬والاستحواذ‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬قادهم‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬التعاون‭ ‬مع‭ ‬النازيّة‭ ‬ضد‭ ‬بلدهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬مصالحهم‭ ‬وميولهم‭ ‬النازية‭ ‬مثل‭ ‬الصفاء‭ ‬العرقي‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬العقول‮»‬‭.‬

فهذا‭ ‬الخطاب‭ ‬مزدوج‭ ‬القيمة‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يفترض‭ ‬خطابا‭ ‬مقاوما‭ ‬هو‭ ‬الشيوعية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مقاربة‭ ‬أكثر‭ ‬عدالة‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬قاد‭ ‬إلى‭ ‬مقاربة‭ ‬جماهيرية‭ ‬شمولية‭ ‬ولدت‭ ‬رعبا‭ ‬غير‭ ‬محدود‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬ينجز‭ ‬حلاً‭ ‬ويحقق‭ ‬العدالة‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬العدالة‭ ‬المتنافية‭ ‬مع‭ ‬الحرية‭ ‬بفعل‭ ‬جمهوريات‭ ‬الخوف‭ ‬التي‭ ‬عمقت‭ ‬التوحش‭ ‬واخترقت‭ ‬قيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬بحجة‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وبالنتيجة‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬المقاربتان‭ ‬كلتاهما‭ ‬وفشلتا‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭: ‬الرأسماليّة‭ ‬والاشتراكيّة‭.‬

على‭ ‬وقع‭ ‬الانهيارات‭ ‬الغربيّة‭ ‬وصراعها‭ ‬مع‭ ‬الماركسيّة‭ ‬جاءت‭ ‬دولة‭ ‬الرفاهية‭ ‬في‭ ‬سبعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وهذه‭ ‬خطوة‭ ‬حضارية‭ ‬أثبت‭ ‬الواقع‭ ‬العملي‭ ‬نجاحها‭ ‬والمجتمعات‭ ‬التي‭ ‬نهجت‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬مجتمعات‭ ‬أكثر‭ ‬رقياً،‭ ‬وجعلت‭ ‬الرحلة‭ ‬البشرية‭ ‬أقل‭ ‬ألماً‭ ‬ومعاناةً،‭ ‬ولّدت‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬مقاربة‭ ‬أكثر‭ ‬توازناً‭ ‬في‭ ‬الحريات‭ ‬ونوعا‭ ‬من‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وتحولت‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬إلى‭ ‬أُنموذج‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭ ‬قادت‭ ‬وبدعم‭ ‬إعلامي‭ ‬ومخابراتي‭ ‬إلى‭ ‬انهيار‭ ‬جمهوريات‭ ‬اليوتوبيا‭ ‬السوفييتية‭.‬

لكن‭ ‬انهيار‭ ‬الماركسيّة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬لم‭ ‬يغيبها‭ ‬من‭ ‬الفضاء‭ ‬الأوروبي‭ ‬الذي‭ ‬مازال‭ ‬يعيش‭ ‬دولة‭ ‬الرفاهيَة‭ ‬بين‭ ‬اليمين‭ ‬من‭ ‬دعاة‭ ‬محاربة‭ ‬الهجرة‭ ‬والمطالبة‭ ‬بالهويّة‭ ‬وبين‭ ‬مطالب‭ ‬العدالة‭ ‬الاجتماعيّة‭ ‬في‭ ‬الأحزاب‭ ‬الليبرالية‭ ‬والماركسية‭.‬

يبدو‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬داخل‭ ‬الغرب‭ ‬الماركسية‭ ‬والليبرالية،‭ ‬فظهور‭ ‬التنظيمات‭ ‬الأصولية‭ ‬كأداة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الماركسية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اجتماع‭ ‬اليمين‭ ‬العربي‭ ‬والغربي‭ ‬ضد‭ ‬اليسار‭ ‬الغربي‭ ‬‭(‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭ ‬وروسيا‭ ‬واليسار‭ ‬الأوروبي‭ ‬الغربي‭)‬‭ ‬والعربي‭ ‬معا‭. ‬ومن‭ ‬نتائج‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬ظهور‭ ‬إجراءين‭:‬

