علة العالم الجديدة

الأربعاء 2017/11/01
لوحة: نهاد الترك

جرت العادة أن يدين المحللون عبثية السوق المهيمنة والفوضى التي أوجدتها النيوليبرالية حتى باتت كابوسا يجثم على رقاب الشعوب، وها أن باحثَين فرنسيَّين، هما بيير داردو أستاذ الفلسفة بجامعة نانتير وكريستيان لافال أستاذ علم الاجتماع بالجامعة نفسها، يبينان في كتاب قيّم عنوانه “علة العالم الجديدة” أن تلك الفوضى المزعومة تنبني في الواقع على عقلانية ذات عمل تحتيّ شامل، هي علة الرأسمالية المعاصرة، والنيوليبرالية نفسها.

فالنيوليبرالية في تصورهما ليست عودة إلى الليبرالية الكلاسيكية ولا إحياءً لرأسمالية خالصة، بل هي سعيٌ جديد غايته جعل المنشأة التجارية نموذجا لحكم الشعوب وجعل التنافس معيارا كونيا للسلوكيات لا يستثنى منه أيّ مجال من مجالات الوجود الإنساني، وهو منطق يُسيء حتى إلى الديمقراطية نفسها بمفهومها الكلاسيكي إذ يستنبط أشكالا من الإخضاع غير مسبوقة تمثِّل لمن يعارضونها تحديا سياسيا وثقافيا لم يعهدوه.

ومن ثَمّ وجب تحليل تلك العقلانية التي تقوم عليها النيوليبرالية وفهم منطقها بدءا باستعادة مراحل الفكر الليبرالي وتطور نظرياته عبر التاريخ للوقوف على خصوصية النيوليبرالية وتياراتها التي ظهرت ما بين الحربين، حتى يستطيع مناوئوها تشكيل فكر نقدي جادّ يساهم في رسم سياسة يسارية موضوعية.

تمثل النيوليبرالية في نظر الباحثَين شكلا مخصوصا لفكر الدولة وطريقة الحكم، فكر لا تهيكل مبادئُه الاقتصادَ وحده بل مجمل الأنشطة الاجتماعية أيضا على نحو أرسى تلك المبادئ كمعيار حياةٍ في المجتمعات الغربية يُلزم الفرد بالعيش في عالمِ تنافسٍ عام ويفرض عليه تقريبا أن يتصور نفسه كمُنشأة.

وهي الفكرة التي يحوم حولها الكتاب، إذ يسعى صاحباه إلى إقامة الدليل على أن ذلك الفعل الاجتماعي الشامل نابع من إرادة فرض التنافس كأنموذج كوني للسلوك من خلال عمل متواصل شامل متعدد تتولى أداءَه الدولُ نفسُها. ذلك أن الدولة النيوليبرالية لم تزُل بل تحولت إلى نوع من المنشأة الكبرى تخضع بتمامها وكمالها لمبدأ التنافس وتمارس حكما على طريقة المؤسسات التجارية.

يحتوي الكتاب على ثلاثة أجزاء، تركّز جزؤه الأول على أهم مفكري الليبرالية من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، واستعراض تصورهم للمجالات التجارية والاجتماعية والسياسية، لتلمس بوادر فكر نيوليبرالي والدور المنوط لتدخل الدولة في تلافيف نظريات الفكر السياسي. من ذلك مثلا أن آدم سميث يرى أن التنافس، كمبدأ أساس للسوق، هو أمر جوهري وطبيعي، وأن للدولة دورا في تنظيم آلياته بانتظام، وإن بحذر شديد.

فصاحب “ثراء الأمم” لا يروم الحدّ من تدخل الدولة بل يسعى إلى توجيه عملها حسب قواعد التبادل ونشاط السوق، مع إيلاء أهمية كبرى لتربية الشعب، ففي رأيه أن تعليم أكبر قدر من الأفراد سوف يسمح بكبح نهم الأقوياء إلى سنّ قوانين لصالحهم دون سواهم. وهو ما يعترض عليه الفيزيوقراطيون الفرنسيون (أي أتباع المذهب الاقتصادي الذي يعتبر الزراعة مصدر الثروة الوحيد) الذين يبدون أكثر دغمائية بتأكيدهم على وجود نظام آليّ مخصوص للظواهر الاقتصادية خاضع لقوانين عامة لا تتغير. ما يعني أن الحكومة الليبرالية لا تبتدع قوانين بل تعترف بكونها مطابقة لمنطق الطبيعة.

