اعتراف‭ ‬لا‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يظل‭ ‬متأخراً

الأحد 2017/10/01
لوحة: نصر ورور

الأستاذ‭ ‬الناقد‭ ‬خلدون‭ ‬الشمعة،‭ ‬أحييك‭ ‬أيها‭ ‬الشيخ‭ ‬وأنت‭ ‬تحرس‭ ‬ضوء‭ ‬شمعتك‭ ‬في‭ ‬ضباب‭ ‬لندن. هل‭ ‬تعلم‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬في‭ ‬السبعينات،‭ ‬كنا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬اسمك‭ ‬ليس‭ ‬شمعة‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬مصباحا‭.‬ يومها‭ ‬كان‭ ‬يشاركنا‭ ‬هذا‭ ‬الاعتبار‭ ‬القاص‭ ‬عمّار‭ ‬بلحسن‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الأدبي،‭ ‬والذي‭ ‬رحل‭ ‬مبكرا‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الحياة،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يقرأك‭ ‬بنهم‭.‬‭ ‬كنت‭ ‬تمثل‭ ‬نورا‭ ‬يضيء‭ ‬لنا‭ ‬مسالك‭ ‬الكتابة‭ ‬ونحن‭ ‬على‭ ‬عتبتها‭ ‬مترددين،‭ ‬خائفين‭.‬

علمنا‭ ‬جيلكم‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬موقفا‭ ‬فكريا‭ ‬و‭ ‬سياسيا‭ ‬و‭ ‬حضاريا،‭ ‬و‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬الناقد‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬نقده،‭ ‬من‭ ‬رسالة‭ ‬نقده،‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬مثقفا‭ ‬مواطنا،‭ ‬يحمل‭ ‬رسالة‭ ‬تنوير‭ ‬و‭ ‬تغيير‭.‬

كنا طلبة‭ ‬جامعة‭ ‬وهران‭ ‬بالجزائر،‭ ‬نتسابق‭ ‬على‭ ‬مقالاتكم‭ ‬و‭ ‬كتبكم،‭ ‬نقرأها‭ ‬بلهفة‭ ‬و‭ ‬تمعن‭ ‬و‭ ‬سؤال،‭ ‬و‭ ‬كانت‭ ‬تخلق‭ ‬فينا‭ ‬نقاشات‭ ‬كثيرة،‭ ‬تربط‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الأدبي‭ ‬و‭ ‬الاجتماعي‭ ‬و‭ ‬السياسي‭ ‬و‭ ‬الفلسفي،‭ ‬يقرأ‭ ‬ما‭ ‬تكتبونه‭ ‬طلبة‭ ‬الأدب‭ ‬و‭ ‬طلبة‭ ‬علم‭ ‬الاجتماع‭ ‬و‭ ‬الفلسفة‭ ‬و‭ ‬التاريخ،‭ ‬كانت‭ ‬كتاباتكم‭ ‬للفكر‭ ‬الجامعي‭. ‬

‮ ‬كنا‭ ‬ندرك‭ ‬،‭ ‬مذ‭ ‬ذاك،‭ ‬بأنكم‭ ‬آخر‭ ‬سلالة‭ ‬المثقفين‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬الذين‭ ‬يؤمنون‭ ‬بفاعلية‭ ‬الأدب،‭ ‬وبفاعلية‭ ‬النقد‭ ‬و‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬التغيير،‭ ‬ليس‭ ‬العقول‭ ‬وحدها،‭ ‬إنما‭ ‬أيضا‭ ‬السلوك‭ ‬اليومي‭ ‬للمثقف‭ ‬المبدع‭. ‬

‮ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬عبد‭ ‬المنعم‭ ‬تليمة‭ ‬وبوعلي‭ ‬ياسين‭ ‬ونبيل‭ ‬سليمان‭ ‬غالي‭ ‬شكري‭ ‬ومحمود‭ ‬أمين‭ ‬العالم‭ ‬وصادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬وجابر‭ ‬عصفور‭ ‬ونذير‭ ‬العظمة‭...‬‮ ‬‭ ‬كنتم‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬الأدب‭ ‬والفكر‭ ‬قادران‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬العالم،‭ ‬قادران‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬الإنسان،‭ ‬بكتاباتكم‭ ‬تغيرنا،‭ ‬وآمنا‭ ‬بالتنوير،‭ ‬وبكتاباتكم‭ ‬دخلنا‭ ‬معركة‭ ‬ضد‭ ‬الظلامية‭ ‬وضد‭ ‬أعداء‭ ‬الحرية‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الثقافي‭ ‬والفكري‭ ‬والسياسي‭ ‬والإبداعي‭.‬

