الشعر والدين والشعر والكتابة

الأربعاء 2017/11/01

عنون الزعبي الكتاب بـ”رسالتان من التراث النقدي عند العرب” لافتا في مقدمته إلى أن لكل منهما تاريخ في الإطار الثقافي العربي، وقال “إن الجدل حول مدى قبول الشعر والشعراء بدأ دينياً منذ نزلت الآيات القرآنية الكريمة التي تنفي كون القرآن الكريم شعراً، وكون النبي، صلى الله عليه وسلم، شاعراً، وكذلك الآيات الكريمة في سورة الشعراء التي تصفهم بالغواية، وتستثني من الحكم الشعراء المؤمنين، ويضاف إلى هذه النصوص القرآنية أحاديث نبوية شـريفة تقع في الإطار نفسه. وقد أدى هذا إلى أن تصبح قضـية الموقف الديني من الشعر والشعراء واحدة من القضايا التي شغلت الأوساط الدينية والأدبية والاجتماعية بعامة. وهو ما نجد تجلياته في كثير من الكتب الدينية والأدبية والنقدية العربية منذ مرحلة مبكرة من تاريخ الكتابة العربية وحتى الوقت الراهن”.

وأشار الزعبي في كتابه الصادر عن الآن ناشرون وموزعون إلى اكتشافه “رسالة الطيب بن علي بن عبد في أمر الشعر وعمله” حين كان يقوم باستقصاء المخطوطات العربية المتعلقة بالنقد والبلاغة في فهرس المخطوطات العربية المحفوظة بمكتبة الدولة في برلين، الفهرس الضخم القيم الذي أعده المستشـرق الألماني فيلهلم الورد، فقام بمساعدة أستاذه إيفالد فاجنر مدير معهد الدراسات الشـرقية في مدينة جيسن بألمانيا بطلب المخطوطة من مكتبة الدولة ببرلين التي زودته بنسخة من الرسالة.

وأضاف “حين قرأت الرسالة التي تقع في ثلاثين صفحة، وجدتها مكرّسة للدفاع عن الشعر والردّ على منتقديه والمتحاملين عليه من وجهة نظر دينية، وقد عمد الطيب في دفاعه إلى استعمال المصادر نفسها التي استعملها منتقدو الشعر، وهي المصادر الدينية، فقد اعتمد على القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشـريفة، وأقوال المراجع الدينية والأدبية في دفع التهم الموجهة إلى الشعر، تماماً كما فعل المتحاملون عليه. وتبينت أن المادة التي تضمها الرسالة تقدم صورة مفصلة للجوانب المتعددة المتباينة المتعلقة بقضـية الدفاع عن الشعر في الثقافة العربية. وهي بهذا تمثل الرسالة الوحيدة المكرسة لهذا الموضوع -في حدود ما أعلم- على الرغم من كون مادتها وموضوعاتها منثورة في عدد كبير من الكتب الأدبية والنقدية والدينية العربية، كما يتبين من الإحالات والمقابلات الكثيرة الملحقة بالتحقيق”.

وأوضح أن الرسالة الثانية، رسالة أبي إسحاق الصابي “رسالة في الفرق بين المترسل والشاعر” فقد ذكرتها الكتب النقدية والأدبية القديمة، أو أوردت أجزاء منها في غير موضع وسـياق، كما فعل أبو حيان التوحيدي في “المقابسات” وابن سنان الخفاجي في “سـر الفصاحة” وابن الأثير في “المثل السائر” وابن أبي الحديد في “الفلك الدائر”. كما وردت إشارات إلى وجودها في بعض المخطوطات الأخرى ومنها “التذكرة الحمدونية” وقد حصلت بفضل كرم الأستاذ إحسان عباس وتعاونه على نسختين من رسالة الصابي من مخطوطتين للتذكرة الحمدونية، وهما اللتان أعتمدهما في التحقيق الملحق بالدراسة.