ورغم اختلافهما يحرص هذان الفرعان على تصور العمل العمومي بجعله مستندا إلى العلم الاقتصادي الذي يسمح بحل القرينة التالية: كيف يمكن الحدّ من تدخل الحكومة حتى لا تكبح نشاط المجتمع المدني ولا تعرقله كثيرا، لأن الدولة ضرورية لتيسير الاقتصاد. ما يعني أن الفلسفة السياسية الليبرالية كانت على يقين بأن الطبيعة البشرية قادرة على التحسن بصفة مستمرة، وهي نقطة هامة لأنها سوف تكون قاعدة لتصور دور الحكومة في النيوليبرالية تصورًا يرى أن الدولة ينبغي أن تهدف على الدوام إلى خلق إنسان جديد. في هذا الإطار يرى رجل القانون والفيلسوف والمصلح البريطاني جيريمي بنثام (1748-1832) أن السوق، كأداة سياسية، قادرة على تلبية أهداف المجتمع السياسي، فهو يعارض منظّري الحق الطبيعي ومفكري حقوق الإنسان، ويذكّر بأن الحرية والمساواة والأمن ليست قوانين، بل ابتكارات تشريعية تحميها قوة الدولة.

ويضيف أن السبيل الوحيد أمام الحكومات الحديثة هو الإصلاح المتواصل الذي ينظمه مبدأ النفعية، في مجتمع غير متكافئ، تراتبيّ، وموزّع بشكل لا محيد عنه بين الأقوياء والجماهير التابعة. وهو ما ندد به دعاة الحق الطبيعي في حينه، إذ رأوا أن هذا البحث عن سعادة أكبر سيمر عبر فرض الأشغال الشاقة على الذين يعيشون على هامش منظومة الإنتاج، باسم التأهيل المستمر.

وهكذا ظلت النظريات الليبرالية تتعارض فيما بينها طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ما ولّد أزمة عُرفت في حينها بأزمة الليبرالية، ولكنها كانت في الواقع “أزمة حوكمة ليبرالية” بعبارة ميشيل فوكو، أعمق من أزمة 1929. ذلك أن نظريات الليبرالية الكلاسيكية لم تعد تناسب الواقع الاقتصادي ولا واقع السياسات العامة كالإصلاحات الاجتماعية، وصار منظروها موضعا لنقد من يعتبرهم محافظين عاجزين عن فهم مجتمع عصرهم. بيد أن هذا النقد وجد في النصف الثاني من القرن العشرين من يدحضه، إذ ظهر تيار يتزعمه هاربرت سبنسر تولّى الدفاع عن السوق الحرة واعترض باسم “مذهب التطور البيولوجي” على أيِّ تدخل للدولة وعلى سلسلة من القوانين التي تعنى بالتربية والصحة والعمل الاجتماعي، والتي يرى في طبعها الإجباري الملزم تخلفا لا يحتمل.

وراح يدعو إلى التخلي عن كل تدخل لفائدة الفقراء والمعوزين لأن تقدم المجتمع يشترط في رأيه تدمير جانب من مكوناته. وخلافا لما ذهب إليه بنثام أكد سبنسر أن وظيفة الليبرالية في المستقبل ستتركز على “الحدّ من سلطة البرلمان الخاضع لضغط متلهّف من الجماهير الجاهلة، وأن التنافس بين الأفراد سيصبح المبدأ الأساس لتقدم الإنسانية. مبدأ التنافس هذا هو الذي سوف تتخذه النيوليبرالية محركا للتقدم، مشفوعا بالتخلي عن نصرة الضعفاء، وتعدّله بشكل منتظم في شتى فروعها وإن لم يتبنّ دعاتها عدم تدخل الدولة إذ آثروا عليه المفهوم المحرّف للنفعية.

في الجزء الثاني يمرّ المؤلفان إلى توصيف دقيق للنيوليبرالية كجسد نظري مخصوص ولد خلال ندوة والتر ليبمان التي انعقدت في باريس عام 1938، وكان من أهدافها تأسيس مجموعة تفكير ونقاش عالمية، وإعادة النظر في المذهب الليبرالي وليس إنقاذه فقط، والارتكاز على شبكة من مراكز البحوث لنشر الفكر الجديد. وقد عبر المشاركون هنا أيضا عن تنوع وجهات النظر التي تشوب، منذ البداية، تلك العالمية الليبرالية. فمنظرو الأوردوليبرالية الألمان، أمثال فيلهيلم روبكه (1899-1966) وألكسندر روستوف (1885-1963) وفرانز بوم (1895-1977) كانوا يؤمنون بأن الحياة الاقتصادية تدور في إطار تشريعي يحدّد معظم العناصر التي تمثل النشاط الاقتصادي، ما يبرر تدخل الدولة لتدارك قلة نجاعة السوق.