‮ ‬كنتم‭ ‬الجيل‭ ‬الواضح،‭ ‬جيل‭ ‬يكتب‭ ‬باجتهاد‭ ‬و‭ ‬بإيمان‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يكتب،‭ ‬وكنتم‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬الجامعة‭ ‬على‭ ‬سؤال‭ ‬المجتمع،‭ ‬وأقحمها‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬الحراك‭ ‬المجتمعي،‭ ‬ليخفق‭ ‬قلبها‭ ‬لما‭ ‬يخفق‭ ‬به‭ ‬قلب‭ ‬المجتمع‭ ‬،‭ ‬كنتم‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬على‭ ‬سؤال‭ ‬مستقبل‭ ‬المعرفة‭ ‬التي‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭ ‬والإنسان‭ ‬‮ ‬الحرية‭. ‬كنتم‭ ‬استمرارا‭ ‬ثقافيا‭ ‬و‭ ‬أدبيا‭ ‬للعقل‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬العربي‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬شكلتم‭ ‬قطيعة‭ ‬هادئة‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬تغيير‭ ‬هادئ‭ ‬أيضا‭. ‬

‮ ‬وكنتم‭ ‬أيضا‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬سجل‭ ‬حضوره‭ ‬المتميز‭ ‬في‭ ‬الإعلام‭ ‬الثقافي‭ ‬والأدبي‭ ‬الفاعل،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬خطاباتكم‭ ‬نخبوية‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تبسيطية،‭ ‬كانت‭ ‬عميقة‭ ‬وحذرة،‭ ‬فكان‭ ‬القارئ‭ ‬الجامعي‭ ‬كما‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬ما‭ ‬تكتبون،‭ ‬لقد‭ ‬حققتم‭ ‬‮«‬لحظة‭ ‬الانتظار‮»‬‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬القارئ‭. ‬بكتاباتكم‭ ‬ثقفتم‮ ‬‭ ‬المنابر‭ ‬الإعلامية‭ ‬ومنحتموها‭ ‬احتراما‭ ‬وهيبة‭ ‬وجعلتم‭ ‬قراءتها‭ ‬ضرورة‭ ‬ثقافية‭ ‬وسياسية‭ ‬بخطاب‭ ‬راق‭ ‬وعالم‭ ‬وهادئ‭ ‬وعميق‭. ‬

كانت‭ ‬شهادة‭ ‬الواحد‭ ‬من‭ ‬جيلكم‭ ‬الناقد‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬روائي‭ ‬أو‭ ‬قصاص‭ ‬أو‭ ‬شاعر،‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬رواية‭ ‬أو‭ ‬مجموعة‭ ‬قصصية‭ ‬أو‭ ‬شعرية،‭ ‬شهادة‭ ‬لها‭ ‬وزنها‭ ‬ولها‭ ‬الأذن‭ ‬التي‭ ‬تسمعها‭ ‬ولها‭ ‬أيضا‭ ‬صداها‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬الكتابة‭ ‬وفي‭ ‬ترميم‭ ‬الخلل‭ ‬وتعميق‭ ‬البحث‭ ‬والسؤال،‭ ‬كنتم‭ ‬تكتبون‭ ‬نقدا‭ ‬دون‭ ‬أبوية‭ ‬أو‭ ‬أنانية‭ ‬بل‮ ‬‭ ‬باحترام‭ ‬التجارب‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مستوياتها‭ ‬من‭ ‬النضج‭.‬

‮ ‬كنا‭ ‬وقتها‭ ‬أقلاما‭ ‬إبداعية‭ ‬قصصية‭ ‬وروائية‭ ‬ناشئة‭ ‬تتأسس‭ ‬بهدوء‭ ‬واحترام‭ ‬وتردد‭ ‬تحت‭ ‬عينكم‭ ‬الناقدة،‭ ‬المتابعة‭ ‬بعمق‭ ‬ودون‭ ‬تجبر‭ ‬وبعيدا‭ ‬عن‭ ‬البطريركية‭ ‬الثقافية‭ ‬القاتلة،‭ ‬كنا‭ ‬نكتب‭ ‬ويدنا‭ ‬على‭ ‬قلوبنا‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬رأي‭ ‬منكم‭.‬

