سأخبرك‭ ‬عزيزي‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جذبني‭ ‬إليك

الخميس 2017/06/01
لوحة: بهرام حاجو

‬لحظات‭ ‬الصمت‭ ‬البيضاء‭ ‬يخدشها‭ ‬صوت‭ ‬حبات‭ ‬البن‭ ‬وهي‭ ‬تتحرك‭ ‬يمنة‭ ‬ويسرة‭ ‬في‭ ‬‭(‬القلاية‭)‬‭ ‬‭(‬1‭)‬،‭ ‬تبعاً‭ ‬لحركة‭ ‬الملعقة‭ ‬الهادئة‭ ‬التي‭ ‬تلتف‭ ‬حولها‭ ‬أصابعها‭ ‬الناحلة،‭ ‬يدها‭ ‬الثابتة‭ ‬التي‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطقس‭ ‬لا‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬امرأة‭ ‬في‭ ‬الستين،‭ ‬أرتفعُ‭ ‬ببصري‭ ‬شيئاً‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬وجهها‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية‭ ‬وهي‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل‭ ‬مطرقةً‭ ‬تكاد‭ ‬تلامس‭ ‬المقلاة‭ ‬سوى‭ ‬أنفها‭ ‬البارز،‭ ‬شعيرات‭ ‬سوداء‭ ‬معاندة‭ ‬نسيها‭ ‬الزمن‭ ‬تطل‭ ‬من‭ ‬شعرها‭ ‬الأجعد‭ ‬القليل

•‭ ‬لا‭ ‬أحبّه‭ ‬طويلاً‭.. ‬تقول

‮ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬شبابها‭ ‬تعمد‭ ‬إلى‭ ‬قصّهِ،‭ ‬تكمل‭ ‬به‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الفعال‭ ‬التي‭ ‬تكسبها‭ ‬خفة‭ ‬الحركة‭ ‬كما‭ ‬تقول،‭ ‬كلامها‭ ‬المتعجل،‭ ‬خطواتها‭ ‬المتسعة،‭ ‬ملابسها‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬ملابس‭ ‬الرجال

من‭ ‬بين‭ ‬همهماتها‭: ‬طق‮…‬‭ ‬طق‮…‬‭. ‬طق‮…‬‭ ‬التي‭ ‬ترددها‭ ‬دائماً‭ ‬كأنها‭ ‬تقلد‭ ‬صوتاً‭ ‬صادراً‭ ‬من‭ ‬قلبِ‭ ‬حبات‭ ‬البن،‭ ‬جاء‭ ‬صوتها‭ ‬معفراً‭ ‬برائحة‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬من‭ ‬القهوة‭:‬

‭-‬‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السن؟

‮ ‬مجيبة‭ ‬على‭ ‬دعوتي‭ ‬للخروج‭ ‬في‭ ‬نزهة‭ ‬إلى‭ ‬الجزء‭ ‬الغائم‭ ‬من‭ ‬الحب،‭ ‬كما‭ ‬كنا‭ ‬نسميه‭ ‬قبل‭ ‬خمسين‭ ‬سنة‭.‬

وأردفت‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جعلك‭ ‬تلتفت‭ ‬إليّ،‭ ‬أسأل‭ ‬نفسي‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬بجدية‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خرجنا‭ ‬إلى‭ ‬الجانب‭ ‬المشمس‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تحرّرت‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكذبة‭.‬

طقس‭ ‬الحب‭ ‬نصف‭ ‬غائم،‭ ‬هذه‭ ‬المقولة‭ ‬السحرية‭ ‬التي‭ ‬آمنا‭ ‬بها،‭ ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬متى‭ ‬سمعتها‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬ولا‭ ‬كيف‭ ‬آمنت‭ ‬بها‭ ‬أو‭ ‬قل‭ ‬كيف‭ ‬آمنّا‭ ‬بها‭ ‬أنا‭ ‬وهي،‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الحب‭ ‬يحدث‭ ‬تواطؤ‭ ‬غريب‭ ‬بين‭ ‬المحبين‭ ‬تتلاقى‭ ‬أفكارهما‭.‬