ورأى الزعبي أن رسالة الصابي تعالج قضـية العلاقة بين الشعر والنثر وبين الشاعر والناثر، وهي بهذا تتناول هذه القضـية من وجهة نظر فنية تتعلق ببنية كلّ من الشعر والنثر، كما تبحثها كذلك من وجهة نظر اجتماعية تتعلق بالمفاضلة بين الشعراء والكتاب التي أخذت حيزاً غير قليل من اهتمام عدد من الأدباء والنقاد استناداً إلى أبعاد فنية واجتماعية، وهو ما سـيجده القارئ مفصلاً في الدراسة الخاصة بالرسالة.

وأكد أن نشـر هاتين الرسالتين معاً، وفيهما أشـياء مشتركة، على الرغم من التباين الواضح في الهدف الذي وضعت كل واحدة من أجله، ليسهم في تقديم صورة أوضح للجدل الذي دار حول موضوعيهما، كما يضع بين أيدي الباحثين والقراء، نصوصاً جديدة، وبخاصة رسالة الطيب بن علي بن عبد التي تنشـر هنا لأول مرة.

إلى جانب تحقيق هاتين الرسالتين كانت هناك دراستان مكثفتان، لفت الزعبي أنه استغنى فيهما عن إيراد كثير من الشواهد والنصوص العربية القديمة، وقال “اكتفيت بالإحالة عليها في مصادرها الأصلية ولذا فإن القارئ سـيجد كماً كبيراً من الإحالات على المصادر العربية، والدراسات الحديثة التي تناولت موضوعي الرسالتين، فقد ارتأيت أن التخلي عن الإسهاب في الاستشهاد بالنصوص والتعليق عليها يجنب المرء صوراً من التكرار يمكن أن تقع، ويحافظ على البؤرة التي تدور عليها القضـية محددة واضحة دون الانخراط في مقتبسات تورد وفق تسلسل تاريخي أو غيره، يمكن أن تتحول في بعض الأحيان إلى استطرادات قد تقلل في بعض الأحيان من تماسك الفكرة المراد التعبير عنها”.

دراسة الزعبي لرسالة الطيب بن علي بن عبد في “الدفاع عن الشعر” التي تدرس وتحقق لأول مرة، جاءت في قسمين: الأول الدراسة التي سعت إلى تقديم تصور شامل لقضـية الدفاع عن الشعر في النقد العربي القديم؛ ذلك لأن رسالة الطيب بن علي مخصصة لهذه القضـية، فقد عرضت للموقف الديني من الشعر مبينة أنه كان السبب الرئيس وراء الهجوم على الشعر، وبالتالي السبب في نشوء ظاهرة الدفاع عن الشعر وتطوّرها عند كثير من الأدباء والنقاد العرب القدماء، ومنهم صاحب الرسالة الذي يمكن أن يكون الوحيد الذي أفرد رسالة قائمة برأسها لهذا الموضوع. والثاني التحقيق وقد انصب الاهتمام في هذا المجال على العناية بالنص وإخراجه بصورة صحيحة، كما قوبلت مادة الرسالة على مثيلتها في المصادر الأدبية والنقدية المختلفة. وكذلك فقد عرض الباحث لمخطوط الرسالة الوحيد وصفاً ونقداً، وحاول أن يتحقق من شخصـية المؤلف التي ما تزال، للأسف، مجهولة حتى الآن.