‭ ‬الأول‭ ‬قامت‭ ‬به‭ ‬الدول‭ ‬اليمينية‭ ‬العربية‭ ‬إذ‭ ‬دعمت‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬الصحوة‭ ‬الإسلامية‭ ‬التي‭ ‬تخلق‭ ‬إعلاميا‭ ‬ودينياً‭ ‬وتربوياً‭ ‬خطاباً‭ ‬يوتوبيا‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬بخطاب‭ ‬الخلافة‮»‬‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬تلك‭ ‬عالجت‭ ‬انهياراتها‭ ‬بنكوص‭ ‬نحو‭ ‬الماضي،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحوّلَ‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬تصحر‭ ‬ثقافي‭ ‬واستبداد‭ ‬سياسي‭ ‬ومقاومة‭ ‬كل‭ ‬خطاب‭ ‬عقلاني‭ ‬مدني‭ ‬كانت‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬ولادة‭ ‬وحش‭ ‬التكفير،‭ ‬بوصفه‭ ‬بديلاً‭ ‬نكوصيا‭.‬

الإجراء‭ ‬الثاني‭ ‬‮«‬الغربي‭ ‬وأميركا‭ ‬خصوصا‮»‬‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬الصحوات‭ ‬الإسلامية‭ ‬قد‭ ‬ولدت‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬الجماعات‭ ‬الإسلامية‭ ‬وتضم‭ ‬الإسلاميين‭ ‬المستقلين‭ ‬الذين‭ ‬تدرّبوا‭ ‬منذ‭ ‬ثمانينات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬في‭ ‬معسكرات‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬الأفغانية‭ ‬والعديد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الجماعات‭ ‬أدارتها‭ ‬المخابرات‭ ‬الباكستانية‭ ‬وتولتها‭ ‬المخابرات‭ ‬المركزية‭ ‬الأميركية‭ ‬بحوالي‭ ‬7‭ ‬مليارات‭ ‬دولار‭ ‬‭(‬‭ ‬انظر‭ ‬ديفيد‭ ‬كين‭ ‬‮«‬حرب‭ ‬بلا‭ ‬نهاية‮»‬،‭ ‬ص40‭)‬‭.‬

وبعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬الوحش‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬تخليقه،‭ ‬هنا‭ ‬ظهرت‭ ‬ظروف‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بالحرب‭ ‬على‭ ‬الإرهاب‭ ‬وهي‭ ‬ظروف‭ ‬تغذيها‭ ‬الأزمات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الغربية‭ ‬والأميركية‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬ضغوط‭ ‬الأزمة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حلولها‭ ‬أميركية‭ ‬باختلاق‭ ‬حروب‭ ‬وفوضي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الثالث‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تخلق‭ ‬مجالاً‭ ‬أكثر‭ ‬رحابة‭ ‬لتجارة‭ ‬السلاح‭ ‬والتدمير‭ ‬ودعم‭ ‬أشكال‭ ‬ظاهرها‭ ‬تحول‭ ‬مدني‭ ‬وباطنها‭ ‬الدفع‭ ‬بالراديكالية‭ ‬الدينية‭ ‬حتى‭ ‬تحل‭ ‬محل‭ ‬الدكتاتوريات‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬بفعل‭ ‬حركة‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬والاستقلال،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تحقق‭ ‬التنمية‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬عرفت‭ ‬بقربها‭ ‬من‭ ‬اليسار‭ ‬وهي‭ ‬الدول‭ ‬الفاشلة‭ ‬اليوم‭ ‬وتعيش‭ ‬حروباً‭ ‬أهلية‭.‬

الأمر‭ ‬الآخر‭ ‬هو‮»‬حدود‭ ‬السيادة‮»‬‭ ‬كمبدأ‭ ‬جديد‭ ‬ظهر‭ ‬وهو‭ ‬يحقق‭ ‬للغرب‭ ‬وأميركا‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬كما‭ ‬يشير‭ ‬لهذا‭ ‬ديفيد‭ ‬كين‭ ‬في‭ ‬‮«‬حرب‭ ‬بلا‭ ‬نهاية‮»‬‭ ‬‭(‬ص41‭)‬‭ ‬بقوله‭ ‬‮«‬السيادة‭ ‬تستتبع‭ ‬الالتزامات‭. ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يذبح‭ ‬أحد‭ ‬مواطنينا‭. ‬الالتزام‭ ‬الآخر‭ ‬هو‭ ‬عدم‭ ‬دعم‭ ‬الإرهاب‭ ‬بأيّ‭ ‬طريقة‭ ‬كانت‭ ‬فإذا‭ ‬فشلت‭ ‬حكومة‭ ‬في‭ ‬الوفاء‭ ‬بهذه‭ ‬الالتزامات‭ ‬فإنها‭ ‬تغرَّم‭ ‬بحرمانها‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬مزايا‭ ‬السيادة،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الحق‭ ‬بأن‭ ‬يترك‭ ‬لها‭ ‬التحكم‭ ‬بما‭ ‬يجري‭ ‬داخل‭ ‬أراضيها‭. ‬ويكون‭ ‬للحكومة‭ ‬الأخرى‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬حكومة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬التدخل‭.. ‬حق‭ ‬الدفاع‭ ‬الوقائي‭ ‬عن‭ ‬النفس‮»‬‭. ‬نص‭ ‬يشرعن‭ ‬التدخل‭ ‬العسكري‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬وجدت‭ ‬أميركا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يهدد،‭ ‬وبالآتي‭ ‬معاقبة‭ ‬الدول‭ ‬عبر‭ ‬الحرمان‭ ‬من‭ ‬السيادة‭ ‬على‭ ‬أراضيها‭. ‬ومن‭ ‬أساليب‭ ‬الوقائية‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الإعلامي‭ ‬والتربوي‭ ‬والإبلاغ‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدينية،‭ ‬فهي‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬كانت‭ ‬سابقا‭ ‬وسيلة‭ ‬في‭ ‬تشجيع‭ ‬الخطابات‭ ‬المتشددة‭ ‬وهي‭ ‬اليوم‭ ‬باب‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التدخل‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬سوف‭ ‬تبقى‭ ‬متهمة‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬التطرف‭ ‬أميركياً‭.‬