لوحة: سعد يكن

أما النمساويون، ولا سيما لودفيغ فون ميزس (1883-1973) وفرديريش هايك (1899-1992)، فكانوا يعتقدون أن مذهب “دعه يعمل” لا ينبغي أن يرفده الإصلاح فحسب، بل ينبغي أيضا الدفاع عنه، لأن الأزمة في رأيهم ليست ناجمة عن إفلاس ليبرالي مزعوم، بل هي ناجمة أساسا عن تدخل الدولة. ورغم اختلافهم، كان بناة النيوليبرالية منذ ثلاثينات القرن الماضي يرغبون في تبرير سياسة تدخل ليبرالي، أي توجيهية دولة (بمعنى نظام اقتصادٍ موجَّه) غير تدخلِ التشييع المخطط.

فليبمان مثلا كان يخطط لطوباوية المدينة الحرة، انطلاقا من تحليل نقديّ واع للحاضر يسمح بتبرير مشروع مجتمعي مفصّل لا يترك شيئا للصدفة. ومن ثمّ يفترض ليبمان تكوين إنسان جديد عن طريق علم تحسين النسل والتربية وإجراءات الاندماج الاجتماعي، شريطة أن تهدف تلك الجهود إلى تهيئة الأفراد المستمرة لاقتصاد التنافس. وكلهم يُجمعون في النهاية على أن التدخل العمومي ينبغي أن يسمح بتعويد الناس والمؤسسات تعويدا متواصلا بنظام اقتصادي متغير في جوهره، قائم على تنافس شامل لا هوادة فيه. ولتحقيق ذلك، ينبغي أن يكون ثمة تدخل متواصل أيضا للسلطة العامة، وحكومة ذات نفوذ قوي، تتألف من نخبة كفؤة، ينتخبها الشعب لا محالة، ولكن دون أن يخضع عملها لتقلبات أهواء الرأي العام.

بعد تلك المرحلة الافتتاحية، تجسدت النيوليبرالية في جمهورية ألمانيا الفيدرالية عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، بتأثير من منظري الأوردوليبرالية. وكان مشروعهم يتَمثل في وضع إطار مؤسَّساتي لتنظيم المجتمع تنظيما يترك مجالا لطاقة النمو اللامحدود التي يحتوي عليها مبدأ التنافس. ورغم وجود بعض الفروق الصغيرة داخل الأوردوليبرالية نفسها، فإن الجوهر كان مركزا على البحث عن استقرار الأسعار ومراقبة التضخم. وهذا يقتضي مراقبة مستمرة للظروف التي تسمح للتنافس بإنتاج آثاره، يشفع ذلك تملّك الأفراد للمبدأ العام للتنافس، الذي سيجعل منهم مستهلكين قبل كل شيء، وهي الصيغة الأوردوليبرالية للمجتمع المدني، فالملكية الخاصة في نظر بوم مثلا هي شركة تقوم على التنافس كرباط بشري، وشكل من أشكال مجتمع ينبغي بناؤه والدفاع عنه عن طريق عمل الدولة اللامحدود”. وهذا هو المعنى الذي قصده ألفريد مولر أرماك عام 1946 بـ”اقتصادِ سوقٍ اجتماعيٍّ”، اقتصاد يستجيب لخيارات المستهلكين. أي أن منبع أخلاقية هذا التيار يكمن في التنافس، في الحرص على تحسين الإنتاج تباعا لإرضاء المستهلكين.

ولكن مع السعي إلى تطوير سياسة اجتماعية حتى لا يسود منطق السوق كافة المجتمع، وذلك عن طريق جعل الأفراد مالكين/مدخرين، يعمل كل واحد منهم مثل منشأة صغرى تنافس الأخريات. هذا التصور اعترض عليه النمساويون الذين لا يقبلون بتدخل خارجي، بدعوى أن السوق تقوم بذاتها من الداخل من حيث بناؤُها ونظامُها، فكائن السوق في نظرهم يتعلم كيف يتصرّف ويختار بصفة عقلانية، مثلما يتعلم كيف يجد المعلومات الصالحة للاستعمال مباشرة في السوق لكي يتجاوز الآخرين في سباق الكسب. والخطأ الذي يوصي هايك بتفاديه هو تدخل الدولة لغاية أخلاقية كالعدالة الاجتماعية مثلا، في شكل إعادة توزيع الإنتاج، لأن دور الدولة في رأيه يقتصر على السهر على احترام قواعد حسن السيرة (حرية العقد، عدم انتهاك الملكية، وواجب تعويض المتضرر) ولو أدى ذلك إلى زجر المخالفين.

