مدوّنات الفلوجي

السبت 2017/07/01

قررت أن أحتفل بعيد “الفلنتاين” في شقتي على الطريقة اليابانية، حيث العيد للرجال فقط، لكن من دون أن تدلّلني امرأة بتقديم هدية. ابتعت زجاجة فودكا ألمانية تسطل الحصان إذا أتى على نصفها، وكيلو لحم خروف صغير لإعداد طبخة “تشريب” عراقية، مع بصل أبيض وفجل ومخلّل مدبّس على الطريقة النجفية. وبينما كنت أحضّر متطلبات الطبخة، وفد عليّ إبراهيم، من دون موعد، رفقة فتاتين، إحداهما صديقته الشخصية، اسمها ياسمين، أمازيغية من أصل جزائري، والثانية اسمها بردى، من أصل سوري، صديقة ياسمين. جاء ثلاثتهم يحمل كل منهم ضمة ورود حمراء وزجاجة نبيذ معتّقة. وكان إبراهيم، قبل ذلك بأسبوعين، قد ترك عمله في نيس، وعاد إلى نورنبيرغ بسبب خلاف حدث بينه وبين رئيسه في الحديقة.

من حسن طالعي أن السيدة شارلوته، صاحبة الشقة، كانت في سويسرا آنذاك. قالت لي إنها ذاهبة لقضاء بعض الوقت مع ابنتها المقيمة في جنيف. وطلبت مني أن أودع إيجار الشقة الشهري في حسابها البنكي.

قلبت زيارة إبراهيم ورفيقتيه المفاجئة ما استقرّيت عليه من قرار تعيس، فلم أجد بُدّاً من أن أدعوهم إلى سهرة في مطعم أو في مرقص، لكنه أصرّ على أن نحتفل في الشقة. وتطوّعت الفتاتان لإعداد عشاء لذيذ الطعم وخفيف، مما تحفل به الثلاجة.

حين عرّفني إبراهيم إلى صديقته ياسمين، قال إنها نهمة للشعر والزهور، تتخيّل وجود علاقة سرية حميمة بينهما، أما بردى فتباهت بأنها مغرمة بالموسيقى وقراءة الروايات، ومفتونة بأعمال إيزابيل الليندي؛ مستهامةً بشخصيتها لأنها غادرت بلدها، مثلها، هاربةً من جور نظامه الدكتاتوري، وعاشت تجربة الغربة والوحشة والتشرّد.

سرّني ذلك جداً، فقلت لنفسي “هذا أول خيط يربطني بها”، لذا أردت أن أخصص الليلة الأولى لمعرفتها عن كثب.

بعد انتهاء السهرة، آوى إبراهيم وصديقته إلى سريري، وقد ثمل كلاهما ودهمهما النعاس، بينما بقينا، أنا وبردى، نتجاذب الحديث، على وقع رذاذ المطر، في الشرفة المزججة المغبشة، ونتطلع إلى القطرات التي تنزلق في الجهة الأخرى في خيوط ثخينة مثل الدموع. رويتُ لها ماضيّ وروت لي ماضيها، كلّمتها عن مدينتي الفلوجة وكلّمتني عن مدينتها حلب، قائلةً إنها غادرتها عام 2011 رفقة أمها وأخويها الصغيرين إلى الحدود التركية بعد استشهاد والدها برصاص القوات الأمنية في حيّ “الصاخور” خلال مشاركته في مظاهرة ضد النظام، وتمكّنت الأسرة، بمساعدة مهرّبين، من الوصول إلى مدينة “كِلّس″ في تركيا، ومنها إلى مدينة “غازي عنتاب”، ثم إلى إسطنبول حيث حصلت على اللجوء إلى ألمانيا، واستقرّت في نورنبيرغ. وهناك التقت شاباً لاجئاً من ليبيا أُعجب بها وطلب يدها للزواج، فلبّت طلبه من دون تروٍّ، لكنها سرعان ما اكتشفت أنه ذو ميول شاذة فساورتها مشاعر القرف منه وهجرته عائدةً إلى أسرتها، ثم انفصلت عنه بعد مدة قصيرة. وحين حدّثها عنّي إبراهيم أبدت رغبتها في التعرّف عليّ أملاً في أن أكون الرجل الذي تتنفّسه ويملأ حياتها ويطمس ذكرى طليقها التافه.