طبعا‭ ‬السياسة‭ ‬الأميركية‭ ‬تختلف‭ ‬عما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬‮«‬مراكز‭ ‬التفكير‭ ‬والبحث‭ ‬لا‭ ‬تقدم‭ ‬مجرد‭ ‬نظرية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الفكر‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬تقوم‭ ‬بإدارة‭ ‬صانعي‭ ‬السياسة‭ ‬الأميركية‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬بتحليلات‭ ‬ودراسات‭ ‬وتقديرات‭ ‬للمواقف‭ ‬وتوصيفات‭ ‬للواقع‭ ‬تكون‭ ‬بمثابة‭ ‬إضاءة‭ ‬لطريقهم،‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب‭ ‬بل‭ ‬تصنع‭ ‬دراسات‭ ‬تشبه‭ ‬الخطط‭ ‬العمليّة‭ ‬أو‭ ‬خرائط‭ ‬طريق‭ ‬تشكِل‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجيّة‭ ‬لصانع‭ ‬القرار‭ ‬الأميركي‮»‬‭ ‬‭(‬انظر‭ ‬تامر‭ ‬طه،‭ ‬السلفية‭ ‬بعيون‭ ‬أميركية،‭ ‬ص‭ ‬33‭)‬‭.‬

لهذا‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬تتابع‭ ‬الواقع‭ ‬العربي،‭ ‬وخصوصا‭ ‬التيارات‭ ‬الإسلامية‭ ‬وتحاول‭ ‬متابعة‭ ‬نشاطاتها‭ ‬وتقترح‭ ‬أشكالاً‭ ‬متنوعةً‭ ‬من‭ ‬كيفية‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬صانع‭ ‬السياسة‭ ‬الأميركية‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬يشير‭ ‬ريتشارد‭ ‬هاس‭ ‬في‭ ‬كنابه‭ ‬‮«‬السلفية‭ ‬بعيون‭ ‬أميركية‮»‬‭ ‬‭(‬ص34‭)‬‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬مراكز‭ ‬التفكير‭ ‬والرأي‭ ‬تؤثر‭ ‬على‭ ‬صانعي‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأميركية‭ ‬بخمس‭ ‬طرق‭ ‬مختلفة‭ ‬هي‭ ‬توليد‭ ‬أفكار‭ ‬وخيارات‭ ‬مبتكرة‭ ‬من‭ ‬السياسة،‭ ‬وتأمين‭ ‬مجموعة‭ ‬جاهزة‭ ‬من‭ ‬الاختصاصيين‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬الحكومة،‭ ‬وتوفير‭ ‬مكان‭ ‬للنقاش‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬رفيع،‭ ‬وتثقيف‭ ‬مواطني‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عن‭ ‬العالم،‭ ‬وإضافة‭ ‬وسيلة‭ ‬مكمّلة‭ ‬للجهود‭ ‬الرسمية‭ ‬للتوسط‭ ‬وحلّ‭ ‬النزاعات‮»‬‭.‬

لكن‭ ‬بالمقابل‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البحث‭ ‬عمّا‭ ‬بعد‭ ‬اليمين‭ ‬واليسار‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬أين؟‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬مراكز‭ ‬بحوث‭ ‬تقدم‭ ‬مقاربة‭ ‬علميّة‭ ‬للعالم‭ ‬العربي‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬والعراقي‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬تمكننا‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬عالمنا‭ ‬العربي‭ ‬وتقييم‭ ‬الحداثة‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التحولات‭ ‬العالمية‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.