كنتُ‭ ‬أصدق‭ ‬كل‭ ‬أكاذيبك،‭ ‬الجزء‭ ‬الغائم‭ ‬من‭ ‬طقس‭ ‬الحب،‭ ‬هناك‭ ‬جزء‭ ‬غائم‭ ‬أعني‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬تغيب‭ ‬فيه‭ ‬الشمس‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬على‭ ‬ضوئها‭ ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون،‭ ‬تراني‭ ‬أجمل‭ ‬النساء‭ ‬وأنا‭ ‬لستُ‭ ‬كذلك،‭ ‬هذا‭ ‬تأثير‭ ‬سكرة‭ ‬الحب‭ ‬التي‭ ‬تعتريك‭.‬

الظلُّ‭ ‬المسكر،‭ ‬خذني‭ ‬مثلاً‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬أراك‭ ‬حتى‭ ‬تأخذني‭ ‬حالة‭ ‬السكر‭ ‬هذه،‭ ‬أبدو‭ ‬طيبة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬البلاهة،‭ ‬تصور‭ ‬لم‭ ‬أفكر‭ ‬يوماً‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬لا،‭ ‬مهما‭ ‬قلت‭ ‬لي،‭ ‬أنت‭ ‬كذلك‭ ‬أراك‭ ‬تترنح‭ ‬عندما‭ ‬تراني‭ ‬مجرد‭ ‬دخولك‭ ‬مجالي‭.‬

أنظر‭ ‬إلى‭ ‬هذين‭ ‬اللذين‭ ‬يسيران‭ ‬معاً،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬كامل‭ ‬صحوه،‭ ‬لكن‭ ‬أنظر‭ ‬إليها‭ ‬إنها‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انجذاب‭ ‬كامل‭ ‬يعيشان‭ ‬طقسين‭ ‬مختلفين‭ ‬تماماً‭.‬

‮ ‬تقترب‭ ‬مني‭ ‬أكثر‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الظل‭ ‬الرفيع‭ ‬ننتظر‭ ‬الحافلة‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬متباعدة‭.‬

أحب‭ ‬هذا‭ ‬الانتظار‭ ‬معك‭. ‬أنظر‭ ‬إليهما‭ ‬كم‭ ‬تبدو‭ ‬سعيدة،‭ ‬لا‭ ‬يعنيها‭ ‬الحر‭ ‬ولا‭ ‬طول‭ ‬الانتظار‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬ضجر‭ ‬متأفف‭.‬

الحياة‭ ‬أصبحت‭ ‬أكثر‭ ‬عنتاً،‭ ‬الفقر‭ ‬الذي‭ ‬يلون‭ ‬الوجوه،‭ ‬المعاناة‭ ‬التي‭ ‬وأدت‭ ‬البريق‭ ‬في‭ ‬العيون،‭ ‬الرهق‭ ‬من‭ ‬مطاردة‭ ‬الأحلام‭ ‬الصغيرة‭ ‬بعد‭ ‬تنحّي‭ ‬الأحلام‭ ‬الكبيرة‭ ‬نهائياً،‭ ‬كنا‭ ‬قادرين‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬فرح‭ ‬دائم‭.‬

‮ ‬تتصاعد‭ ‬رائحة‭ ‬البن،‭ ‬تأخذني‭ ‬بعيداً،‭ ‬تجتمع‭ ‬حياتنا‭ ‬السابقة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬ذكرى‭ ‬مضغوطة،‭ ‬تنشّرها‭ ‬رائحة‭ ‬البن،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ترفع‭ ‬رأسها‭:‬

