الأنتلجنسيا‭ ‬العربية

الخميس 2017/06/01
لوحة: بهرام حاجو

هل يحتاج‭ ‬العنف‭ ‬‭-‬دائما‭-‬‭ ‬إلى‭ ‬نص‭ ‬تاريخي‭ ‬أو‭ ‬ديني‭ ‬أو‭ ‬ثقافي‭ ‬يبرره؟‭ ‬وهل‭ ‬باتت‭ ‬الأنتلجنسيا‭ ‬العربية‭ ‬أكثر‭ ‬رثاثة‭ ‬لتنأى‭ ‬بنفسها‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬صناعة‭ ‬النص‭ ‬المُضاد؟‭ ‬هذان‭ ‬السؤالان،‭ ‬يُثيران‭ ‬الآن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬اللبْس‭ ‬والغموض،‭ ‬ليس‭ ‬لأنهما‭ ‬يعكسان‭ ‬إشكالية‭ ‬خطيرة‭ ‬ووعيا‭ ‬مشوّشا‭ ‬وعاطلا‭ ‬عن‭ ‬الإرادة،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أنهما‭ ‬يُسهمان‭ ‬في‭ ‬تعرية‭ ‬المفارقة‭ ‬النصوصية‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬الاجتماع‭ ‬الثقافي‭ ‬العاطل‭ ‬عن‭ ‬هويته‭ ‬والفاقد‭ ‬لقدرته‭ ‬في‭ ‬تجاوز‭ ‬مراثي‭ ‬الكساد‭ ‬الثقافي‭ ‬حيث‭ ‬يعيش‭ ‬المثقف‭ ‬العربي‭ ‬أوهام‭ ‬الضحية‭ ‬والقربان،‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬تماهيه‭ ‬مع‭ ‬لذة‭ ‬الفرجة‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬وهم‭ ‬المُنقذ‭ ‬الأخلاقي‭.‬

هذا‭ ‬ليس‭ ‬جلدا‭ ‬للذات،‭ ‬كما‭ ‬يفترض‭ ‬البعض،‭ ‬وليس‭ ‬هروبا‭ ‬للأمام‭ ‬أيضا،‭ ‬لكنه‭ ‬واقع‭ ‬الحال،‭ ‬وواقع‭ ‬المحنة‭ ‬التي‭ ‬نعيشها،‭ ‬فما‭ ‬يحدث‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬وقائعنا‭ ‬الثقافية‭ ‬من‭ ‬فجائع‭ ‬وخيبات‭ ‬ومن‭ ‬مظاهر‭ ‬للغلوّ‭ ‬والتطرف‭ ‬والعنف‭ ‬يؤكد‭ ‬وجود‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الرمادية،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تستدعي‭ ‬الحاجة‭ ‬لفحص‭ ‬ومراجعة‭ ‬طبائع‭ ‬ما‭ ‬كرّسته‭ ‬نُظم‭ ‬الاستبداد‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬وأمنيا‭ ‬وثقافيا،‭ ‬مثلما‭ ‬تفترض‭ ‬حيازة‭ ‬رؤية‭ ‬واضحة‭ ‬للتعرّف‭ ‬على‭ ‬حمولات‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬الغائمة،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬لفهم‭ ‬أسباب‭ ‬نشوئها،‭ ‬ولطبيعة‭ ‬مرجعياتها‭ ‬المُعلَنة‭ ‬والمُضمَرة،‭ ‬وإدراك‭ ‬ما‭ ‬يحوط‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬تعقيدات‭ ‬ومن‭ ‬أزمات‭.‬

