تسعة‭ ‬أشخاص

الخميس 2017/06/01
لوحة: رشوان عبدلكي

‭.. ‬ورأيتني‭ ‬قد‭ ‬أحيط‭ ‬بي‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب،‭ ‬وبدأت‭ ‬أكوام‭ ‬من‭ ‬الأوجه‭ ‬تثقبني‭ ‬بنظراتها‭ ‬الحادة‭ ‬وهي‭ ‬تستصغرني‭ ‬محاولة‭ ‬أن‭ ‬تنهشني‭ ‬بما‭ ‬تهيأ‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬قوة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء‭ ‬وقد‭ ‬اغبرَّت‭ ‬من‭ ‬وقع‭ ‬الطيش‭ ‬وجوهها،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يخطر‭ ‬على‭ ‬بالي‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬أن‭ ‬أقع‭ ‬في‭ ‬مأزق‭ ‬كهذا‭. ‬طريقي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه‭ ‬الشـُّعث،‭ ‬ولا‭ ‬فكرت‭ ‬أن‭ ‬ألتقي‭ ‬بإحداها،‭ ‬فأين‭ ‬أنا‭ ‬وأين‭ ‬هم؟‭ ‬لكنها‭ ‬الأقدار‭ ‬لا‭ ‬تدري‭ ‬بما‭ ‬تخبئه‭ ‬لك‭.. ‬المهم‭ ‬أني‭ ‬وقعت‭ ‬بين‭ ‬أيديها‭ ‬تلك‭ ‬الهامات‭ ‬المستأسدة‭ ‬فوق‭ ‬هامات‭ ‬الضعفاء،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬أستفيق‭ ‬من‭ ‬هلعي‭ ‬كانوا‭ ‬قد‭ ‬جرَّدوني‭ ‬من‭ ‬لباسي‭ ‬وأسقطوني‭ ‬أرضاً‭ ‬وصوَّبوا‭ ‬إجرامهم‭ ‬نحوي‭.‬

شرعتُ‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه‭ ‬والخوف‭ ‬يعصر‭ ‬قلبي‭ ‬وكلهم‭ ‬صامت‭ ‬لا‭ ‬ينطق‭ ‬بكلمة‭ ‬ولا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬سواي‭. ‬أأنا‭ ‬مهم‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الدرجة‭ ‬كي‭ ‬تحيط‭ ‬بي‭ ‬تسع‭ ‬بنادق‭ ‬ولا‭ ‬تزحزح‭ ‬أنظارها‭ ‬عني؟‭ ‬هل‭ ‬كانوا‭ ‬يبحثون‭ ‬عنّي‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أدري؟‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أتزحزح‭ ‬من‭ ‬مكاني‭ ‬قليلا‭ ‬لكنهم‭ ‬عاودوا‭ ‬إشهار‭ ‬بنادقهم‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬وجهي‭.‬

ربع‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الصّمت‭ ‬بيني‭ ‬وبينهم‭ ‬لم‭ ‬أتجرَّأ‭ ‬أن‭ ‬أسألهم‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬إحاطتهم‭ ‬بي،‭ ‬ولا‭ ‬هم‭ ‬تكلموا‭ ‬أو‭ ‬خاطبوني،‭ ‬فبقيت‭ ‬في‭ ‬دهشتي‭ ‬أتعرَّق‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المحنة،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬بدأت‭ ‬أسترجع‭ ‬صوراً‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬عن‭ ‬هيئاتهم‭ ‬كأنهم‭ ‬خُشُبٌ‭ ‬مسنـَّدة‭. ‬أين‭ ‬رأيتهم‭. ‬آهْ؛‭ ‬تذكرتُ‭ ‬الآن،‭ ‬رأيتهم‭ ‬في‭ ‬التلفاز،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬أيِّ‭ ‬وضع‭ ‬يا‭ ‬ترى؟‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬أن‭ ‬أصل‭ ‬إليه‭.‬

ألا‭ ‬من‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يكسِّر‭ ‬منكم‭ ‬جدار‭ ‬الصمت‭ ‬هذا‭. ‬مللتُ‭ ‬وقوفكم‭ ‬وأنا‭ ‬وسطكم‭. ‬ألهذا‭ ‬الحدّ‭ ‬تخشون‭ ‬رجلاً‭ ‬أعزل،‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أنكم‭ ‬ترتعدون‭ ‬من‭ ‬مواجهتي‭ ‬أيها‭ ‬الجبناء‭. ‬تقدَّموا‭ ‬إن‭ ‬كنتم‭ ‬رجالا‭. ‬أين‭ ‬زعيمكم‭ ‬يواجهني؟‭ ‬لكنكم‭ ‬لا‭ ‬تقدرون‭ ‬عليَّ‭.‬