هي‭ ‬سكرة‭ ‬الحب،‭ ‬الجزء‭ ‬الخمري‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬لن‭ ‬تجيب‭ ‬على‭ ‬سؤالي‭ ‬أعرف‭ ‬ذلك،‭ ‬لن‭ ‬تقول‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جذبك‭ ‬إليّ،‭ ‬سأتجاوزه‭ ‬إلى‭ ‬سؤال‭ ‬آخر‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جذبني‭ ‬إليك،‭ ‬لماذا‭ ‬تنظر‭ ‬إليّ‭ ‬هكذا؟‭ ‬ألم‭ ‬تسأل‭ ‬نفسك‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬من‭ ‬قبل؟‭ ‬سأقول‭ ‬لك‭.‬

‮ ‬توقّفت‭ ‬الحافلةُ‭ ‬انقضّ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬عليها،‭ ‬ابتسمت‭ ‬وأنا‭ ‬أراها‭ ‬جالسة‭ ‬في‭ ‬مكانها،‭ ‬كيف‭ ‬تمكنت‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬حجزت‭ ‬لي‭ ‬مكاناً‭ ‬بجانبها‭.‬

لا‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬البنت‭ ‬والولد‭ ‬إلا‭ ‬بهذا‭ ‬التصنع،‭ ‬والرقة‭ ‬الزائفة‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أحتاجها‭ ‬فقد‭ ‬دخلتَ‭ ‬طقسي‭ ‬ولن‭ ‬أفْلتك،‭ ‬تنظر‭ ‬من‭ ‬شباك‭ ‬الحافلة‭:‬

•‭ ‬أنظر‭ ‬إليها‭ ‬تقف‭ ‬متصنعةً‭ ‬الرقة،‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬له‭ ‬أنها‭ ‬الأكثر‭ ‬رقة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬بنات‭ ‬حواء،‭ ‬لو‭ ‬تأكدَتْ‭ ‬من‭ ‬حبه‭ ‬لها‭ ‬لما‭ ‬احتاجت‭ ‬لكل‭ ‬هذا‭ ‬العناء‭.‬

‮ ‬يعجبني‭ ‬فيها‭ ‬تجاوزها‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬التفاصيل،‭ ‬لا‭ ‬تقف‭ ‬إلا‭ ‬عند‭ ‬العناوين‭ ‬الرئيسة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬فهما‭ ‬سهلاً‭ ‬جداً‭.‬

أذكر‭ ‬يوم‭ ‬رأيتها‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬وأنا‭ ‬أقدّم‭ ‬لها‭ ‬أوراقي‭ ‬طالباً‭ ‬وظيفة‭ ‬في‭ ‬الشركة‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬بها‭:‬

•‭ ‬يمكنك‭ ‬المرور‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع‭.‬

•‭ ‬رفضوا‭ ‬طلبك‭ ‬لن‭ ‬يوظفوك‭ ‬لستَ‭ ‬ممن‭ ‬يبحثون‭ ‬عنهم،‭ ‬الأمر‭ ‬يا‭ ‬عزيزي‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمؤهلات‭ ‬وغيرها،‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬مرة‭ ‬ثانية،‭ ‬كما‭ ‬قلت‭ ‬لك‭ ‬لن‭ ‬يوظفوك،‭ ‬لكن‭ ‬يسعدني‭ ‬أن‭ ‬أراك‭ ‬ثانية‭.‬

لم‭ ‬تثر‭ ‬دعوتها‭ ‬هذي‭ ‬اهتمامي،‭ ‬أخذت‭ ‬أوراقي،‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬ماذا‭ ‬حدث‭ ‬لكنني‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬في‭ ‬مكتبها،‭ ‬ابتسمَتْ‭ ‬ابتسامةً‭ ‬فسيحة،‭ ‬بعد‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬كنا‭ ‬نجلس‭ ‬متقابلين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المطعم‭ ‬الصغير‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬انتشرت‭ ‬مؤخراً‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬لا‭ ‬يميز‭ ‬الواحد‭ ‬منها‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬غيره،‭ ‬الديكورات،‭ ‬نوع‭ ‬الوجبات‭ ‬المقدمة،‭ ‬البنات‭ ‬القادمات‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬دول‭ ‬الجوار‭ ‬يقدمن‭ ‬خدماتهن‭ ‬بغنج‭ ‬ممجوج‭:‬

