قلب الدائرة

الخميس 2017/06/01
لوحة: بهرام حاجو

‭-‬‭ ‬الطلقة‭ ‬التي‭ ‬صوبتها‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬الرماية‭ ‬أخطأت‭ ‬المجسم،‭ ‬واخترقت‭ ‬الأزمنة،‭ ‬ثم‭ ‬استقرت‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬هابيل،‭ ‬فسقط‭ ‬صريعًا‭.‬

‭-‬‭ ‬هذا‭ ‬يا‭ ‬سيد‭ ‬عنبر‭ ‬سجن‭ ‬لا‭ ‬عنبر‭ ‬مجانين‭!‬

‭-‬‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يدفعني‭ ‬لأن‭ ‬أكذب‭ ‬عليك؟

كثيرٌ‭ ‬من‭ ‬زملاء‭ ‬الحَجْز‭ ‬جرتهم‭ ‬آذانهم‭ ‬من‭ ‬جوار‭ ‬حوائطهم‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الصوت‭. ‬يطمحون‭ ‬إلى‭ ‬عبور‭ ‬جثث‭ ‬الأيام‭ ‬بعطر‭ ‬حكاية‭ ‬أخرى‭ ‬عجيبة‭ ‬لوافد‭ ‬جديد‭.‬

‭-‬‭ ‬وكيف‭ ‬وضعك‭ ‬القاضي‭ ‬على‭ ‬ذمة‭ ‬قضية‭ ‬كهذه؟‭! ‬سأل‭ ‬سجين‭ ‬ثانٍ‭.‬

‭-‬‭ ‬زملاء‭ ‬التدريب‭ ‬الذين‭ ‬سمعوا‭ ‬نفس‭ ‬الصرخة‭ ‬التي‭ ‬سمعتها‭ ‬تكفلوا‭ ‬بالقبض‭ ‬عليّ‭ ‬وتسليمي،‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬اللعنة،‭ ‬ثم‭ ‬اعترفت‭ ‬في‭ ‬التحقيق‭.‬

‭-‬‭ ‬أيّ‭ ‬صرخة‭ ‬سمعتها؟‭ ‬سأل‭ ‬سجين‭ ‬ثالث‭.‬

‭-‬‭ ‬صرخة‭ ‬بدائية‭ ‬ليس‭ ‬كمثلها‭ ‬شيء،‭ ‬ورأيت‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬الهواء‭ ‬قابيل‭ ‬وهو‭ ‬يقلب‭ ‬جسد‭ ‬أخيه‭ ‬النازف‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل‭ ‬به،‭ ‬وينقل‭ ‬نظراته‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬مذهولًا‭. ‬أعيته‭ ‬الحيلة‭ ‬وأخذ‭ ‬الخوف‭ ‬يدك‭ ‬جسده،‭ ‬فجرى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‭. ‬يسقط‭ ‬ويقوم‭. ‬تخفى‭ ‬الكهوف‭ ‬جسده‭ ‬ولا‭ ‬توارى‭ ‬قلقه‭. ‬صار‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬السماء،‭ ‬والأرض،‭ ‬والماء،‭ ‬والهواء‭.‬

‭-‬‭ ‬وهل‭ ‬تذهب‭ ‬رصاصة‭ ‬من‭ ‬الحاضر‭ ‬إلى‭ ‬الماضي‭ ‬يا‭ ‬أخ؟‭! ‬سأل‭ ‬سجين‭ ‬رابع‭.‬

‭-‬‭ ‬كما‭ ‬أتتنا‭ ‬سيوف‭ ‬الماضي،‭ ‬وخناجره،‭ ‬وسمه‭ ‬الزُعاف‭.. ‬ألا‭ ‬تعرفون‭ ‬أنّ‭ ‬لكل‭ ‬فعل‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬مساو‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المقدار‭ ‬ومضاد‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭.‬

‭-‬‭ ‬لكنها‭ ‬قسمة‭ ‬ضيزى‭ ‬يا‭ ‬زميل،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬نظريتك‭ ‬نفسها‭ ‬تخالف‭ ‬ما‭ ‬تعلمناه‭ ‬في‭ ‬قرآننا‭ ‬وما‭ ‬تربينا‭ ‬عليه‭. ‬قال‭ ‬سجين‭ ‬خامس‭ ‬وهو‭ ‬يزم‭ ‬شفتيه‭ ‬غيظًا،‭ ‬ويبدو‭ ‬أنه‭ ‬تلقى‭ ‬غمزة‭ ‬من‭ ‬آخر‭ ‬فهدأت‭ ‬حدته‭.‬