ساقنا الحديث تلك الليلة، أيضاً، إلى النكبة التي تعرّضت لها مدينتها قبل بضعة أشهر، فدمعت عيناها وهي تتذكر أقرباءها وصديقاتها الذين دمّرت البراميل والصواريخ الموجهة منازلهم فوق رؤوسهم، وأخذت تعدد أسماء بعض ممن ماتوا تحت الأنقاض، فقلت لها إنها لا تختلف عن نكبة مدينتي قبل ثلاثة عشر عاماً، الفرق الوحيد بينهما أن حلب هاجمها سفّاح الشام في حين أن المحتلين الأميركان هاجموا الفلوجة.

حضّرت لنا ياسمين، مساء اليوم التالي، وجبة غذاء سحريةً توقظ شياطين الجسد، معَدّةً من شرائح الباذنجان، ومخلوطةً مع مكوّنات أخرى، مثل الثوم والبصل والفليفلة الخضراء وبعض التوابل؛ قائلةً إنها وصفة قديمة يعود أصلها إلى إمام سقط على الأرض مغشيّاً عليه من اللذة حين قدّمت له محضيّته هذه الوجبة!

تعلقتُ سريعاً ببردى، والأصح أنها لذعت شغاف قلبي، ففكّرت في إنهاء عزوبيتي بها. وكنت أمنّي نفسي، منذ أيام الدراسة الجامعية، بأن أرتبط بامرأة سورية، بعدما قرأت نصيحةً تقول “إذا بدك تعيش عيشةً هنيةً تجوّز وحدة شامية”. وأين أجد أفضل من بردى، فهي حسناء، صبيحة الوجه، هيفاء القوام، تصغرني بأربع سنوات، وحاصلة على الجنسية الألمانية.

غادر إبراهيم وصديقته إلى نورنبيرغ صباح اليوم الثالث، ومكثت بردى معي بإلحاح مني. اتصلت بصاحبة المكتبة التي تعمل فيها وأقنعتها بمنحها إجازة من دون راتب.

عشرة أيام كانت كفيلةً بأن يفهم أحدنا الآخر ويغوص في أعماقه ويبوح بأسراره ويكتشف خصاله ورغباته الخاصة، ما يغضبه ويصدّع رأسه، وما يملأ صدره حبوراً ويبعث في نفسه بهجةً وجدتها، وهي تسترسل في البوح عمّا يعتمل في داخلها، تحلم برجل حقيقي يوقظ الأمنيات جميعها بين يديها ليؤكد لها أنها أهم النساء، وأجمل النساء، وأكثر النساء حضوراً في حياته، رجل يعرف كيف يقرأها مثل كتاب نادر ذي نسخة واحدة فقط، وليس كجريدة تُقرأ على مصطبة في رصيف، ثم سرعان ما تُترك ليتلاقفها آخرون. قالت لي إنها لا تحب في الرجل: الخيانة والكذب والبرود العاطفي والبخل والأنانية والعصبية أو المزاجية.