•‭ ‬كنت‭ ‬متأكدة‭ ‬من‭ ‬أنك‭ ‬ستأتي،‭ ‬لن‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬لماذا‭ ‬الآن‭ ‬لكن‭ ‬سأقول‭ ‬لك‭ ‬لاحقاً‭.‬

تنقّر‭ ‬على‭ ‬المائدة‭ ‬دون‭ ‬توتر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬يعتري‭ ‬الفتيات‭ ‬في‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭ ‬عادة،‭ ‬تبدو‭ ‬كأنها‭ ‬خارجة‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬أفلام‭ ‬الأبيض‭ ‬والأسود،‭ ‬ألوان‭ ‬ملابسها‭ ‬هادئة‭ ‬جداً،‭ ‬لا‭ ‬تضع‭ ‬طلاء‭ ‬ولا‭ ‬أصباغ،‭ ‬تحس‭ ‬أن‭ ‬صوتها‭ ‬يسبق‭ ‬حركة‭ ‬شفتيها‭.‬

قالت‭ ‬بثبات‭ ‬صدمني‭:‬

•‭ ‬أحببت‭ ‬أن‭ ‬أراك‭ ‬ثانية،‭ ‬ربما‭ ‬أحببتك‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬نظرة‭ ‬كما‭ ‬يقولون‭.‬

نساؤنا‭ ‬يوارين‭ ‬مشاعرهن‭ ‬خلف‭ ‬صمت‭ ‬شاهق،‭ ‬تحدثت‭ ‬معي‭ ‬بمنتهى‭ ‬الطلاقة،‭ ‬لم‭ ‬تهتم‭ ‬كثيراً‭ ‬بتحفظي،‭ ‬قالت‭ ‬ما‭ ‬لديها،‭ ‬ودَعتني‭ ‬بثقة‭ ‬إلى‭ ‬لقاء‭ ‬آخر‭ ‬بعد‭ ‬غد‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المكان‭ ‬والموعد‭ ‬قالت‭ ‬لي‭:‬

•‭ ‬لا‭ ‬تنسَ‭ ‬الموعد‭.‬

‮ ‬حتى‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تسألني‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬سآتي‭ ‬أم‭ ‬لا‭.‬

•‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬وأنت‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جذبني‭ ‬إليك،‭ ‬سأقول‭ ‬لك‮…‬

وضعت‭ ‬البن‭ ‬في‭ ‬‭(‬الفندك‭)(‬2‭)‬‭: ‬سأجيبك‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬الشرس،‭ ‬سألتني‭ ‬كثيراً‭ ‬وأجبتك‭ ‬آلاف‭ ‬المرات‭ ‬ومازلت‭ ‬تنتظر‭ ‬إجاباتي،‭ ‬أستمتع‭ ‬بمتابعتها‭ ‬وهي‭ ‬‭(‬تفنْدكُ‭)‬‭ ‬البن،‭ ‬خمسون‭ ‬عاماً،‭ ‬وأنا‭ ‬أحترم‭ ‬انكفاءها‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات،‭ ‬على‭ ‬إيقاع‭ ‬لحن‭ ‬كردفاني‭ ‬‭(‬3‭)‬‭ ‬جميل‭ ‬تتهشم‭ ‬حبات‭ ‬البن‭ ‬رويداً‭ ‬رويداً،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬أسلم‭ ‬من‭ ‬حصار‭ ‬ثرثراتها،‭ ‬التي‭ ‬بدأتها‭ ‬يوم‭ ‬الزفاف،‭ ‬ونحن‭ ‬نسير‭ ‬بين‭ ‬المدعوين،‭ ‬كانت‭ ‬تضحك‭ ‬وتثرثر،‭ ‬وتسرّ‭ ‬لي‭ ‬بهمساتها‭ ‬وملاحظاتها‭ ‬على‭ ‬المدعوين‭.‬

