الثرثرة حاجةٌ إنسانية

السبت 2017/07/01
لوحة: جيان حنا

كان يكفيني جليسي في الطائرة أن لا أُدقق بوجوه الآخرين، فقد تعارف بي حال جلوسي مقدماً لنفسهِ مباركتهُ لها كونهُ سيجد بي على حد قوله أنيساً لأن لديه أحاديثَ يريدُ أن يتحدث بها وهو مشتاقٌ للكلام ويكاد يختنق، وبادرني على الفور وقبل إقلاع الطائرة من أنه كان بحاراً على ظهر سفينةٍ عراقيةٍ ورست في العام 1986 في أحد موانئ البحر الأبيض المتوسط، حيث قرر حينها ترك السفينة وتسليم نفسه للسلطات المالطية طالبا حق اللجوء الإنساني، وبما أنه يمتلك مهارات بحريةٍ فقد عمل على الفور في إحدى شركات الملاحة مشرفاً على الماكنات الضخمة، التي تسير هذه الأجساد العملاقة.. وكعادة الأغلبية من المهاجرين فقد أحبَّ إحدى المالطيات وتزوجها، وأضاف لي والطائرة لم تقلع بعد، بأنه يشكو حبها وخروجها اليومي إلى البحر ومداعباتها للبحر أكثر من مداعباتها أطفالها بل ونومها مدفونة في رماله، وشكا لي ذهابها لأصدقاءٍ لها، وانتبهت إليه هذه المرة بعد أن تغيّر أسلوبه في طرح موضوعاته وبدا يتلفت وراءه كي لا يسمعه أحد، ولكي أشجعهُ وأبين له اهتمامي بقصته تلك، قلت له بأن لكل مجتمع من المجتمعات خصوصيته، وإذا التقى الطرفان فإن الغلبةَ ستكون لمن يستطع أن يقدم المثال الأفضل على صحة معارفه وقيمه وإنسانيته إزاء أيّ نقيض.

قاطعني وقال: لكنّي قدمت لها المال والاحترام، وإلى الآن تذهب إلى البحر وتزور الأصدقاء، أدركت أن المسافة ما بين المجتمعات لن أستطيع تقليصها في ذهنه من مجتمع يحافظُ على أرثٍ قد يكون عفا عليه الدهر، بل أكل الدهرُ عليه وشرِب وبين مجتمعٍ يجد في أيّ ممارسةٍ شكلاً من أشكال الحرية والتحرر من القيود. وبشيء من التودد قلت له: اذهب معها إلى البحر وادفن جسدك في رماله كما تفعل هي وستُشفى من آلامك، قال لي مشكلة أخرى قلت: أسردها وسأستمع كلياً إليك فقد طويت الكتاب الذي كان مفتوحاً في يدي، ولم أجد بعد نفعاً من قراءتهِ بعد أن تيقنت أن لا مجال للهروب، استأذنتهُ قليلاً بعد أن وضعَت أمامنا أطباق الغذاء، قال لي ليس لي صبر كي أنتظر دعني أتكلم، تصور كيف سأنزل في مطار البصرة سألتهُ وما الضير؟

قالَ: إن جواز سفري جوازٌ أجنبي واسمي هناك في مالطا وفي الجواز “ثيودورومانوليس″ بعد أن كان اسمي “علوان عباس جفيت” وطفرت من فمي وقلت له للتندر وللفكاهة “وينك ووين زرابك…” هو الآخر ضحك وقبلني وقال: يمكن أنت ابن عمي.. فقلت له بصفة المثل أم بالتشابه؟ وقد أثار حماستي وقلت له ابن وطنك والأوطان أقرب من الأب والأم والنسب والانتساب، فالأوطان شيءٌ جمعي يلخّص وجودنا فرادى وكيانات، وبدأت أسرد فلسفتي عليه في معنى الأوطان والموت في الغربة، وأوجزت له أحاديث عن السياب والبياتي والجواهري وسعدي ومعاناة المئات من الأدباء والمثقفين ومعاناة هذا الشعب بأكمله مشفوعا بتاريخ الاحتلالات، ولم أجد ما ذكرت قد أثر به قيد أنملة لأنه يقاطعني بين الحين والحين بمفردة “صدق- أكو هيج”..

قال: في المطار أي مطار البصرة سأعطي رشوة للشرطي الذي سيختم جوازي، وسأتصل عند هبوطنا في البحرين بابن أخي “شاب سبع″ ويعمل “مع الجماعة” كان وجههُ أصفرَ والآن كالتفاحة، أرسلوا لي صورَه إلى مالطا عبر الإنترنت، عندما رُفِعَ الطعام سقطت حبيبات من الرز المحمّر على بنطاله وراح ينكتها نكتاً بيديه، تأملت بنطاله الجينز وكان ماركة “سبنسر” وكذلك حذاءه، وبدأت أتطلع فيه “تي شيرته ذو علامة الغولف- كاسكيت غطاء رأسه سواره الفضي وقلادته”، وأنا أتناول الشاي بعد نظرةٍ فاحصةٍ قلت له مبتسماً: كيف الحال يا ثيودورومانوليس شكلاً ويا علوانَ عباس مضموناً؟

تصور يا أخي لا أعلم كيف هي البصرة الآن أبنيتها شوارعها ناسها، لكن أكيد.. أكيد أن الناس هناك لا زالوا طيبين، نخيلها كم بقي منه، وهل لا زالت ساحة أم البروم؟..ولكي أداري حرقته بغير المتوقع سألتهُ: هل توفي شرهان كاطع؟ قال لي والدي الله يرحمه كان يجلب لنا كاسيتات ريفية من محل تسجيلاته، ووجدتها فرصة أن أساله عمّن يتذكر من أصحاب الفكر والأدب في مدينة المدن وخاصرة العراق الدافئة، فذكر لي من ذكر ولكنه ردّ عليّ: أخي لقد تركت البصرة منذ أكثر من عشرين عاماً، ويقولون العالم يتغير لكن البصرة لن تتغير، هبطنا المنامةَ ليلاً في مطارها الذي أتقصده في جميع رحلاتي ولا بد أن أمر به.. استأذنني ثيودورومانوليس وذهبَ إلى w.c وجلست في إحدى كافيتريا المطار أتناول القهوةَ وبعد برهة جاء رجل وقف فوق رأسي مرتدياً دشداشةً بيضاء وعقالاً وينتعلُ خفاً وسألني “ها.. إشلوني هَسه” لم أصدق أن هذا ثيودورو وأعاد عليّ مقولتي: الأوطان لا تُبدل، قال تصور هذه الفكرة أتت في بالي وأنا في مالطا واشتريت هذه الحاجيات من أحد المحال القديمة في دمشق وحين سأنزل في مطار البصرة سينطبق عليَ المثل “ضاع أبتر بين البتران”، اتصل بابن أخيه الذي مع الجماعة وأطمأن ساعتها وطلب لنفسه قهوة تركية، ودار رأسه حين نظر إلى ساعته وقال: الآن هي بالبحر، استأذنتهُ حين نودي على ركاب الطائرة المتجهة إلى الدوحة وقلت في نفسي حتى الثرثرة أحياناً حاجة إنسانية.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.