حين انتهت أيام إجازتها، شعرتُ بالحسرة، انقضت سريعاً وكأنها ساعات وليست أياماً. لم يكن بوسعها المكوث أطول من تلك المدة خشية أن تفقد وظيفتها، بالرغم من أنها كانت متلهفةً للبقاء معي. وفي لحظة إلهام رائعة قالت لي قبل سفرها بساعتين:

- ما دمت لست مرتبطاً بعمل لم لا ترافقني إلى نورنبيرغ؟

وقع سؤالها على رأسي كما لو أنه صاعقة. ألم يكن حريّاً بي أن أكون أنا صاحب هذه الفكرة أو الرغبة؟ يا للغباء! فعلاً ما الذي يدعوني إلى عدم مرافقتها؟ ليس لي في هانوفر ما يلزمني على البقاء فيها، “لا ولد ولا تلد” كما يقول المثل العراقي، وسيغفر لي إبراهيم حتماً رفضي، ذات يوم، دعوته للانتقال إلى مدينته. سأقول له “الحب يا صاحبي مغناطيس، وليس لي حيلة في الإفلات منه”.

لم يكن باستطاعتي، طبعاً، أن أصفّي أموري في هانوفر خلال وقت قصير، وأرافق بردى إلى نورنبيرغ، لذلك أجلت مشروع الرحيل النهائي إلى وقت آخر، ووضعت حاجاتي الأساسية في حقيبتي، واستقلينا القطار المسائي الهابط إلى الجنوب.

بلغ القطار نورنبيرغ قبيل منتصف الليل، فإذا بها أقل برداً من هانوفر، وسماؤها صافية تنتشر على سطحها بلورات صغيرة مضيئة أشبه بيراعات متوهجة. وجدنا إبراهيم ينتظرنا في المحطة بسيارته الجميلة أوبل أسترا. أوصل بردى إلى بيتها أولاً، ثم صحبني إلى شقته. وقبيل ذلك أخبرني بأنه وجد وظيفةً في مزرعة بأطراف المدينة، وسيباشر عمله بعد أيام.

مساء اليوم التالي، المصادف لآخر سبت في شهر شباط، دعتنا بردى، أنا وإبراهيم وياسمين، إلى عشاء مع أسرتها، فاستقبلتنا أمّها السيدة فاديا الدالاتي بحفاوة بالغة. بدت في غاية اللطف والكرم، أعدت لنا الكبة الحلبية، والأوزي، وأطباقاً من التبولة، والباطرج، وسلطة الشمندر. أكلت بنهم كما لو أني لم أذق الطعام منذ يومين. كان لذيذاً إلى درجة لا تُصدّق، وقد فتح شهيتي له نبيذ مولر الرائع. فاجأتنا به بردى، ورفعت كأسها قائلةً:

- نخبكم أصدقائي.

لم تحدّثني بردى عن أمّها، قبل تلك الأمسية، التي امتدّت حتى الفجر، إلاّ على نحو عابر. قالت لي فيما بعد إنها تعمّدت ذلك لتجعلني أكتشف شخصيتها بنفسي. كانت محقةً في ذلك، فقد اكتشفت أن السيدة فاديا نوع نادر من النساء، حليمة الطبع، وقورة النفس، ذات سلوك عذب، وعقل متنور بما فيه الكفاية، لا يمكن للمرء إلاّ أن يُعجَب بشمائلها التي كأنها عُصرت من قَطر المُزن، وطيبة قلبها المسبوك من الذهب المصفّى. ثقافتها مزيج من تحصيل أكاديمي وحكمة شعبية لا تنفصم عراه. حاصلة على شهادة جامعية في علم الاجتماع، ولها باع طويل في أحوال الناس. وقد أسرّتني بأنها لم تتحكم بنمط حياة بردى، بل تركتها تختاره بنفسها مع قليل من الإرشاد الذي يصونها. منذ عدة سنوات تعمل السيدة فادية بدوام جزئي في شركة للألبسة النسائية. صحيح أن هذه المهنة بعيدة عن تخصصها، لكن الحياة، كما ترى، أوسع من أن يسجن المرء نفسه في زاوية ضيقة منها.

تلك الليلة لم تكن مثل أيّ ليلة أخرى. فاجأتني بردى بأن رغبتها في مجيئي إلى نورنبيرغ كان وراءها سر خبأته عني، وحين تطلّع إليها الجميع قالت لي ببشر:

- عندي لك وظيفة رائعة.