بينما‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬شجاعة‭ ‬عظيمة‭ ‬أقهر‭ ‬بها‭ ‬كبرياءهم‭ ‬دون‭ ‬إحساس‭ ‬منهم‭ ‬تقدَّم‭ ‬أحدهم‭ ‬نحوي‭ ‬وعيناه‭ ‬ترمي‭ ‬بالشرر،‭ ‬فقال‭ ‬بصوت‭ ‬جهوري‭ ‬وهو‭ ‬يُحكم‭ ‬بندقيته‭ ‬بشدة‭ ‬كأنه‭ ‬يخشى‭ ‬أن‭ ‬أفاجئه‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرَّة‭ ‬فآخذ‭ ‬منه‭ ‬سلاحه‭ ‬وأقتله‭:‬

ـ‭ ‬من‭ ‬أنت؟‭ ‬وكيف‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬هنا؟

لم‭ ‬يرُق‭ ‬لي‭ ‬سؤاله‭ ‬فلم‭ ‬أجبه،‭ ‬فانتفختْ‭ ‬أوداجُهُ‭ ‬وازدادت‭ ‬حُمْرَةُ‭ ‬عينيه‭ ‬فضربني‭ ‬برجله‭ ‬اليمنى‭ ‬على‭ ‬كتفي‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭:‬

ـ‭ ‬ألم‭ ‬تسمع‭ ‬أيها‭ ‬الأحمق؟‭ ‬أجِبْ‭ ‬وإلا‭ ‬استخرجتُ‭ ‬كبدك‭.‬

أجبته‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يجهل‭ ‬عليَّ‭ ‬فيرديني‭ ‬قتيلا‭:‬

ـ‭ ‬أنتم‭ ‬الذين‭ ‬قبضتم‭ ‬عليَّ‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭.‬

تحركت‭ ‬الوجوه‭ ‬العمياء‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬بدورها‭ ‬ونظرت‭ ‬إلى‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬فشرعتْ‭ ‬تقهقه‭ ‬وتقهقه‭ ‬وأنا‭ ‬أزداد‭ ‬استغراباً‭ ‬منهم‭.. ‬حاولت‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬أن‭ ‬أتذكر‭ ‬في‭ ‬أيِّ‭ ‬وضع‭ ‬رأيتهم‭ ‬لكن‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬وبدأت‭ ‬أحملق‭ ‬مرة‭ ‬ومرة‭ ‬فيهم‭.. ‬كانوا‭ ‬ملثمين،‭ ‬ويرتدون‭ ‬السواد‭ ‬حتى‭ ‬ألويتهم‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬خلفهم‭ ‬استطعتُ‭ ‬أن‭ ‬أميِّزها‭. ‬هي‭ ‬سوداء‭ ‬كذلك‭ ‬مكتوب‭ ‬فيها‭ ‬كلمة‭ ‬التوحيد‭ ‬بالأبيض،‭ ‬فقلت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭: ‬سبحان‭ ‬الله؛‭ ‬اجتمع‭ ‬الحق‭ ‬والباطل‭ ‬في‭ ‬رايتهم‭!‬

آهٍ‭ ‬لو‭ ‬سمعوني‭ ‬أتفوَّه‭ ‬بما‭ ‬قلت‭ ‬لكانوا‭ ‬انهالوا‭ ‬عليَّ‭ ‬وخنقوني‭ ‬بألويتهم‭ ‬قبل‭ ‬بنادقهم،‭ ‬إنَّ‭ ‬منظرهم‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الاشمئزاز،‭ ‬وروائح‭ ‬غير‭ ‬مألوفة‭ ‬خدشت‭ ‬أنفي‭ ‬من‭ ‬أجسادهم‭ ‬تنبعث،‭ ‬ليسوا‭ ‬كباقي‭ ‬البشر‭. ‬هل‭ ‬هم‭ ‬يأجوج‭ ‬ومأجوج‭ ‬خرجوا‭ ‬وكنتُ‭ ‬أول‭ ‬مَنْ‭ ‬ساقه‭ ‬قدَرُهُ‭ ‬إليهم؟‭ ‬أم‭ ‬هم‭ ‬يهود‭ ‬أصبهان‭ ‬خرجوا‭ ‬لملاقاة‭ ‬مسيخهم‭ ‬الدجال‭ ‬فساقوني‭ ‬معهم‭ ‬إليه؟‭ ‬أم‭ ‬هم‭ ‬أتباع‭ ‬المهدي‭ ‬نزلوا‭ ‬بهذه‭ ‬الأرض‭ ‬وأرادوا‭ ‬الفتك‭ ‬بي؟‭!.. ‬لكن‭ ‬المهدي‭ ‬روائح‭ ‬أتباعه‭ ‬كالمسك‭ ‬والعنبر،‭ ‬وأنا‭ ‬مسلم،‭ ‬فمن‭ ‬هم‭ ‬يا‭ ‬ترى؟