‭-‬‭ ‬كوني‭ ‬كما‭ ‬‭(‬‭ ‬العروسات‭)‬‭ ‬خجولة،‭ ‬تعثري‭ ‬في‭ ‬فستانك،‭ ‬أظهري‭ ‬ارتباكاً‭ ‬ستحفظه‭ ‬لك‭ ‬كبيرات‭ ‬العائلة

‭-‬‭ ‬كلهن‭ ‬كاذبات؟

‭-‬كبيرات‭ ‬العائلة؟

‭-‬لا‭ ‬العروسات

حالة‭ ‬الضحك‭ ‬التي‭ ‬اعترتنا‭ ‬وكسرت‭ ‬زجاج‭ ‬الوقار‭ ‬الزائف،‭ ‬دفعنا‭ ‬ثمنها‭ ‬طويلاً‭.‬

‭(‬‭ ‬البت‭ ‬عينها‭ ‬قوية‭)‬‭ ‬‭(‬4‭)‬،‭ ‬سرت‭ ‬الهمسات،‭ ‬تلاقت‭ ‬الرؤوس،‭ ‬تناثرت‭ ‬الغمزات‮…‬

•‭ ‬عينها‭ ‬قوية‭ ‬إذن‭ ‬تم‭ ‬الحكم‭ ‬عليّ‭ ‬لن‭ ‬أحتاج‭ ‬للتصنع،‭ ‬سأتصرف‭ ‬كما‭ ‬أشاء،‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأحكام‭ ‬لا‭ ‬تُستأنف‭.‬

على‭ ‬هذه‭ ‬القاعدة‭ ‬مضت‭ ‬حياتنا،‭ ‬امرأة‭ ‬متمردة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء‭.‬

•‭ ‬إلا‭ ‬عليك،‭ ‬الجزء‭ ‬الغائم،‭ ‬تضحك‭ ‬كما‭ ‬اعتادت‭ ‬بصوت‭ ‬عالٍ،‭ ‬تحرجني‭ ‬هذه‭ ‬الضحكات‭ ‬عندما‭ ‬نكون‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬عام،‭ ‬نتشاجر،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬نتراجع‭ ‬عندما‭ ‬نعود‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭.‬

تريدُني‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬رسمتها‭ ‬حكايا‭ ‬‭(‬الحبوبات‭)‬‭ ‬‭(‬5‭)‬‭ ‬في‭ ‬ذهنك،‭ ‬لا‭ ‬لن‭ ‬أكونها،‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭.‬

‮ ‬نعم‭ ‬هي‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬المرأة،‭ ‬والثمن‭ ‬في‭ ‬رأيها‭ ‬ليس‭ ‬باهظاً‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يتعدى‭ ‬ازدراء‭ ‬كبيرات‭ ‬العائلة‭ ‬اللاتي‭ ‬ينعتنها‭ ‬أحياناً‭ ‬بـ‭(‬محمد‭ ‬ولد‭)‬‭ ‬‭(‬6‭)‬‭..‬

أنظر‭ ‬إليها‭ ‬وهي‭ ‬تحاور‭ ‬قهوتها‭ ‬في‭ ‬صمت،‭ ‬لم‭ ‬تتغير‭ ‬هي‭ ‬نفسها،‭ ‬صارت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الكبيرات‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يمنحها‭ ‬ذلك‭ ‬الشرف