فغرت فمي مذهولاً، وهتف إبراهيم:

- يا الله! مفاجأة عظيمة. هل هي وظيفة مريحة؟

- مريحة جداً سيهتزّ لها طرباً.

- أنا أيضاً سأهتزّ معه، ولكن أفصحي عنها.

- سيشتغل معي في المكتبة.

صفقتُ كفي بكفها، وقلت:

- ما أروعك! لماذا لم تبشريني من قبل؟

- لم أتأكد من الأمر إلاّ اليوم بعد أن ترك مساعدي الأفغاني العمل.

- متى أستطيع أن أباشر؟

- حين تسوّي أمورك في هانوفر وتقيم هنا.

قال إبراهيم:

- ستشاركني في شقتي إلى أن تتزوج. سافر غداً ولا تجلب معك سوى حاجاتك الشخصية.

ابتسمت السيدة فاديا ابتسامة رضا، وألقت نظرةً خاطفةً إلى بردى، ثم قصدت المطبخ، وعادت بعد لحظات حاملةً زجاجة أخرى من نبيذ مولر، ووضعتها على المائدة، وخاطبتني قائلةً:

- أنت محظوظ بابنتي.

فتشجّعت وأجبتها:

- سأكون محظوظاً أكثر إذا تكرّمتِ بقبولي عريساً لها.

نظرت إليّ متهللة الوجه، وقد لاحت عليها أريحية السرور، وقالت:

- تكرم، افتح الزجاجة لنشرب نخب الخطوبة.

أطلقت ياسمين زغرودةً تردد صداها في البيت، فيما سحبت غطاء الزجاجة على وجه السرعة، وملأت الكؤوس إلى أصبارها. وما إن انتهينا من ارتشافها حتى طفرت من مقعدي، وقبّلت رأس السيدة فاديا، ثم احتضنتُ بردى وطبعت قبلتين على وجنتيها، فصاحت ياسمين بجذل:

- ما أجمل أن تتحقق الرغبات دفعةً واحدةً. مباركة هذه الليلة.

صفّيت أموري في هانوفر خلال ثلاثة أيام، وحشرت ملابسي وحاجاتي الأساسية في حقيبتين وشحنتهما إلى عنوان إبراهيم. لم تكن عندي مكتبة لأحير بأمرها، باستثناء روايتين لإزابيل الليندي عثرت عليهما صدفةً في خزانتي، إحداهما بعنوان “الحب والظلال” والثانية “حصيلة الأيام”، تذكّرت أنني اشتريتهما من مكتبة في إسطنبول تبيع كتباً عربيةً، ونسيت أن أقرأهما، فاحتفظت بهما لبردى التي تفضّل قراءة الكتب الورقية، ربما بسبب تعاملها اليومي معها في العمل، في حين صرت أنا، منذ وصولي إلى ألمانيا، أفضّل الكتب الإلكترونية، وقد دأبت على تحميلها من الإنترنت بانتظام، وفي غضون ثلاث سنوات خزّنت أكثر من ألف كتاب.

وضعت الكتابين مع اللابتوب وبيجامتي وأشيائي اليومية في حقيبتي الصغيرة، وأقفلت باب الشقة. أثناء ذلك كانت مالكتها السيدة شارلوته تنتظرني أمام باب شقتها في الطابق الأرضي لأخذ المفتاح. امرأة أكبر مني بنحو ثلاثة عقود، أدبرت أنوثتها وذهبت بلّة جسدها. حييتها باسمها وسلّمته لها، فنظرت إليّ بعينين غائرتين في محجريهما وقالت:

- دعوتك مرات عديدةً إلى احتساء كأس معي فلم تستجب، لِمَ لا تفعلها للذكرى هذه المرة؟

شعرت بالحرج، فوافقت على الدعوة، لكنّي اشترطت:

- كأس واحدة فقط لئلا يفوتني القطار.