آهْ؛‭ ‬لعلهم‭ ‬أتباع‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬مريم‭ ‬لاقوْهُ‭ ‬حين‭ ‬نزوله‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬فكنتُ‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬صادفوه‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭.. ‬تفحصتُ‭ ‬لباسي‭ ‬علَّ‭ ‬صليباً‭ ‬منقوشاً‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬خنزيراً‭ ‬مرسوماً‭ ‬به؛‭ ‬لكنني‭ ‬مجرَّد‭ ‬من‭ ‬اللباس‭. ‬أردتُ‭ ‬أن‭ ‬آخذه‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬لأتيقن‭ ‬مما‭ ‬يخامرني‭ ‬فظنَّ‭ ‬الذي‭ ‬ضربني‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أني‭ ‬أريد‭ ‬المكر‭ ‬بهم‭ ‬فسارع‭ ‬لضربي‭ ‬ثانية‭ ‬وكانوا‭ ‬قد‭ ‬كفوا‭ ‬عن‭ ‬قهقهتهم‭. ‬فقال‭ ‬لي‭ ‬آخر‭ ‬أكثر‭ ‬شراسة‭ ‬منه‭ ‬ومنظره‭ ‬أفظع‭ ‬من‭ ‬الأول‭:‬

ـ‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تخدعنا‭ ‬بأسلوبك‭ ‬المراوغ؟

لم‭ ‬أستطع‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬كتم‭ ‬غيظي‭ ‬فانفجرت‭ ‬غضباً‭ ‬قائلا‭:‬

ـ‭ ‬وأنتم‭ ‬ماذا‭ ‬عنكم؟‭ ‬ألا‭ ‬تفصحون‭ ‬لي‭ ‬هوِّيتكم‭ ‬فقد‭ ‬احترتُ‭ ‬في‭ ‬أمركم‭.‬

نظرت‭ ‬الوجوه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬بعضها‭ ‬فانفجرتْ‭ ‬قهقهةً‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذي‭ ‬قبل،‭ ‬وبقيت‭ ‬أنا‭ ‬محتاراً‭ ‬في‭ ‬أمرهم‭ ‬لا‭ ‬أفهم‭ ‬من‭ ‬حقيقتهم‭ ‬شيئاً‭. ‬فعاودتني‭ ‬موجة‭ ‬الشرود،‭ ‬وحاولتُ‭ ‬أن‭ ‬أستجمع‭ ‬أفكاري‭ ‬وأنطلق‭ ‬من‭ ‬نقطة‭ ‬البداية‭. ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬كنت‭ ‬أتجه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أقع‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الوجوه‭ ‬القاتمة‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬شعورها‭ ‬شعور‭ ‬النساء‭. ‬آهْ‭ ‬أخيراً‭ ‬تذكرت،‭ ‬كنتُ‭ ‬أطالع‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬أيام‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‮»‬‭ ‬وأتيت‭ ‬على‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬داحس‭ ‬والغبراء‮»‬‭. ‬أعجبتني‭ ‬القصة‭ ‬بما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬فروسية‭ ‬وإباء؛‭ ‬لكنني‭ ‬أنكرتُ‭ ‬فيها‭ ‬سبب‭ ‬قيام‭ ‬الحرب‭ ‬بين‭ ‬عبس‭ ‬وذبيان‭.. ‬وبينما‭ ‬أنا‭ ‬هائم‭ ‬في‭ ‬أحداثها‭ ‬غلبني‭ ‬النعاس‭ ‬وسقط‭ ‬الكتاب‭ ‬من‭ ‬يدي‭ ‬ودخلت‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬فرأيت‭ ‬نفسي‭ ‬بين‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬زال‭ ‬حمقهم‭ ‬لم‭ ‬ينتهِ‭ ‬بعد،‭ ‬وبعد‭ ‬هنيهة‭ ‬توقفوا‭ ‬عن‭ ‬القهقهة،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬ثالث‭ ‬منهم‭ ‬وقد‭ ‬تقدم‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬ناحيتي‭:‬

ـ‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬من‭ ‬نحن؟‭ ‬حسناً‭..‬

نظر‭ ‬خلفه‭ ‬وابتسم‭ ‬له‭ ‬أصحابه‭ ‬كأنهم‭ ‬يوافقونه‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سيقوله‭ ‬لي،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬وهو‭ ‬لمَّا‭ ‬يتخلص‭ ‬من‭ ‬ابتسامته‭ ‬الخبيثة‭:‬

