رواية‭ ‬عن‭ ‬الوحوش

الخميس 2017/06/01

يقبع ‭ ‬مراد‭ ‬في‭ ‬زنزانته‭ ‬المنفردة،‭ ‬تتباطأ‭ ‬أنفساه‭ ‬ويدخن‭ ‬سيجارته‭ ‬راسماً‭ ‬ابتسامة‭ ‬على‭ ‬شفتيه،‭ ‬وشيئاً‭ ‬فشيئاً‭ ‬تكشف‭ ‬الجدران‭ ‬عن‭ ‬ذكريات‭ ‬من‭ ‬سبقوه‭ ‬فيها،‭ ‬لتبدأ‭ ‬بعدها‭ ‬سلسلة‭ ‬الذاكرة‭ ‬بالتكون‭ ‬أمامنا‭ ‬على‭ ‬لسانه،‭ ‬لنقرأ‭ ‬عن‭ ‬حربه‭ ‬ضد‭ ‬حيّة‭ ‬ونفسه‭ ‬والجميع،‭ ‬لندخل‭ ‬معه‭ ‬خفايا‭ ‬عوالم‭ ‬أشبه‭ ‬بالكوابيس‭ ‬في‭ ‬حيّ‭ ‬مهدد‭ ‬بالانهيار،‭ ‬هذه‭ ‬الذاكرة‭ ‬المثقوبة‭ ‬لمراد‭ ‬نقرأها‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬الكاتب‭ ‬المغربي‭ ‬محمد‭ ‬بنميلود‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الحيّ‭ ‬الخطير‮»‬‭ ‬الصادرة‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الساقي‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬مختبر‭ ‬آفاق‭ ‬للرواية‭.‬

نرجسية‭ ‬السرد

نقرأ‭ ‬الرواية‭ ‬بلسان‭ ‬مراد،‭ ‬يحدثنا‭ ‬عن‭ ‬خسارته‭ ‬لأصدقائه‭ ‬وكيف‭ ‬انتهى‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬يخبرنا‭ ‬بعدها‭ ‬أسرته‭ ‬وخصوماته‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬وتحوله‭ ‬إلى‭ ‬شقيّ‭ ‬يقتل‭ ‬ويسرق‭ ‬ويدخن‭ ‬الكيف،‭ ‬فالسارد‭ ‬في‭ ‬‮«‬الحي‭ ‬الخطير‮»‬‭ ‬يعي‭ ‬ما‭ ‬يفعل،‭ ‬فعل‭ ‬الإخبار‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬دوافع‭ ‬ذاتيّة،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تتجلى‭ ‬الحكاية‭ ‬ولو‭ ‬ضمن‭ ‬أربعة‭ ‬جدران‭ ‬بدون‭ ‬‮«‬سامع‭/‬قارئ‮»‬‭ ‬متوقع،‭ ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬حساسية‭ ‬السرد‭ ‬النرجسي،‭ ‬فتقنيات‭ ‬تكوين‭ ‬المعنى‭ ‬التي‭ ‬تحيل‭ ‬لها‭ ‬الرواية‭ ‬تعكس‭ ‬تجربة‭ ‬مراد‭ ‬نفسه‭ ‬وصوته‭ ‬الذي‭ ‬يختلف‭ ‬حسب‭ ‬مسافته‭ ‬الشخصيّة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬الحكاية،‭ ‬فالراوي‭ ‬يحيلنا‭ ‬إلى‭ ‬جسده‭ ‬لنتلمس‭ ‬ثناياه‭ ‬وندوبه،‭ ‬أما‭ ‬تسلسل‭ ‬بناء‭ ‬الأفكار‭ ‬والأحداث‭ ‬فمرتبط‭ ‬بالسارد‭ ‬نفس‭ ‬كبشر،‭ ‬أما‭ ‬اختيار‭ ‬الحكايات‭ ‬وأيّها‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬نسمعه‭ ‬فنابع‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬نرجسي‭ ‬لا‭ ‬سياسيّ،‭ ‬فالسرد‭ ‬النرجسي‭ ‬يحاكي‭ ‬الألعاب‭ ‬الإنسانية،‭ ‬لنقرأ‭ ‬تجربة‭ ‬مفتتة‭ ‬أشبه‭ ‬بالذاكرة‭ ‬التي‭ ‬تتداعى‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الراوي‭ ‬الرافض‭ ‬للأنظمة‭ ‬التقليدية‭ ‬لبناء‭ ‬العلاقات‭ ‬التي‭ ‬انتهت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الزنزانة،‭ ‬فمراد‭ ‬يولّد‭ ‬‮«‬روتين‮»‬‭ ‬السرد‭ ‬الخاص‭ ‬به‭ ‬والذي‭ ‬يشبهه‭ ‬وحده،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لهذه‭ ‬الحكاية‭ ‬أن‭ ‬تروى‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬مراد،‭ ‬دون‭ ‬ذلك‭ ‬ستنصاع‭ ‬لأنظمة‭ ‬سرديّة‭ ‬تحوّل‭ ‬مراد‭ ‬لضحيّة‭ ‬لذات‭ ‬الأنظمة‭ ‬التي‭ ‬تجعله‭ ‬مثيراً‭ ‬للشفقة‭ ‬والتعاطف‭ ‬لا‭ ‬كائناً‭ ‬غاضباً‭ ‬يدعونا‭ ‬للتحرر‭.‬