- اجعلهما كأسين، لا يزال الوقت مبكّراً، أمامك أربع ساعات، ماذا ستفعل في المحطة؟

- لا شيء.

تبعتها إلى داخل الشقة، فتركتني في الصالة واتجهت إلى المطبخ. أذهلتني أناقتها وتناسق أثاثها، ولوحاتها الجميلة التي تزيّن جدرانها، وتماثيل البرونز الصغيرة، والتحف النحاسية المرصوفة على أرفف ذات أشكال مستطيلة ومربعة فوق الموقد. بقيت واقفاً أُنعم النظر إليها، بانتظار أن تنتهي شارلوته من إعداد المائدة. بعد دقائق كان كل شيء جاهزاً: إضاءة رومانسية، موسيقى هادئة، زجاجة نبيذ أحمر معتّق، قدحان فاخران، وستة أطباق من النقانق، وشرائح اللحم مع صلصة الخردل والتاتار، وطاجن البطاطا، وفطيرة تفاح، ويخنة الخضار واللحم، وسلطة جزر. هتفت باستغراب:

- هيه سيدة شارلوته! ماذا تفعلين؟ هذه وجبة عشاء دسمة وليست كأسين.

- ولِم لا؟ لقد جهزتها عصر اليوم لي ولك.

- لكن وقتي لا يسمح.

- هل أنت على موعد مع فتاة في المحطة؟

- لا.

- إذن استمتع معي لعلك تعود مرّةً أخرى.

- اعذريني سيدة شارلوته، لن أستطيع أن أمكث أكثر من ساعتين.

- لا بأس، ساعتان كفيلتان بإيصال المرء إلى الجنة.

- هل تؤمنين بوجود جنة؟

- الجنة التي يصنعها البشر لا الإله.

- وأين توجد؟

- توجد حيثما يمتلئ قلب المرء بالحب والسعادة.

اقتنصت نظرةً إلى ساعة الحائط فوجدتها تشير إلى الثامنة مساءً، وكنت قد أتممت ثلاثة كؤوس نبيذ مترعة، وأكلت بما فيه الكفاية، وشعرت بدوار في رأسي. قلت لشارلوته:

- آن لي أن أغادر.

لكنها بدلاً من أن تطلق سراحي نهضت من مقعدها، وسارت حتى صارت خلفي، وأحاطتني بذراعيها من الخلف، وأسندت ذقنها إلى رأسي، وقالت بصوت يشوبه تهتّك:

- أتمنى أن تقضي الليلة بين ذراعيّ وتلغي فكرة سفرك نهائياً.

انتفضت، وأجبتها:

- مستحيل، كيف؟ في انتظاري وظيفة هناك، وقد شحنت أغراضي كلّها.

- أعوّضك بأحسن منها. أقم معي في شقتي من دون أن تدفع يورو واحداً.

هببت مسرعاً وقلت لها:

- آسف سيدة شارلوته، يجب أن أذهب.

حدّقت إليّ بغضب وقالت:

- أعرف أنك لا تطيقني لأنني يهودية. اذهب إلى العاهرة العربية التي تنتظرك هناك، لكني متأكدة من أنك سترجع إليّ كالكلب. هيا خذ حقيبتك وارحل.

صعقني ردّها. لم أكن أعلم إطلاقاً أنها يهودية، وتساءلت في دخيلتي، وأنا أغادر شقتها على عجل، “كيف عرفتْ أنني على صلة بفتاة عربية؟”، بقيت أفكّر في الأمر طوال الطريق التي قطعتها سيارة التاكسي إلى المحطة، وأخيراً توصلت إلى قناعة بأن السيدة التي تسكن في الشقة المجاورة لشقتي هي التي أخبرتها، فقد رأت بردى تخرج وتدخل رفقتي مرّتين أو ثلاث خلال الأيام العشرة التي أمضتها معي، وسمعتنا نتكلم العربية في المصعد.