ـ‭ ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬اختارهم‭ ‬الله‭ ‬للقصاص‭ ‬من‭ ‬الخونة‭.‬

استجمعت‭ ‬نفسي‭ ‬واعتدلت‭ ‬في‭ ‬جِلستي‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬يحيطون‭ ‬بي‭ ‬ولا‭ ‬يثقون‭ ‬في‭ ‬كوني‭ ‬مجرداً‭ ‬من‭ ‬اللباس‭ ‬والسلاح؛‭ ‬فقلت‭ ‬ونفسي‭ ‬معلقة‭ ‬بحبل‭ ‬النجاة‭:‬

ـ‭ ‬إذن‭ ‬ستعاقبون‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬كسر‭ ‬الرهان‭.‬

ـ‭ ‬عن‭ ‬أيِّ‭ ‬رهان‭ ‬تتكلم‭ ‬أيها‭ ‬المعتوه؟‭! ‬‭(‬قال‭ ‬الرجل‭ ‬ونفسه‭ ‬تتطاير‭ ‬شرراً‭)‬‭.‬

أزعجتني‭ ‬كلمة‭ ‬المعتوه‭ ‬التي‭ ‬شجَّ‭ ‬بها‭ ‬الرجل‭ ‬سمعي،‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬أشعر‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬وأنا‭ ‬أحاول‭ ‬النهوض‭:‬

ـ‭ ‬أأنت‭ ‬حذيفة‭ ‬بن‭ ‬بدر‭ ‬أم‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬زهير؟

لم‭ ‬يعقِل‭ ‬الرجل‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬كلامي،‭ ‬فظن‭ ‬أنني‭ ‬أسخر‭ ‬منه؛‭ ‬فعاود‭ ‬ضربي‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬أصحابه،‭ ‬فسقطتُ‭ ‬وقد‭ ‬التصق‭ ‬وجهي‭ ‬بالتراب،‭ ‬فنفضته‭ ‬وأنا‭ ‬أترجَّاهم‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬بأن‭ ‬يتركوني‭ ‬لشأني‭ ‬فانطلق‭ ‬لساني‭ ‬صخِباً‭:‬

ـ‭ ‬إن‭ ‬كنتم‭ ‬تظنون‭ ‬أنني‭ ‬صاحب‭ ‬الغبراء‭ ‬حمل‭ ‬بن‭ ‬بدر‭ ‬فأنتم‭ ‬واهمون‭. ‬أنا‭ ‬رجل‭ ‬تقطعت‭ ‬به‭ ‬السبل‭ ‬فوجدت‭ ‬نفسي‭ ‬بينكم‭ ‬يا‭ ‬آل‭ ‬عبس‭.‬

بدأ‭ ‬الرجال‭ ‬الثلاثة‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬أماكنهم‭ ‬بعدما‭ ‬أشار‭ ‬إليهم‭ ‬أحدهم‭ ‬بالتراجع،‭ ‬وتقدم‭ ‬نحوي‭ ‬رابعهم‭.. ‬عظيم‭ ‬الجثة،‭ ‬مغبرُّ‭ ‬الوجه،‭ ‬مفتول‭ ‬الذراعين،‭ ‬طويل‭ ‬القامة،‭ ‬أحمر‭ ‬البشرة‭ ‬كأنه‭ ‬عاقر‭ ‬الناقة،‭ ‬كثيف‭ ‬الشعر،‭ ‬معوجُّ‭ ‬الحاجبين،‭ ‬في‭ ‬يمناه‭ ‬بندقية‭ ‬كبيرة،‭ ‬وفي‭ ‬يسراه‭ ‬مثلها‭.. ‬خفته‭ ‬وازدادت‭ ‬نبضات‭ ‬قلبي‭ ‬وارتعدت‭ ‬فرائصي‭ ‬وأيقنت‭ ‬أني‭ ‬هالك‭ ‬هذه‭ ‬المرة؛‭ ‬فزمجر‭ ‬عن‭ ‬خبثه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكلمني،‭ ‬وبقي‭ ‬يمعن‭ ‬النظر‭ ‬فيَّ‭.. ‬تأمَّلني‭ ‬من‭ ‬رأسي‭ ‬إلى‭ ‬أخمص‭ ‬قدمي‭ ‬بعدما‭ ‬أشار‭ ‬إليَّ‭ ‬بالوقوف،‭ ‬وبقي‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬يرنو‭ ‬إليَّ‭ ‬ببصره،‭ ‬فازداد‭ ‬خوفي‭ ‬وقلت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭: ‬لعل‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬يعرفني‭..‬