‭ ‬وسط‭ ‬هذا‭ ‬الرعب‭ ‬العمومي‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬أمام‭ ‬رهابٍ‭ ‬معقد‭ ‬لسرديات‭ ‬الصورة‭/‬صورة‭ ‬الفقيه‭ ‬والجنرال‭ ‬والزعيم‭ ‬والذي‭ ‬يتكئ‭ ‬على‭ ‬تراثٍ‭ ‬من‭ ‬المهيمنات‭ ‬السياسية‭ ‬والتاريخية‭ ‬الضاغطة،‭ ‬فضلا‭ ‬عمّا‭ ‬يستعين‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬نصوصٍ‭ ‬جائرة‭ ‬لها‭ ‬لبوس‭ ‬الغواية‭ ‬والقوة،‭ ‬ولها‭ ‬أسانيد‭ ‬فقهية‭ ‬تضع‭ ‬السؤال‭ ‬الثقافي‭ ‬الضد‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬‮«‬الهرطقة‮»‬،‭ ‬مثلما‭ ‬تضعه‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الخروج‭ ‬المارق‭ ‬عن‭ ‬فقه‭ ‬الأمة‭ ‬وولاية‭ ‬الأمر،‭ ‬وبالتالي‭ ‬وضع‭ ‬القيود‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬خطابٍ‭ ‬ثقافي‭ ‬يمكنه‭ ‬أنْ‭ ‬يتبنّى‭ ‬فاعلية‭ ‬السجال‭ ‬والتحليل‭ ‬والجدل‭ ‬والشك،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬قطع‭ ‬الطريق‭ ‬على‭ ‬التعاطي‭ ‬العقلاني‭ ‬مع‭ ‬إشكاليات‭ ‬تداولية‭ ‬لمفاهيم‭ ‬قابلة‭ ‬للنقد،‭ ‬مثل‭ ‬النقل‭ ‬والعقل‭ ‬والحرية‭ ‬والشرع‭ ‬والدولة‭ ‬والأمة‭ ‬دونما‭ ‬إكراهات،‭ ‬حتى‭ ‬باتت‭ ‬هذه‭ ‬المفاهيم‭ ‬مُحدّدة‭ ‬الاستعمال‭ ‬ومتموضعة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬فهمٍ‭ ‬معين،‭ ‬لا‭ ‬تأثير‭ ‬لها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬استثارة‭ ‬الوعي‭ ‬وتحفيز‭ ‬التفكير‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬توسيع‭ ‬فاعليات‭ ‬النظر‭ ‬للواقع‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والتربوي‭ ‬والحقوقي‭ ‬والإعلامي‭ ‬وحتى‭ ‬السياسي‭.‬

الكثير‭ ‬من‭ ‬معطيات‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬تعكس‭ ‬طبيعة‭ ‬الأزمات‭ ‬المتراكمة‭ ‬ورثاثة‭ ‬الخطاب‭ ‬الثقافي‭ ‬وتهميشه‭ ‬وبما‭ ‬يُسهم‭ ‬في‭ ‬تضخيم‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسي‭ ‬السلطوي‭ ‬والخطاب‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬وحتى‭ ‬الخطاب‭ ‬الفقهي،‭ ‬لنجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬أمام‭ ‬مصادر‭ ‬عميقة‭ ‬لتسويق‭ ‬التهويم‭ ‬العنفي‭ ‬والتقديسي‭ ‬لظاهرة‭ ‬‮«‬الحاكمية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تحدّث‭ ‬عنها‭ ‬أبوالأعلى‭ ‬المودودي‭ ‬وسيد‭ ‬قطب،‭ ‬وهما‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬ظاهرة‭ ‬صناعة‭ ‬الفكر‭ ‬العنفي‭ ‬وتعطيل‭ ‬الوظيفة‭ ‬التحليلية‭ ‬للخطاب‭ ‬الثقافي‭.‬

نقد‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬هو‭ ‬عتبة‭ ‬إجرائية‭ ‬لمواجهة‭ ‬الأزمة‭ ‬وتعرية‭ ‬خطابها‭ ‬التاريخي‭ ‬والثقافي،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬أصحاب‭ ‬مشروع‭ ‬نقد‭ ‬العقل‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي‭ ‬مثل‭ ‬محمد‭ ‬عابد‭ ‬الجابري‭ ‬وجورج‭ ‬طرابيشي‭ ‬ومحمد‭ ‬أركون‭ ‬وهشام‭ ‬جعيط‭ ‬ومحمد‭ ‬الطالبي‭ ‬وعبدالجبار‭ ‬الرفاعي‭ ‬وغيرهم‭ ‬قد‭ ‬وضعوا‭ ‬تصورا‭ ‬عن‭ ‬الطبيعة‭ ‬الإشكالية‭ ‬لنقد‭ ‬هذا‭ ‬العقل،‭ ‬مواجهة‭ ‬تمثلاته‭ ‬الصيانية،‭ ‬فإن‭ ‬ضعف‭ ‬تداوله‭ ‬قد‭ ‬أفقده‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تحويله‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬نظيرة‭.‬