‭ ‬مهرجان‭ ‬الخراب

تختلف‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬شخوص‭ ‬الرواية‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬التقليدية،‭ ‬فصلات‭ ‬الدم‭ ‬والعلاقات‭ ‬الأسرية‭ ‬منهارة،‭ ‬فنحن‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬طبيعته‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬العنف‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وعلى‭ ‬أساس‭ ‬الرفض‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬أنظمة‭ ‬السيطرة‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬بدائية‭ ‬حسب‭ ‬التوصيف‭ ‬‮«‬الصحيح‭ ‬سياسياً‮»‬،‭ ‬لكنها‭ ‬ترسم‭ ‬المصالح‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭ ‬وتجمعهم‭ ‬لأنها‭ ‬ناشئة‭ ‬نتيجة‭ ‬الانهيار‭ ‬والهشاشة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬لأيّ‭ ‬اندفاع‭ ‬عاطفي‭ ‬أن‭ ‬يحوّل‭ ‬أخوين‭ ‬إلى‭ ‬عدويّن،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬عوالم‭ ‬الرواية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الافتراس‭ ‬والذبح،‭ ‬فالبقاء‭ ‬حقيقة‭ ‬للأقوى‭ ‬والأشدّ‭ ‬صلابة‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬تحمل‭ ‬الطعنات‭ ‬وغارات‭ ‬العصابات‭ ‬الأخرى،‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬تتجلّى‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬بموضوعة‭ ‬النار‭ ‬التي‭ ‬تحضر‭ ‬لتلهم‭ ‬الشخوص‭ ‬تدريجياً،‭ ‬هي‭ ‬الخلاص‭ ‬أحياناً‭ ‬إذ‭ ‬حاول‭ ‬مراد‭ ‬إحراق‭ ‬السجن‭ ‬للفرار،‭ ‬وفي‭ ‬أحيانٍ‭ ‬أخرى‭ ‬تولّد‭ ‬عنفاً‭ ‬جديداً،‭ ‬تصهر‭ ‬من‭ ‬تلتهمهم‭ ‬لتنبعث‭ ‬من‭ ‬رمادها‭ ‬وحوش‭ ‬أشد‭ ‬ضراوة،‭ ‬فالنار‭ ‬لا‭ ‬تنطفئ‭ ‬وتغذي‭ ‬جوهرها‭ ‬كلما‭ ‬التهمت‭ ‬أجساد‭ ‬جديدة‭.‬