بدأ‭ ‬الشخص‭ ‬يحوم‭ ‬حولي‭ ‬ذات‭ ‬اليمين‭ ‬وذات‭ ‬الشمال،‭ ‬ومن‭ ‬حين‭ ‬لآخر‭ ‬يهز‭ ‬بندقيتيْه‭ ‬ويخرج‭ ‬لسانه‭ ‬كثعبان‭ ‬يتربص‭ ‬بفريسته،‭ ‬واقترب‭ ‬منّي‭ ‬وهمس‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬أذني‭: ‬أأنت‭ ‬شيعي‭ ‬أم‭ ‬سنيّ؟‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬وضعه‭ ‬الأول‭ ‬وهو‭ ‬يحملق‭ ‬فيَّ‭ ‬ينتظر‭ ‬أن‭ ‬أجيبه،‭ ‬فأطلت‭ ‬الجواب‭ ‬فعاد‭ ‬يكرر‭ ‬ما‭ ‬سألني‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬علناً‭ ‬أمام‭ ‬أصحابه‭.‬

لازال‭ ‬استغرابي‭ ‬وخوفي‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭ ‬يتزايد،‭ ‬ولا‭ ‬أقوى‭ ‬على‭ ‬الردِّ‭ ‬مما‭ ‬أسمع‭.‬

ـ‭ ‬عن‭ ‬أيِّ‭ ‬شيعة‭ ‬وسنَّة‭ ‬تتحدثون‭.. ‬نحن‭ ‬بنو‭ ‬الإسلام‭ ‬والله‭ ‬واحد‭ ‬‭(‬قلت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬ردّة‭ ‬فعله‭ ‬إن‭ ‬أجبتُ‭ ‬بإحداها‭ ‬ونفيتُ‭ ‬الأخرى‭)‬‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء‭ ‬باغت‭ ‬الجميع‭ ‬خامسهم‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬ساخراً‭:‬

ـ‭ ‬لعل‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬قهرناهم‭ ‬بالأمس‭ ‬فبعثوه‭ ‬يتجسس‭ ‬علينا‭.. ‬حرٍّقوه‭ ‬وانصروا‭ ‬آلهتكم‭!‬

هذه‭ ‬المرة‭ ‬كاد‭ ‬يُغمى‭ ‬عليَّ‭ ‬حينما‭ ‬سمعتُ‭ ‬ما‭ ‬سمعت،‭ ‬ويبس‭ ‬الدم‭ ‬في‭ ‬عروقي‭ ‬وبدأت‭ ‬أرتجف‭ ‬وأتعرٌّق،‭ ‬وانهارت‭ ‬معنوياتي‭ ‬وسقطتُ‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬كأني‭ ‬أودِّع‭ ‬الحياة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يرموني‭ ‬بالرصاص‭.. ‬فما‭ ‬شأني‭ ‬أنا‭ ‬بمن‭ ‬قهروهم‭ ‬بالأمس؟‭!‬

قال‭ ‬عظيمهم‭ ‬جثة‭ ‬بصوت‭ ‬خشن‭: ‬الله‭ ‬أكبر،اجمعوا‭ ‬الحطب‭.‬

وقبل‭ ‬أن‭ ‬يستفيقوا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬قال‭ ‬سادسهم‭ ‬وكان‭ ‬أعور‭ ‬العين‭ ‬اليمنى‭:‬

ـ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنفذوا‭ ‬حكمكم‭ ‬اسألوه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬عن‭ ‬تواجده‭ ‬هنا‭ ‬كي‭ ‬نحتاط‭ ‬مما‭ ‬يُبيَّت‭ ‬لنا‭.‬

بدأت‭ ‬أجوب‭ ‬المكان‭ ‬ببصري‭ ‬وأنا‭ ‬ملقى‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬علّني‭ ‬أرى‭ ‬شيئاً‭ ‬يكشف‭ ‬لي‭ ‬عن‭ ‬حقيقتهم‭ ‬ويزيح‭ ‬غشاوة‭ ‬كنههم،‭ ‬فلم‭ ‬أرَ‭ ‬خِياماً‭ ‬ولا‭ ‬جِمالاً‭ ‬ولا‭ ‬أحصنةً‭ ‬كما‭ ‬كنتُ‭ ‬أتصور‭ ‬حينما‭ ‬اعتقدتُ‭ ‬أنهم‭ ‬آل‭ ‬عبس؛‭ ‬حتى‭ ‬السيوف‭ ‬لم‭ ‬أرها‭ ‬بأيديهم،‭ ‬ولا‭ ‬نبالاً‭ ‬خلف‭ ‬ظهورهم،‭ ‬ولا‭ ‬رماحاً‭ ‬يتوشّحون‭ ‬بها،‭ ‬فقلت‭ ‬في‭ ‬نفسي‭: ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬يا‭ ‬ربَّ‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬ساقني‭ ‬إليهم؟‭!‬