استقلّيت القطار المسائي نفسه، ومن نافذتي ألقيت نظرة وداع إلى هانوفر التي خمّنت أنني لن أراها ثانيةً، نكايةً بشارلوته. اللعنة عليها، ماذا أفعل بها وهي امرأة مهلوسة، نضب معين شبابها، وذوى عودها؟

بعد نصف ساعة شعرت بالنعاس، فأحنيت مقعدي إلى الخلف، وأرخيت جسمي واستسلمت لإغفاءة، حلمت خلالها أنني ترجّلت من القطار في محطة نورنبيرغ، وما إن سرت بضع خطوات حتى لمحت رجلاً وامرأةً ينتصبان تحت مجموعة قناديل صاطعة، يرفع كل منهما مظلةً، اتقاءً للمطر الذي كان ينهمر بغزارة. ظننت أول الأمر أنهما بردى وإبراهيم، لكنني حين اقتربت منهما اكتشفت أن الرجل هو الحارس الأميركي في سجن أبو غريب، والمرأة هي شارلوته. وما إن صرت أمامهما مباشرةً حتى انفجرا بضحكة مزلزلة من دون أن يحفلا بي، وكأنهما لا يعرفاني البتّة، فوضعت حقيبتي فوق رأسي، واجتزتهما على عجل، شاعراً باضطراب شديد يستولي على كياني.

استيقظت عقب ساعة، مع توقف القطار في إحدى المحطّات. تنفست بعمق، أخذت أستعيد الحلم الذي رأيته؛ محاولاً العثور على تفسير لاجتماع الحارس وشارلوته في مكان واحد، لكني لم أتوصل إلى أي تفسير. وفي الأخير قررت أن أتخلّص من عبء المحاولة بإخراج رواية “الحب والظلال” من الحقيبة، وقراءة بعض فصولها.

عندما توقف القطار في المحطة الأخيرة، كانت السماء ترشّ مطراً خفيفاً. هبطت مسرعاً وعلّقت حقيبتي على كتفي وهرولت صوب البوابة. في منتصف المسافة التفت، لا إرادياً، إلى المكان الذي كان يقف فيه الحارس وشارلوته. لم ألمح شيئاً بالطبع، فقلت لنفسي “كان ذاك حلماً”.

وجدت إبراهيم وبردى، كما في الرحلة السابقة، ينتظرانني في موقف السيارات، لكن تصحبهما ياسمين هذه المرّة. فتحت الباب الخلفي ودلفت إلى جوار بردى، وغادرنا المحطة.

انقطع المطر بعد بضع دقائق، وأخذت الغيوم تنقشع عن سماء المدينة. أدارت ياسمين مفتاح الراديو، فصدح بمقطوعة “انعدام الوزن”، لفرقة ثلاثي مانشستر، وهي موسيقى تبعث على الاسترخاء والنوم. وحين بلغت المقطوعة جزءها الأخير، المؤلَّف من نغمات ودندنات خفيضة شبيهة بالتراتيل البوذية، أراحت بردى رأسها على كتفي. أدركت أنها مجهدة، فبقيت مستكيناً كالتمثال أستنشق عطرها.

اصطحبتني إلى بيتهم هذه المرة، لكنها خجلت أن تدعوني إلى النوم في غرفتها، بالرغم من أننا أصبحنا مخطوبين رسمياً، فأدخلتني إلى غرفة أخويها، وطلبت من أكبرهما شادي أن يخلي لي سريره وينام على الأريكة في غرفة المعيشة.