‭-‬‭ ‬مكانها‭ ‬مع‭ ‬رجال‭ ‬العائلة‭.‬

‮ ‬أسمع‭ ‬همسهن‭ ‬أحياناً،‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حياتنا‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الهمسات‭ ‬تُلقى‭ ‬في‭ ‬طريقي‭ ‬عمداً‭ ‬كي‭ ‬أسمعها،‭ ‬من‭ ‬صرن‭ ‬كبيرات‭ ‬الآن‭ ‬أصبحن‭ ‬أقل‭ ‬حدة‭ ‬لكنها‭ ‬مازالت‭ ‬الغريبة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تندمج‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النسيج،‭ ‬الذي‭ ‬يرفض‭ ‬احتواء‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬تحاول‭ ‬ذلك‭ ‬جاهدة‭.‬

‭-‬‭ ‬سأصير‭ ‬الأنثى‭ ‬التي‭ ‬يردن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التجربة‭ ‬فقط،‭ ‬سأصير‭ ‬أرنبةً‭ ‬وأحفر‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الحوش‭ ‬‭(‬حفرة‭)‬‭ ‬‭(‬7‭)‬‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬التي‭ ‬يحفرن‭.‬

كانت‭ ‬العائلة‭ ‬تستعد‭ ‬لمناسبة‭ ‬زواج،‭ ‬ترتفع‭ ‬فيها‭ ‬وتيرة‭ ‬المنافسة‭ ‬الصامتة‭ ‬بين‭ ‬النساء،‭ ‬اقتناء‭ ‬أفخم‭ ‬الثياب،‭ ‬الذهب،‭ ‬الحناء‭ ‬وغيرها‭..‬

•‭ ‬لا‭ ‬أريد،‭ ‬غيرت‭ ‬رأيي،‭ ‬لن‭ ‬أكون‭ ‬قطعة‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المعروضات‭ ‬الحية‭.‬

هربنا‭ ‬إلى‭ ‬حديقة‭ ‬عامة،‭ ‬قضينا‭ ‬اليوم‭ ‬هناك،‭ ‬أمضينا‭ ‬المساء‭ ‬في‭ ‬السينما‭.‬

•‭ ‬كنتُ‭ ‬أحتملكِ‭ ‬بصبر‭.‬

رفعت‭ ‬عينيها‭ ‬عن‭ ‬قهوتها‭: ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬تحتملني‭ ‬بحب،‭ ‬الحب‭ ‬يا‭ ‬عزيزي‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يحملك‭ ‬على‭ ‬احتمال‭ ‬الآخرين‭.‬

الحب‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يحملها‭ ‬على‭ ‬احتمال‭ ‬خطوات‭ ‬قهوتها‭ ‬هذه‭.‬

•‭ ‬‭(‬الجبَنَة‭)‬‭ ‬‭(‬8‭)‬‭ ‬وليس‭ ‬القهوة‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المثقفون،‭ ‬عندما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بـ‭(‬الجبَنَة‭)‬‭ ‬أنا‭ ‬‭(‬حبّوبَة‭)‬‭.‬

وهي‭ ‬تثبت‭ ‬‭(‬الفندك‭)‬‭ ‬بين‭ ‬ساقيها‭ ‬جيداً،‭ ‬على‭ ‬بنبرها‭ ‬‭(‬9‭)‬‭ ‬الخشبي‭ ‬تذكرني‭ ‬بها‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬العشرينات،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الدنيا‭ ‬تغير‭ ‬إلا‭ ‬جلستها‭ ‬هذي،‭ ‬وظل‭ ‬الصباح‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬أخذه‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬سفريتنا‭ ‬الوحيدة‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭.‬