خامرني‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬كونهم‭ ‬من‭ ‬عبس،‭ ‬فقلت‭: ‬إذن‭ ‬هذه‭ ‬قبيلة‭ ‬ذبيان،‭ ‬لكن‭ ‬أين‭ ‬جيادها‭ ‬وفرسانها‭ ‬وخيامها؟

بينما‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬ريبي‭ ‬أتردد‭ ‬أسمع‭ ‬صوتاً‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬اليسار‭ ‬‭-‬وكان‭ ‬سابعهم‭-‬‭ ‬يقول‭ ‬وهو‭ ‬يصوِّب‭ ‬سلاحه‭ ‬نحوي‭:‬

ـ‭ ‬دعوني‭ ‬أقضي‭ ‬عليه‭ ‬وننهي‭ ‬المسألة‭.. ‬فما‭ ‬تنفعنا‭ ‬حياته‭!‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬أقصرهم،‭ ‬لسانه‭ ‬ليس‭ ‬رطباً‭ ‬بلغة‭ ‬الضاد،‭ ‬فمن‭ ‬حين‭ ‬لحين‭ ‬كان‭ ‬يتلكأ‭ ‬في‭ ‬كلامه‭ ‬حينما‭ ‬حاوره‭ ‬ثامنهم‭ ‬وأنا‭ ‬أسترق‭ ‬السمع‭ ‬لمَّا‭ ‬ساد‭ ‬الصمت‭ ‬بين‭ ‬التسعة‭.. ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة،‭ ‬حتى‭ ‬مظهره‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬أعوانه،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬أشقر،‭ ‬عيناه‭ ‬زرقاوان،‭ ‬شبيه‭ ‬صوته‭ ‬صوت‭ ‬النساء‭ ‬الناعمات‭ ‬في‭ ‬خدورهن‭. ‬فقال‭ ‬له‭ ‬الثامن‭:‬

ـ‭ ‬هل‭ ‬سينضم‭ ‬إلينا‭ ‬هذا‭ ‬الأحمق؟

ـ‭ ‬لا‭ ‬أظن،‭ ‬فهو‭ ‬كما‭ ‬ترى‭ ‬يهذي‭ ‬بكلام،‭ ‬ولا‭ ‬نكاد‭ ‬نفهم‭ ‬منه‭ ‬شيئاً‭.‬

قال‭ ‬له‭ ‬الثامن‭ ‬وهو‭ ‬يحدِّق‭ ‬فيَّ‭:‬

ـ‭ ‬لو‭ ‬قتلناه‭ ‬وانصرفنا،‭ ‬فغيْرُهُ‭ ‬كثير‭.‬

كل‭ ‬الأصوات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬سمعتها‭ ‬إلا‭ ‬واحدا‭ ‬لم‭ ‬يتفوَّه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الساعة‭ ‬بحرف،‭ ‬كان‭ ‬يظهر‭ ‬عليه‭ ‬أنه‭ ‬كئيب،‭ ‬وجهه‭ ‬ليس‭ ‬بالممتلئ‭ ‬مثلهم،‭ ‬ولحيته‭ ‬أقل‭ ‬كثافة‭ ‬من‭ ‬لِحاهم‭. ‬كان‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬جامداً‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬لم‭ ‬يتزحزح‭. ‬هم‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تحركوا‭ ‬في‭ ‬أمكنتهم‭ ‬ببضع‭ ‬خطوات‭ ‬إلا‭ ‬هو،‭ ‬ما‭ ‬به‭ ‬واجمٌ‭ ‬كأن‭ ‬به‭ ‬مساً‭.‬

بعد‭ ‬مدة‭ ‬قصيرة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الهدوء‭ ‬المقلق‭ ‬سمعت‭ ‬أولهم‭ ‬يقول‭ ‬لهم‭: ‬إن‭ ‬النساء‭ ‬قادمات‭. ‬ازددتُ‭ ‬حيرة‭ ‬مما‭ ‬أسمع‭ ‬وحدثتني‭ ‬نفسي‭ ‬بأنهن‭ ‬سبايا‭ ‬حرب،‭ ‬ولم‭ ‬أدر‭ ‬أيكون‭ ‬مصيري‭ ‬مثلهن‭ ‬أم‭ ‬ماذا‭. ‬ربما‭ ‬سيسجنونني‭ ‬رفقتهن‭. ‬تباً‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬معضلة‭.‬