فتشوا‭ ‬بعيونهم‭ ‬في‭ ‬ملامحه‭. ‬مجنون‭ ‬أخطأ‭ ‬طريق‭ ‬السرايا‭ ‬الصفراء‭ ‬إلى‭ ‬عنبر‭ ‬السجن،‭ ‬ولعل‭ ‬عقله‭ ‬راح‭ ‬نتيجة‭ ‬ظلم‭ ‬لحقه‭ ‬بقضية‭ ‬مضحكة‭ ‬كتلك‭ ‬القضايا‭ ‬التي‭ ‬حوكم‭ ‬أكثرهم‭ ‬بسببها،‭ ‬ولكن‭ ‬كيف‭ ‬تنطلق‭ ‬رصاصة‭ ‬من‭ ‬الحاضر‭ ‬إلى‭ ‬الماضي؟‭!‬

رد‭ ‬الوافد‭ ‬الجديد‭: ‬لأن‭ ‬الزمن‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬نفسه‭.‬

كأن‭ ‬العبارة‭ ‬ثقبت‭ ‬آخر‭ ‬بلالين‭ ‬صبرهم‭. ‬انطلقت‭ ‬الضحكات‭ ‬كالفقاقيع‭ ‬المُلونة،‭ ‬وتلاقت‭ ‬الأكف‭ ‬في‭ ‬فرقعات‭ ‬تنشلهم‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬أيامهم‭ ‬ولو‭ ‬لحظات‭. ‬من‭ ‬لم‭ ‬يشارك‭ ‬منهم‭ ‬بأسئلة‭ ‬شارك‭ ‬بتعليقات‭: ‬‮«‬الزمن‭ ‬غدّار‮»‬‭.. ‬‮«‬الزمن‭ ‬دوّار‮»‬‭ ‬على‭ ‬رأى‭ ‬‮«‬جورج‭ ‬وسوف‮»‬‭.. ‬‮«‬الزمن‭ ‬سمسار‮»‬‭.. ‬‮«‬الزمن‭ ‬كرة‭ ‬شراب‮»‬‭. ‬ها‭ ‬ها‭ ‬ها‭.‬

ولكي‭ ‬يزيدوا‭ ‬الأمر‭ ‬جنونًا‭ ‬فوق‭ ‬جنونه‭ ‬انتظموا‭ ‬في‭ ‬قطار‭ ‬وهم‭ ‬يصيحون‭: ‬فووووو‭.. ‬توت‭ ‬توت‭ ‬توت‭.. ‬بم‭ ‬بم‭ ‬بم‭.. ‬تيت‭ ‬تيت‭ ‬تيت،‭ ‬وهم‭ ‬يندفعون‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬صائحين‭: ‬‮«‬انظر‭ ‬يا‭ ‬زميل،‭ ‬سنعلمك‭ ‬شيئًا‭ ‬للزمن‭. ‬الزمن‭ ‬كالقطار‭.. ‬يندفع‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬الأمااااام‮»‬‭.‬

في‭ ‬عنبرهم‭ ‬كانوا‭ ‬يبغون‭ ‬تسكينه‭ ‬بسرعة‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬يناسبه‭. ‬يبزغ‭ ‬عناده‭ ‬متحديًا‭ ‬أيّ‭ ‬دور‭ ‬بوجهه‭ ‬الذي‭ ‬يبتسم‭ ‬بسخرية،‭ ‬وتحديقه‭ ‬إليهم‭ ‬وهم‭ ‬ينطلقون‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭. ‬عشر‭ ‬خطوات‭ ‬راقصة‭ ‬فقط‭ ‬وواجهوا‭ ‬الحائط‭ ‬المقابل،‭ ‬فانحرفت‭ ‬خطواتهم‭. ‬عشر‭ ‬خطوات‭ ‬أخرى‭ ‬وواجهوا‭ ‬الحائط‭ ‬الآخر،‭ ‬فانحرفت‭ ‬خطواتهم‭.. ‬وهكذا‭ ‬لمرة‭ ‬ثالثة،‭ ‬ورابعة،‭ ‬وخامسة‭. ‬ملأهم‭ ‬الحنق‭ ‬والتحدي‭. ‬ثمة‭ ‬سجين‭ ‬جديد‭ ‬مجنون‭ ‬يقذفهم‭ ‬برصاص‭ ‬ابتساماته‭ ‬الساخرة‭ ‬وهو‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬المنتصف،‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ ‬حِيلة‭ ‬أو‭ ‬إرادة‭ ‬إزاء‭ ‬الحوائط؛‭ ‬كي‭ ‬ينطلقوا‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬ويثبتوا‭ ‬له‭ ‬ولأنفسهم‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬يقول‭. ‬تهاوت‭ ‬قدراتهم‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا‭ ‬وهم‭ ‬يلفون‭ ‬في‭ ‬دائرة‭ ‬كاملة،‭ ‬وأخذوا‭ ‬يتساقطون‭ ‬حوله‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬واحدًا‭ ‬وراء‭ ‬الآخر‭ ‬وقد‭ ‬أنهكهم‭ ‬الإعياء،‭ ‬وزلزلتهم‭ ‬الدهشة‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.