كما‭ ‬أنّ‭ ‬تضخم‭ ‬الظاهرة‭ ‬السياسية‭ ‬الجماعتية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬سمّي‭ ‬بـ‮»‬الربيع‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬وبروز‭ ‬ظاهرة‭ ‬الإرهاب‭ ‬التكفيري‭ ‬أصبحت‭ ‬غطاء‭ ‬عائما‭ ‬لصناعة‭ ‬الرعب‭ ‬وترويجه‭ ‬والتبشير‭ ‬بخطابه،‭ ‬ومصدرا‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬تعطيل‭ ‬إرادة‭ ‬تمثيل‭ ‬الدولة‭ ‬الحديثة‭ ‬وحيازة‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬العقل،‭ ‬والوقوف‭ ‬أمام‭ ‬سايكوباثيا‭ ‬العطب‭ ‬الثقافي،‭ ‬عطب‭ ‬الحضور‭ ‬والممارسة‭ ‬والمؤسسة‭ ‬والتعليم‭ ‬والتنمية‭.‬

هذا‭ ‬العطب‭ ‬الثقافي‭ ‬انعكس‭ ‬بشكل‭ ‬مريع‭ ‬على‭ ‬واقعنا‭ ‬العربي،‭ ‬حدّ‭ ‬أنه‭ ‬صار‭ ‬عطبا‭ ‬إشكاليا‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬السلطة‭ ‬وفي‭ ‬أنماط‭ ‬السلوك‭ ‬والتفكير،‭ ‬وتماهيا‭ ‬غرائبيا‭ ‬مع‭ ‬القوة‭ ‬الطاردة‭/‬قوة‭ ‬الجماعة‭ ‬والأدلجة‭ ‬والاستبداد،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬انعكس‭ ‬أيضا‭ ‬على‭ ‬تمثلات‭ ‬الأنتلجنسيا‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬وعيها‭ ‬لشروط‭ ‬المشروع‭ ‬التنويري،‭ ‬وفي‭ ‬جدّتها‭ ‬لمواجهة‭ ‬أوهام‭ ‬الرعب‭ ‬السلفي،‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬بات‭ ‬يُبشّر‭ ‬علنا‭ ‬بالمقدس‭ ‬الماضوي‭ ‬والدولة‭ ‬الماضوية‭ ‬والتطهير‭ ‬الماضوي‭.‬

هذا‭ ‬الرعب‭ ‬اكتسب‭ ‬وسط‭ ‬العطب‭ ‬الثقافي‭ ‬قوته‭ ‬الطاردة،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬شرعنة‭ ‬إخضاع‭ ‬الثقافي‭ ‬إلى‭ ‬السياسي‭/‬السلطوي،‭ ‬وربما‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬بنية‭ ‬إطارية‭ ‬لترسيم‭ ‬حدود‭ ‬الثقافي،‭ ‬في‭ ‬وصفه،‭ ‬وفي‭ ‬تأويله‭ ‬وفي‭ ‬وظيفته‭ ‬عند‭ ‬المواجهة‭ ‬والنقد،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الخضوع‭ ‬لها،‭ ‬ولعل‭ ‬تحوّل‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬حُرّاس‭ ‬أيديولوجيين‮»‬‭ ‬لهذه‭ ‬السلطة‭/‬مؤسسة‭ ‬الرعب‭ ‬هو‭ ‬أخطر‭ ‬تمثلات‭ ‬ذلك‭ ‬العطب،‭ ‬حيث‭ ‬تتسع‭ ‬صورة‭ ‬الجنرال‭/‬الفقيه‭ ‬وتغيب‭ صورة‭ ‬الساموراي‭ ‬الذي‭ ‬أراده‭ ‬يوكوشيما‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.