وما‭ ‬هي‭ ‬سوى‭ ‬دقائق‭ ‬معدودة‭ ‬حتى‭ ‬توافدت‭ ‬النساء‭.. ‬كنَّ‭ ‬شقراوات،‭ ‬بيض‭ ‬البشرة،‭ ‬مصقولة‭ ‬ترائبهنَّ،‭ ‬يمشين‭ ‬مشي‭ ‬الظباء‭ ‬فوق‭ ‬الكثيب،‭ ‬فقلت‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭: ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أنهن‭ ‬أسيرات،‭ ‬فلا‭ ‬قيد‭ ‬يحكم‭ ‬أيديهن‭ ‬أو‭ ‬أرجلهن‭. ‬لا‭ ‬شك‭ ‬أنهن‭ ‬نساء‭ ‬إحدى‭ ‬القبيلتين،‭ ‬فأنا‭ ‬لم‭ ‬أدر‭ ‬بعد‭ ‬أأنا‭ ‬في‭ ‬عبس‭ ‬أم‭ ‬ذبيان؛‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬أأنا‭ ‬في‭ ‬زمنهم‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬آخر؟‭!‬

قال‭ ‬لي‭ ‬أحدهم‭ ‬ساخراً‭ ‬‭-‬وكنت‭ ‬أظنه‭ ‬رابعهم‭-‬‭ ‬وهو‭ ‬يتضاحك‭:‬

ـ‭ ‬ما‭ ‬رأيك‭ ‬أن‭ ‬نتوِّجك‭ ‬ملكاً‭ ‬علينا‭ ‬فتأمر‭ ‬وتنهى‭ ‬فينا‭ ‬كما‭ ‬تريد؟

شرع‭ ‬الجميع‭ ‬يقهقهون‭ ‬كعادتهم‭ ‬أول‭ ‬مرة،‭ ‬وتعالى‭ ‬ضحكهم‭ ‬وصيحاتهم‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى،‭ ‬واقتربت‭ ‬منّي‭ ‬إحدى‭ ‬الشقراوات‭ ‬فقالت‭ ‬لي‭ ‬بصوتها‭ ‬الناعم‭:‬

ـ‭ ‬ونحن‭ ‬سنكون‭ ‬جواريك‭ ‬يا‭ ‬مولاي‭.‬

عاودت‭ ‬المجموعة؛‭ ‬ذكرانها‭ ‬وإناثها‭ ‬الضحك‭ ‬والتقلب‭ ‬في‭ ‬قهقهتهم‭ ‬ونهيقهم‭ ‬ونعيقهم‭ ‬المتقطع،‭ ‬وشرعوا‭ ‬يهتفون‭ ‬جميعهم؛‭ ‬وكان‭ ‬سادسهم‭ ‬أكثرهم‭ ‬قهقهة،‭ ‬فقد‭ ‬ميّزته‭ ‬من‭ ‬بينهم،‭ ‬كان‭ ‬ضعيف‭ ‬البنية‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قيس‭ ‬بأجسادهم،‭ ‬كلما‭ ‬ضحك‭ ‬حاول‭ ‬أن‭ ‬يخفي‭ ‬ابتسامته،‭ ‬ربما‭ ‬خشي‭ ‬أن‭ ‬أراه؛‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬أسنانه‭ ‬مبعثرة،‭ ‬ورباعيتاه‭ ‬غير‭ ‬موجودتين،‭ ‬فبدا‭ ‬كأنه‭ ‬وحش‭ ‬بشع‭ ‬المنظر‭.‬

بقيتُ‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬متلئب‭ ‬الأفكار،‭ ‬وازددتُ‭ ‬حيرة‭ ‬للمرة‭ ‬الألف‭ ‬في‭ ‬حقيقتهم‭.. ‬والذي‭ ‬حيَّرني‭ ‬أكثر‭ ‬هؤلاء‭ ‬النسوة‭ ‬اللاتي‭ ‬انضممن‭ ‬إليهم،‭ ‬أهُنَّ‭ ‬زوجات‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرجال؟‭ ‬لكن‭ ‬عددهن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عددهم،‭ ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬جاء‭ ‬بهن‭ ‬إلى‭ ‬هنا،‭ ‬نساء‭ ‬بأيديهن‭ ‬بنادق‭ ‬كالرجال‭ ‬أمر‭ ‬محيِّر‭. ‬ينزلن‭ ‬مكاناً‭ ‬قفراً‭ ‬كهذا‭ ‬لا‭ ‬أنيس‭ ‬به‭ ‬غير‭ ‬هؤلاء‭ ‬المتنمِّرين‭ ‬عليَّ‭ ‬أمر‭ ‬يدعو‭ ‬للدهشة‭ ‬ويعيد‭ ‬للأذهان‭ ‬حكايات‭ ‬وأساطير‭ ‬عن‭ ‬نساء‭ ‬يَخْرُجْنَ‭ ‬للمغامرة‭.‬