‮ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬بعدكم‭ ‬؟

أستاذي‭ ‬خلدون‭ ‬الشمعة،‭ ‬بعدكم‭ ‬جاء‭ ‬جيل‭ ‬من‭ ‬‮«‬النقاد‮»‬‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬أطلق‭ ‬عليهم‭ ‬اسم‭ ‬نقاد‭ ‬‮«‬الحداثة‭ ‬العربية‮»‬‭ ‬فأغرقوا‭ ‬السوق‭ ‬الثقافي‭ ‬والجامعة‭ ‬والمنابر‭ ‬الإعلامية‭ ‬ومعها‭ ‬أغرقوا‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬غامض،‭ ‬يدعي‭ ‬وهما‭ ‬‮«‬المفهمة‭ ‬كاملة‮»‬‭ ‬و»التمفهم‭ ‬المطلق‮»‬،‭ ‬‮ ‬ينحت‭ ‬خارجيا‭ ‬من‭ ‬متن‭ ‬فلسفي‭ ‬لا‭ ‬يفهمه‭ ‬ولا‭ ‬يحاوره،‭ ‬يريد‭ ‬عسراً‭ ‬أن‭ ‬يتلبسه‭ ‬كي‭ ‬يقال‭ ‬عنه‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬‭. ‬

‮ ‬أستاذي‭ ‬خلدون‭ ‬الشمعة،‭ ‬هكذا‭ ‬مع‭ ‬الجيل‭ ‬الذي‭ ‬بعدكم،‭ ‬دخل‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬فراغات‭ ‬لغوية،‭ ‬وفي‭ ‬متاهات‭ ‬و‭ ‬جداول‭ ‬و‭ ‬أسهم‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬في‭ ‬غموضها‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬رقية‮»‬‭ ‬الراقي‭ ‬الدجال،‭ ‬و‭ ‬ابتعد‭ ‬النقد‭ ‬عن‭ ‬الثقافة‭ ‬وأصبح‭ ‬صناعة‭ ‬وترديدا‭ ‬ببغاويا‭ ‬لأسماء‭ ‬كبيرة‭ ‬عالمية‭ ‬أسست‭ ‬خطابها‭ ‬ضمن‭ ‬منطق‭ ‬حضاري‭ ‬وبنية‭ ‬فلسفية‭ ‬خاصة،‭ ‬واختلط‭ ‬الحابل‭ ‬بالنابل،‭ ‬مصطلحات‭ ‬لا‭ ‬أنزل‭ ‬الله‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬سلطان،‭ ‬وترجمات‭ ‬لمفهومات‭ ‬فلسفية‭ ‬بطريقة‭ ‬‮«‬مضحكة‮»‬،‭ ‬ودخلت‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬نفق،‭ ‬وتنازل‭ ‬الخطاب‭ ‬النقدي‭ ‬عن‭ ‬حسه‭ ‬الفكري‭ ‬والحضاري‭ ‬والسياسي‭ ‬وانزوى‭ ‬في‭ ‬‮ ‬مربع‭ ‬‮«‬التقنوية‮»‬‭ ‬و»البذخ‭ ‬الخطابي‮»‬،‭ ‬ومع‭ ‬تموقع‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬وبخطابه‭ ‬‮«‬المتعلمن‮»‬‭ ‬انفصلت‭ ‬الجامعة‭ ‬عن‭ ‬المجتمع،‭ ‬وانفصل‭ ‬الناقد‭ ‬عن‭ ‬ومنابر‭ ‬الإعلام،‭ ‬وحتى‭ ‬إن‭ ‬حضر‭ ‬لا‭ ‬أثر‭ ‬لكتاباته،‭ ‬ولا‭ ‬صدى‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬المبدعين‭. ‬

نعم‭ ‬أستاذي‭ ‬خلدون‭ ‬الشمعة،‭ ‬اليوم‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أحييك‭ ‬ومن‭ ‬خلالك‭ ‬أن‭ ‬نعترف‭ ‬لجيلكم‭ ‬بقيمة‭ ‬التأسيس‭ ‬و‭ ‬بقيمة‭ ‬السلطة‭ ‬الفكرية‭ ‬الرمزية‭ ‬التي‭ ‬تغير‭ ‬دون‭ ‬أنانية‭ ‬أو‭ ‬أبوية‭. ‬فتحية‭ ‬لجيلكم‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.