لوحة: أحمد عبدالعال

ورأى الزعبي أن جميع الروايات والأخبار التي ضمنها المؤلف رسالته تعود إلى القرون الثلاثة الهجرية الأولى، لكن هذا لا يعني بالضـرورة أن الرسالة قد ألفت في نهاية القرن الثالث أو في القرن الرابع الهجري مثلاً؛ ذلك لأن من الممكن أن يكون المؤلف قد سعى إلى جمع روايات وأخبار تنتمي إلى تلك الحقبة الزمنية بالذات؛ لأنه يريد، كما يقول، أن يبين، عن “فضائل الشعر، وموقعه في سالف الدهر”. ولذا فإن أيّ افتراض أو تخمين يهدف لتحديد عصـر المؤلف أو موطنه سـيكون غير مأمون البتة. وممّا يجب أن يشار إليه أن المادة التي حشدها المؤلف للدفاع عن الشعر لم تظهر بمثل هذا الحجم أو التنظيم إلا عند النقاد المتأخّرين. ظهر قسم لا بأس به منها عند ابن رشـيق، وظهر حجم أكبر من حجم مادة الرسالة عند المظفر العلوي، والتنسـي.

والمادة عند هؤلاء تتشابه، ولكنها لا تتماثل. فقد اشترك هؤلاء في كثير من الروايات والأخبار، ولكنّ كلاّ منهم قد انفرد بروايات وأخبار عديدة دون الآخرين. وأخيراً فإن المرء يستطيع أن يلمس من خلال مادة الرسالة أن المؤلف ربما كان شـيعياً أو ذا ميول شـيعية، يدل على ذلك إشارات عديدة، منها، على سبيل المثال، وصفه لعلي بن أبي طالب بأنه “أخو نبي العالمين”، وإيراده لكثير من أشعاره، بعضها يتعلق بوصايته وحقه في الخلافة، وهي غير موجودة في ديوانه المطبوع″.

أما دراسته حول رسالة أبي إسحاق الصابي “في الفرق بين المترسل والشاعر” فجاءت دراسة توثيقية نقدية تتكون من قسمين وملحق، دار الكلام في القسم الأول منها على حياة الصابي وثقافته وآثاره، وبخاصة رسالته موضوع البحث. أما القسم الثاني فهو تحليل ونقد لمادة الرسالة وبيان لامتداداتها وتأثيراتها في النقاد الذين جاؤوا بعد الصابي. وقد ألحق بالدراسة نص رسالة الصابي محققاً عن مخطوطتين.

مادة الرسالة كما أشار الزعبي جاءت في وقت كانت فيه مسألة العلاقة بين الشعر والنثر، والمفاضلة بينهما، وكذلك المفاضلة بين الكاتب والشاعر واحدة من القضايا التي تفرض نفسها على نقاد القرن الرابع الهجري وأدبائه. وقال “قد بحث النقاد هذه المسألة من زوايا عديدة مختلفة، فذهب ابن طباطبا العلوي (ت322 هـ) إلى أنّ لا فرق بين القصـيدة والرسالة إلا في الوزن، وأن “الشعر رسائل معقودة، والرسائل شعر محلول” وأنهما يشتركان، بالتالي، في موضوعاتهما ومعانيهما، وفي طريقة بنائهما.

أما أبوعلي الحاتمي (ت384 هـ) فقد فاضل بين الفنين مبيناً أن قيمة الشعر أعلى من قيمة النثر. وكذلك فعل أبوهلال العسـكري (ت. حوالي 395هـ)، وأبـوبـكر الباقـلانـي (ت. 403هـ)، كما يجد الباحث إشارات إلى هـذه الـقضـية عـند الآمـدي (ت371 هـ)، والمرزباني (ت 384هـ)، تتعلق بالتفريق أو بالمفاضلة بينهما. أما أجلى صور الاهتمام بهذه المسألة فنجدها عند أبي حيان التوحيدي الذي عالجها في كتبه غير مرة، فقد أفرد الليلة الخامسة والعشـرين من “الإمتاع والمؤانسة” لبحث قضـية العلاقة بين الشعر والنثر، استجابة لرغبة الوزير أبي عبد الله العارض الذي “أحب أن يسمع كلاماً في مراتب النظم والنثر، وإلى أيّ حد ينتهيان، وعلى أيّ شكل يتفقان، وأيهما أجمع للفائدة وأرجع بالعائدة، وأدخل في الصناعة، وأولى بالبراعة” وقد جعل التوحيدي من هذه التساؤلات مدخلاً لبحث هذه القضـية بحثاً تفصـيلياً مسهباً من خلال حشد آراء النقاد والكتاب والشعراء والمتفلسفين فيها.