أما الجزء الثالث، الذي حمل عنوان “العقلانية الجديدة، فيعرض للنيوليبرالية كنمط ممارسة تجريبية لسلطة الحكومة وقاعدة مخصوصة لسير الرأسمالية المعاصرة. وفي رأي المؤلفَين، يبدو هذا الواقع أبعد من أن يكون مجرّد عودة إلى أسس الليبرالية، إذ هو منطق معياري جديد لإدماج السياسات والسلوكيات وتوجيهها نحو وجهة جديدة بشكل دائم. ويتبدّى هذا المنطق الجديد في الدور الذي تكله النيوليبرالية للحكومة، وهو عبارة عن “تعهدها رسميا بمراقبة قواعد التنافس في إطار تصادم احتكار الأقليات الكبرى”، يضاف إليه “هدف خلق أوضاع سوق وتكوين أفراد مؤهلين لمنطقها، أي منطق السوق”.

ويسلط المؤلفان الضوء على تأثير مختلف التيارات النيوليبرالية في بناء جمهورية ألمانيا الفيدرالية، وفي عدة اتفاقيات رافقت بناء المجموعة الأوربية، وكذلك الإجراءات التي اتخذتها حكومتا رونالد ريغان وثاتشر، واستنساخهما في كثير من بلدان العالم، وإقحام السياسات المالية في الاقتصاد، إقحاما عززته خصخصة جانب كبير من الخدمات العامة، علاوة على التغييرات المتتالية على سير الإدارة العامة وتغير نظرة الدولة إلى أشكال التضامن.

تعكس تلك التغييرات، كل على طريقته، تطبيق مبادئ عمل الدولة النيوليبرالية، فقد ساهمت كلها، بصورة متكاملة، في ترويج المعيار الجديد، مع تحديده وتطويره. فمنذ مطلع ثمانينات القرن العشرين انشغلت الدول ببناء الأسواق (خصخصة، وضع الخدمات العامة موضع تنافس، عرض المدرسة والمستشفى على السوق، الوفاء بالدَّين عن طريق الخواص)، وليس بتركها تعمل، خلافا لمزاعم الخطاب عن هزال الدولة.

أي أن الدولة لم تعد تنصّب السوق، بل صارت تطبق على نفسها ذلك المفهوم، فتعرض المؤسسة العامة على السوق، وبذلك “صار كل فرد مضطرا إلى التصرف في كل أبعاده الوجودية كحامل لرأس مال يحرص على تنميته” كما يقول فوكو. وفي هذا التنظيم المتدرج لكل مكونات المجتمع، لعبت عدة فئات (خبراء، رجال أعمال، أعضاء مجلس إدارة) دورا حاسما في نشر تلك التراتيب وغضت النظر عن العواقب، الوخيمة أحيانا، التي راكمتها تلك التغييرات.

والخلاصة التي ينتهي إليها المؤلفان هو أن تجذّر العقلانية النيوليبرالية لم ينجم عن قناعة سياسية مشتركة بقدر ما نجم عن الأولية الممنوحة لشروط النجاعة والنتائج الباهرة التي تؤدي إلى تبين الخيارات السياسية والقرارات التقنية. وهو ما يطرح معنى السياسات التي عُدّت يسارية، فالبليرية التي نظّر لها أنتوني غيدنز هي نيوليبرالية يسارية، ومثال لتحولات الاشتراكية الديمقراطية. وليس أدل على طبيعة العقلانية النيوليبرالية من تحول ممارسات حكومات تدعي منذ ثلاثين سنة انتماءها إلى اليسار مع أنها تمارس سياسة شبيهة بسياسة اليمين، ما يوحي بقبولها اقتصاد السوق وفضائل التنافس، ومزايا عولمة الأسواق.

حتى الذين يزعمون الانتماء إلى اليسار الجديد، إنما يتبنّون نفس المثُل التي يرفعها خصومهم السياسيون، سواء كانوا محافظين أم يمينيين أم جمهوريين. ومن ثَمّ فإن تصور الفرد والمجتمع الذي ترتكز عليه الطريق الثالثة يشبه إلى حدّ بعيد التصور الذي تنبني عليه توجهات اليمين النيوليبرالية، فتفضيل التنافس على التضامن وحسن اغتنام الفرص لتحقيق النجاح والمسؤولية الفردية ينظر إليها جميعا كركائز أساسية للعدالة الاجتماعية وهو ما يهدد الأسس الحديثة للديمقراطية وفي مقدمتها الاعتراف بالحقوق الاجتماعية المرتبطة بوضع المواطن.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.