رافقت بردى صباح اليوم التالي إلى المكتبة وتعرّفت على صاحبتها أنجليكا شنايدر. كانت سيدةً لطيفةً، مهذّبةً، توحي ملامح وجهها بالطيبة والحنان، وقد أسرّتني بردى بأنها متخصصّةً في الأنثروبولوجيا الثقافية، وذات ميول يسارية، ومتعاطفة مع ضحايا الإرهاب والحروب في عالمنا العربي، حتى أنها بادرت إلى نشر نعي مؤثر غير مسبوق لضحايا مدينة حلب، في صحيفة محلية، على غرار النعايا التي ينشرها الأهل لأحبائهم الذين يفقدونهم.

قالت لي أنجليكا وأنا أصافحها:

- أخبرتني بردى بأنك حاصل على الماجستير، ما تخصصك؟

بدا صوتها خشناً، نوعاً ما، فحدست أنها ربما تكون مدخنةً. قلت:

- درست ملحمة جلجامش دراسةً تأويليةً.

- أوه! ملحمة جلجامش! الأوديسا البابلية!

- هل قرأتِها؟

- طبعاً قرأتها، كان اكتشاف معظمها من نصيب الأثريين الألمان.

- يسعدني ذلك، وسأحدّثكِ عن تأويلي لها.

أشرق وجهها بابتسامة ودودة ودعتني إلى مكتبها. ضيّفتني بقطعة شوكولاته، وسحبت لنفسها سيجارةً من علبة دخانها وشرعت تدخن. بعد هنيهة أخذت تسألني بعض الأسئلة، وحين أخبرتها بأنني من الفلوجة انبهرت وقالت:

- الفلوجة! أتذكّر مأساتها على يد الأميركان الغزاة. لقد شاركتُ المئات هنا في مظاهرة غاضبة ضد المذبحة التي ارتكبوها. كيف هي الآن؟

- لا يزال وضعها سيئاً حتى بعد تحريرها من داعش، تشهد تفجيرات بين حين وآخر، وجدرانها مشوّهة بثقوب الرصاص، والناس فيها قلقون على مستقبلهم.

- هل تفكّر في العودة إليها يوماً ما؟

- قد أزورها فقط. لم يبقَ لي فيها سوى الذكريات. أُسرتي انتقلت إلى مدينة أخرى منذ سبع سنين.

- لا بدّ أنها ذكريات أليمة.

- بعضها أليمة، وبعضها الآخر بطعم هذه الشوكولاته ما برح ينعش وجداني.

– إنه تعبير شاعري، لِم لا تؤلف كتاباً عنها؟

- كتبت بعض المدونات عنها.

- دعك من المدونات، أكتب عنها كتاباً وجِدْ مترجماً جيداً يترجمه إلى الألمانية.

- ومن سينشره؟

- أنا أساعدك. لي صديق ناشر يمكنني إقناعه بنشره.

سرّني ردّها فقلت:

- أعدك سيدة أنجليكا بأن أنجزه في غضون أشهر.

- لا تتعجّل، أكتبه على مهل، افضح فيه فاشية الأميركان، وشركاءهم الخونة الذين نصّبوهم حكّاماً على بلدكم.

- سأفعل، سأفعل.

- ستقدّم بذلك خدمةً جليلةً لبلدك الذي أنتج نشيد البحث البشري عن الخلود!

شحنتني كلماتها بحماسة شديدة لإنجاز الكتاب. وقبل أن أغادر مكتبها سألتها:

- متى يمكنني أن أزاول عملي في المكتبة؟

تبسّمت وقالت:

- الآن.

شعرت بدفقة فرح عارم تجتاحني، فعبّرت لها عن امتناني، وعدت إلى بردى، كأن في حوزتي كنزاً ثميناً. كانت منشغلةً باستلام ثمن الكتب التي اقتناها عدد من الزبائن، لكني لم أنتظر أن تفرغ من عملها، بل دنوت منها وعانقتها، وأخذت أمطرها بالقبلات على مرأى الجميع، فشرعوا يتطلّعون إلينا بنظرات تخامرها الدهشة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.