وكذلك فقد بحث التوحيدي هذه المسألة مع مسكويه في “الهوامل والشوامل”، فسأله “عن النظم والنثر، وعن مرتبة كل واحد منهما، ومزية أحدهما على الآخر، ونسبة هذا إلى هذا، وعن طبقات الناس فيهما، فقد قدم الأكثرون النظم على النثر، وقدم الأقلون النثر”. أما في كتاب “المقابسات” فقد عرض التوحيدي لقضـية العلاقة بين الشعر والنثر غير مرة، وأورد آراء لأستاذه أبي سليمان السجستاني، وهي آراء جاءت في إطار محاورات حول هذه المسألة جرت في حلقته الفلسفية، وقد كانت إحدى هذه المحاورات مع أبي إسحاق الصابي الذي سأل السجستاني عن “مرتبة كل من النظم والنثر”.

ورأى الزعبي أن الصابي كان يرى أن من الصعب على المرء أن يتمكن من الإجادة فيهما معاً، ذلك لأن طبع المرء يميل به إلى أحد هذين المتضادين، وبالتالي يبتعد به عن الآخر، وقد أوضح الصابي هذا الأمر بقوله «فلما صارت الإصابتان في الأمرين متراميتين على طرفين متباينين، بعد على القرائح أن تجمعهما، فشـرّقت إلى هذا فرقة، وغرّبت إلى ذاك أخرى، ومال كل من الجميع إلى الجانب الموافق لطبعه، ثم ترتبوا في المسافة بينهما، فليس يكاد يوجد الجامع بين الإحسانين إلا على شـرط يزيد به الأمر تعذراً، والعدد تنزراً، وهو أن يكون طبعه طائعاً له ممتداً معه، فإذا دعاه إلى التطرف به إلى أحد الجانبين، أجابه وانقاد إليه..”.

وأوضح “الصابي يرى، كما يتبدى من هذا النص، أن اختلاف طبيعة العملية الإبداعية في الشعر عنها في النثر، يستدعي وجود شخصـيتين مبدعتين تسـيران في اتجاهين متعاكسـين، وهذا يعني أن من الصعب أن تكون شخصـية واحدة قادرة على الإبداع في فنين يتطلبان حالتين إبداعيتين متباينتين، تنأى كل منهما بذاتها عن الأخرى، إلا إذا كانت هذه الشخصـية قادرة على تطويع ‘طبعها’ ليسـير معها في الاتجاه الذي تريد، ومثل هذه الشخصـية نادرة الوجود، وبهذا يفسـر الصابي ندرة من يستطيع أن يكون شاعراً مبدعاً وكاتباً مبدعاً في الوقت نفسه”.

وهذا التصور الذي يطرحه الصابي هنا ليس جديداً، فقد نقل الجاحظ عن سهل بن هارون (ت 215هـ) قوله “اللسان البليغ والشعر الجيد لا يكادان يجتمعان في واحد، وأعسـر من ذلك أن تجتمع بلاغة الشعر، وبلاغة القلم (الكتابة)”. كذلك فقد وقف الجاحظ نفسه عند مسألة تباين الطباع، ورأى أن المرء “قد يكون له طبع في تأليف الرسائل والخطب والأسجاع، ولا يكون له طبع في قرض بيت شعر”. وهو في هذا يحاول أن يبين أن “الإبداع في فنّ ما من الفنون مرتبط بما يملكه الشخص من طبع يميل به إلى هذا الفن ويمكنه منه، ويبعده بالتالي، عن الفنون الأخرى ويجعلها عسـيرة عليه”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.