•‭ ‬سنتان؟‭ ‬سآخذ‭ ‬معي‭ ‬أدوات‭ ‬القهوة‭ ‬كاملة‭.‬

•‭ ‬إلا‭ ‬ضل‭ ‬‭(‬10‭)‬‭ ‬الصباح‭.‬

•‭ ‬سأجد‭ ‬ضلاً‭ ‬هناك

قلّب‭ ‬موظف‭ ‬الجمارك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البلد‭ ‬محتويات‭ ‬صندوق‭ ‬أدوات‭ ‬القهوة‭ ‬بتعجب،‭ ‬توقف‭ ‬طويلاً‭ ‬عند‭ ‬‭(‬الشرقرق‭)‬‭ ‬‭(‬11‭)‬،‭ ‬شرَحَتْ‭ ‬له‭ ‬بإسهاب‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬وكيفية‭ ‬استخدامه،‭ ‬وأردفت‭ ‬ببساطتها

•‭ ‬إن‭ ‬أعجبك‭ ‬خذه‭.‬

تمتم‭ ‬الرجل‭ ‬بعبارات‭ ‬الشكر‭ ‬ووضعه‭ ‬في‭ ‬دولاب‭ ‬خلفه‭ ‬وهو‭ ‬ينظر‭ ‬إليه‭ ‬بإعجاب‮…‬

ضحكت‭ ‬بصوتها‭ ‬الرقراق‭ ‬وقالت‭: ‬هل‭ ‬تذكر‭ ‬حادثة‭ ‬الشرقرق،‭ ‬وضعت‭ ‬يدي‭ ‬على‭ ‬جبهتي‭ ‬بسرعة،‭ ‬كأنما‭ ‬أغطي‭ ‬رأسي‭ ‬الذي‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬لحظتها‭ ‬أنه‭ ‬شفاف‭ ‬لا‭ ‬يخفي‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬داخله،‭ ‬تقرأ‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬أفكاري‭.‬

•‭ ‬نعم‭ ‬هو‭ ‬الجزء‭ ‬الغائم،‭ ‬يجعلنا‭ ‬شفافين،‭ ‬نعرف‭ ‬بعضنا‭ ‬جيداً‭.‬

ناولتني‭ ‬فنجاني‭.‬

•‭ ‬سأخبرك‭ ‬عزيزي‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جذبني‭ ‬إليك‭ ‬يومها‭.‬

إشارات

‭(‬1‭)‬‭ ‬المقلاة‭.‬

‭(‬2‭)‬‭ ‬الهاون‭.‬

‭(‬3‭)‬‭ ‬منطقة‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬السودان‭.‬

‭(‬4‭)‬‭ ‬الجرأة‭ ‬وعدم‭ ‬الحياء‭.‬

‭(‬5‭)‬‭ ‬الحبوبات‭: ‬الجدّات‭ ‬مفردها‭ ‬حبوبة‭.‬

‭(‬6‭)‬‭ ‬تطلق‭ ‬على‭ ‬البنات‭ ‬اللائي‭ ‬يتصرفن‭ ‬كالأولاد‭.‬

‭(‬7‭)‬‭ ‬المقصود‭ ‬بالحفرة‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬‭(‬حفرة‭ ‬الدخان‭)‬‭ ‬الذي‭ ‬تتزين‭ ‬به‭ ‬المرأة‭ ‬السودانية‭.‬

‭(‬8‭)‬الجبنة‭: ‬القهوة‭ ‬وتطلق‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬الإناء‭ ‬الذي‭ ‬تقدم‭ ‬فيه‭ ‬القهوة،‭ ‬والذي‭ ‬يصنع‭ ‬غالبا‭ ‬من‭ ‬الفخار‭.‬

‭(‬9‭)‬‭ ‬مقعد‭ ‬خشبي‭ ‬صغير‭.‬

‭(‬10‭)‬‭ ‬ظل‭.‬

‭(‬11‭)‬‭ ‬إناء‭ ‬صغير‭ ‬تتم‭ ‬فيه‭ ‬تصفية‭ ‬القهوة‭ ‬قبل‭ ‬صبها‭ ‬في‭ ‬‭(‬الجبنة‭)‬‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.