المتخيل‭ ‬الرومانسي

تمتلك‭ ‬شخوص‭ ‬الرواية‭ ‬سيناريوهات‭ ‬مستقبلية‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬أفضل،‭ ‬وتخيلات‭ ‬لنهاية‭ ‬تُوصلهم‭ ‬للسكينة،‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬تتلاشى‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬العنف،‭ ‬فمراد‭ ‬الذي‭ ‬ظن‭ ‬أن‭ ‬كتب‭ ‬خالها‭ ‬لشيوعي‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تجيب‭ ‬عن‭ ‬أسئلته‭ ‬عن‭ ‬الظلم‭ ‬وغياب‭ ‬المساواة‭ ‬اكتشف‭ ‬أنها‭ ‬دفعته‭ ‬لطرح‭ ‬أسئلة‭ ‬أكثر،‭ ‬ليكون‭ ‬الانتظار‭ ‬وتربية‭ ‬الوقت‭ ‬هو‭ ‬جواب‭ ‬سؤال‭ ‬‮«‬ما‭ ‬العمل؟‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقرأه‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬والرسائل‭ ‬بين‭ ‬الرفاق‭ ‬الشيوعيين،‭ ‬أما‭ ‬مغزى‭ ‬حياة‭ ‬مراد‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هو‭ ‬الهرب‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬الهرب‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬الشيوعية‭ ‬أو‭ ‬الحيّ‭ ‬أو‭ ‬أسرته‭ ‬أو‭ ‬السجن،‭ ‬الهرب‭ ‬بوصفه‭ ‬رفضاً،‭ ‬فهو‭ ‬يثور‭ ‬ضد‭ ‬دوره‭ ‬كضحية‭ ‬أنظمة‭ ‬القمع‭ ‬وأنظمة‭ ‬العصابات،‭ ‬فالهرب‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬مراد‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬خيار‭ ‬بل‭ ‬مصير‭ ‬لا‭ ‬فكاك‭ ‬منه‭.‬

الأخ‭ ‬المسخ

تتجسد‭ ‬أنظمة‭ ‬الهيمنة‭ ‬والقمع‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬بشخصية‭ ‬‮«‬العربي‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬أشبه‭ ‬بوحش‭ ‬أعور‭ ‬مسيخ‭ ‬يصطاد‭ ‬ضحاياه،‭ ‬ممارساً‭ ‬عليهم‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬العنف‭ ‬والساديّة‭ ‬ملقياً‭ ‬بهم‭ ‬بعدها‭ ‬في‭ ‬النار،‭ ‬هو‭ ‬يتسلل‭ ‬بين‭ ‬سكان‭ ‬الحيّ‭ ‬سارقاً‭ ‬حياواتهم‭ ‬بصمت،‭ ‬أشبه‭ ‬بغول‭ ‬عجائبي‭ ‬يتربص‭ ‬بالجميع،‭ ‬تحاك‭ ‬حوله‭ ‬الأساطير‭ ‬والحكايات‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬لا‭ ‬يصدّق‭ ‬وجوده،‭ ‬وكأنه‭ ‬تجسيد‭ ‬حقيق‭ ‬لمجاز‭ ‬‮«‬ضد‭-‬النظام‮»‬،‭ ‬فالنظام‭ ‬بشكله‭ ‬المعروف‭ ‬يهيمن‭ ‬لخدمة‭ ‬مصلحته‭ ‬وتماسكه،‭ ‬أما‭ ‬الوحش‭ ‬فيقتل‭ ‬للقتل‭ ‬فقط‭ ‬مشبعاً‭ ‬رغباته،‭ ‬هو‭ ‬يمثّل‭ ‬بضحاياه‭ ‬لمتعته‭ ‬الذاتية،‭ ‬الرعب‭ ‬المنتشر‭ ‬ضمن‭ ‬الحكايات‭ ‬عنه‭ ‬لا‭ ‬يهدف‭ ‬للتأديب‭ ‬أو‭ ‬الهيمنة،‭ ‬بعكس‭ ‬الرعب‭ ‬والوحشية‭ ‬الممارسان‭ ‬منهجياً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأنظمة‭ ‬التقليدية،‭ ‬لنرى‭ ‬أنفسنا‭ ‬أمام‭ ‬صراع‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬اتزان‭ ‬الانهيارات،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬‮«‬ضدّ‮»‬‭ ‬يعيد‭ ‬تمثيل‭ ‬العنف‭ ‬المختزن‭ ‬في‭ ‬الحي،‭ ‬ومراد‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬ضحية‭ ‬هذا‭ ‬العنف‭ ‬المتبادل،‭ ‬هو‭ ‬ذبيحة‭ ‬تتراقص‭ ‬بين‭ ‬مسخين،‭ ‬نظام‭ ‬ووحش،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬‮«‬العربيّ‮»‬‭ ‬يموت‭ ‬حرقاً‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يقتل‭ ‬ضحاياه،‭ ‬لكن‭ ‬حتما‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬غيره،‭ ‬فالحي‭ ‬بأكمله‭ ‬تمثيلٌ‭ ‬للقرين‭ ‬المسيخ‭ ‬للعالم‭ ‬الذي‭ ‬يدّعي‭ ‬التحضّر‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.