وبينما‭ ‬أنا‭ ‬أحاور‭ ‬نفسي‭ ‬إذْ‭ ‬بالرجل‭ ‬الصامت‭ ‬ينطق‭ ‬أخيراً‭. ‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬انفكت‭ ‬عقدة‭ ‬لسانه،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يهمّني‭ ‬أن‭ ‬ينطق،‭ ‬فكلهم‭ ‬سواء‭ ‬عندي‭ ‬ما‭ ‬داموا‭ ‬يحيطون‭ ‬بي‭ ‬كالسوار‭ ‬في‭ ‬المعصم‭ ‬ولا‭ ‬يتركون‭ ‬لي‭ ‬متنفساً‭ ‬ولا‭ ‬تركوني‭ ‬أمضي‭ ‬لشأني‭. ‬فقال‭ ‬بعدما‭ ‬أشار‭ ‬إلى‭ ‬الكل‭ ‬بإبعاد‭ ‬أسلحتهم‭ ‬عن‭ ‬وجهي‭:‬

ـ‭ ‬أطلقوا‭ ‬سراحه‭ ‬وهيا‭ ‬بنا‭ ‬من‭ ‬هنا‭.‬

ظننتُ‭ ‬أخيراً‭ ‬أنني‭ ‬سأنجو‭ ‬فقد‭ ‬راودني‭ ‬شك‭ ‬بأن‭ ‬تاسعهم‭ ‬هذا‭ ‬قد‭ ‬تفهَّمَ‭ ‬وضعي‭ ‬وأيقن‭ ‬أني‭ ‬تائه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الصحراء‭ ‬البائدة،‭ ‬فرثى‭ ‬لحالي‭ ‬وأمر‭ ‬بإخلاء‭ ‬سبيلي‭. ‬الحمد‭ ‬لله‭! ‬أخيراً‭ ‬سأخرج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الضائقة‭ ‬وأعود‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أتيت‭.‬

انصرفت‭ ‬المجموعة‭ ‬وبدأت‭ ‬تبتعد‭ ‬عن‭ ‬نظري‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬توارت،‭ ‬فالتفت‭ ‬إليَّ‭ ‬الصامت‭ ‬الناطق‭ ‬وأشار‭ ‬إليَّ‭ ‬بالقدوم‭ ‬نحوه،‭ ‬فظننتُ‭ ‬أنه‭ ‬سيرجع‭ ‬عن‭ ‬رأيه،‭ ‬وعاودني‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬ولم‭ ‬أستطع‭ ‬أن‭ ‬أحرِّك‭ ‬رجليَّ،‭ ‬ولما‭ ‬تباطأت‭ ‬في‭ ‬القدوم‭ ‬رأيت‭ ‬شرارة‭ ‬تنبعث‭ ‬من‭ ‬عينيه،‭ ‬فرفع‭ ‬بندقيته‭ ‬وصوَّبها‭ ‬نحوي‭ ‬فانتفضتُ‭ ‬في‭ ‬مكاني‭ ‬فإذا‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬آخر‭. ‬نظرتُ‭ ‬عن‭ ‬يميني‭ ‬وشمالي‭ ‬فلم‭ ‬أجد‭ ‬أحداً‭ ‬ونبضات‭ ‬قلبي‭ ‬تخفق‭ ‬بسرعة‭ ‬والهلع‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يكتم‭ ‬أنفاسي‭ ‬وأنا‭ ‬أتنهد‭ ‬وأتعرَّق‭.. ‬مددتُ‭ ‬يدي‭ ‬إلى‭ ‬قارورة‭ ‬ماء‭ ‬أطفئ‭ ‬بها‭ ‬حرارة‭ ‬الجو‭ ‬الساخن،‭ ‬فما‭ ‬عشته‭ ‬كان‭ ‬سوى‭ ‬حلم‭ ‬مخيف‭.. ‬وبعدما‭ ‬سكن‭ ‬روعي‭ ‬أخذت‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬سقط‭ ‬من‭ ‬يدي‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬مفتوحاً‭ ‬في‭ ‬الصفحة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أطالعها‭ ‬فوقع‭ ‬بصري‭ ‬على‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬داعش‭ ‬والغبراء‭ ‬‮«‬‭. ‬مسحتُ‭ ‬عيني‭ ‬فلم‭ ‬أقرأ‭ ‬العنوان‭ ‬جيداً،‭ ‬بل‭ ‬‮«‬داحس‭ ‬والغبراء‮»‬‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.