ثقافة الخوف من الآتي

الاثنين 2018/01/01
لوحة: حسين جمعان

مصيبة الثقافة العربية ليست في كونها بالغت في تقدير منجزات الأمة الدالّة على ازدهارها في الماضي، وإنما في تصدع إيمانها بقوى المستقبل، وليست في إهمال الأبناء لأدوار الآباء بوصفهم البناة الأوائل، بل في استخفاف الآباء بتطلعات الأبناء وأشواقهم، التي هي امتداد موضوعي، بالضرورة، وبناء على ما شيّدته أجيال مضت. وليست في عدم تقدير قيمة العقل، كما ذهب البعض في اعتباره الشخصية العربية لا عقلانية لعلة أصيلة في جبلتها (وهذا اعتقاد فارغ)، فالأدبيات العربية القديمة مترفة في تداول الحِكم والأقوال التي تُعلي من شأن العقل، وتحضّ على التعقل وانتهاج العقلانية في التفكير والمعاملات، ولكن المصيبة في ذلك الخوف وتلك الاسترابة من الحلم، والتوجّس، بالتالي، من فكرة المغامرة، لِما تناهى إلى العقل من أنها ضرب من الخوض في المجهول، الأفضل أن ندرأ عن أنفسنا ما قد يحمله من أخطار. وكان يجدر أن نعي مغامرة الجديد بوصفها سبيلا لاستكشاف الذات والعالم، والحضور في المستقبل.

ما من تطلعات يعقبها نهوض في أمة يمكن أن تصدر عن شخصية خائفة، متوجسة من الإقبال على الجديد ومرتعدة أمام المعارف المتاحة عبر كل ما يمكن أن يُبتكر ويتوفر من وسائل وإمكانات. ومن البدهي أن القوة الشابة في مواقع العمل والتفكير هي من يملك الطموحات التي تنتج كل ما هو جديد، وتستقبله، وتكون بالتالي صوت المستقبل.

***

لكأن “الأبوية” العربية التائهة في شعاب أناها الماضوية هي اللعنة المجتمعية المقيمة، والعثرة الكأداء في طريق الجديد، وفي أقدار الشباب، نزعة نرجسية، رغم أنها باتت سمة من سمات الشرق المتقهقر، لكنها لم تكن يوما جوهرا في جبلة الشخصية العربية، وإنما علة معللة بالأسباب تزول بزوال أسبابها.

لا يريد هذا الكلام أن يقول بصراع الأجيال، حتى وإن كان مثل هذا العنصر موجودا في حياة أجيال قديمة وحديثة، بوصفه عاملا يملك وجاهته، لكنه عنصر ليس إلا في نزوع البشر عبر التاريخ، وفي حركة الظواهر أيضا، بين قادم وماض، وبين قديم وجديد، مازال فاعلا إن في الثقافة العربية أو في غيرها من ثقافات الشرق. وحسبنا أن نتذكر أن الأفكار الجديدة التي أنتجتها الثقافات الرائجة عبر العصور، وضمنها العصر الحديث، واعتنقها الشباب، غالبا ما أبدعها مفكرون كهولا وشيوخا تمتعوا بفكر متجدد ومضيء.

وبالتالي فإن حديثنا عن القوة الشابّة، يستدرك دوام شباب الفكر وقوة المغامرة الفكرية في ولاداتها المتعاقبة بوصفها استجابة متبصرة للقوة الشابة وما تختزنه من طاقة وإمكانات خلاقة دائمة التجدد، وكمحرك للتاريخ يدفع جهة المستقبل ويستجيب لصيرورة التطور.

***

مصيبة الثقافة العربية، إذن، ليست في ذهنية الإنسان، رغم ما اعتور هذه الذهنية من خلل، بفعل التشوّهات المجتمعية، ولكن في غياب البرامج، وتخبّط التوجهات، وضعف الاستقلالية. وهذا ناجم، تاريخيا، عن خلل فادح في علاقة السلطة بالثقافة، وفي توجّس الحاكم الشمولي من الفكر والمفكرين، ورعبه من تطلعات المثقفين.

مصيبة الثقافة العربية ليست في قصر نظر الأفراد في أمة تمزقت جماعات مقيمة في جغرافيات لدول اختلفت في صيغها وتباعدت في تطلعاتها، وظلت مقيمة في لغة عربية ضاقت، بدورها، على هوياتها ذات الأرومات المختلفة، وروافدها المتعددة؛ جماعات اشتركت في هوية جامعة هي اللسان، أنست معها إلى قوة الاعتقاد الصادر عن الفكر، أكثر ممّا اعتقدت بنجاعة العمل الصانع للمصير.

والمشكلة التاريخية، حقيقة، هي في الصيغ التي قامت عليها الدول التي تحكم الجماعات المختلفة وتنظم علاقات وجودها، وتسمح لها بتجديد طرائق عيشها، والمشاركة في حضارة زمنها. وهي في جلها صيغ للحكم، ظهرت، تاريخياً، غداة الفراغ الذي تركه انهيار الإمبراطورية العثمانية، بفعل تحالفات واتفاقات بين قوى دولية وإرادات خارجية. وفي الوقت الذي طورت فيه بعض الكيانات العربية الوليدة قدراتها، وخطت خطوات واعدة نحو تأسيس دول عصرية، فاجأتها وصدمت طموحها التحديثي أدوار الجغرافيا وقوة الأثر السلبي لقدرها الجغرافي، وهيمنة القوى الإقليمية الكبرى والقوى العظمى، وما برحت هذه العوامل تفعل فعلها السلبي في المجتمعات العربية، مهددة كياناتها ومستقبلها الثقافي والسياسي والاقتصادي، مبددة إمكاناتها، إن في حروب دموية تنشب على رقعتها الجغرافية، أو في نزاعات سياسية تشغلها وتصرف قوتها في أتون حروبها المشتعلة في جوار مشتعل، لتمنعها، بالتالي، من تطوير نفسها، وتعاقبها على طموحها التحديثي وقد شارف على أن يتحول إلى فعل يؤسس للدولة المدنية المتحررة من الاشكال الفظة للهيمنة الخارجية.

***

لا يغرّن العربي نفسه في اعتقاد بقوة تقوم على أوهام التملك والاستملاك، بدلا من حقائق القوة التي ينتجها العمل والابتكار. فكما أن ما من قوة مستمرة في يد ما لم تكن صادرة عن قوة العضلة في تلك اليد، كذلك ما من قوة تدوم لكيان ما لم تكن أثرا ومحصلة لما أنتجه هذا الكيان وكان إبداعا خالصا، ونتاجا موصولا بأسبابه الذاتية والموضوعية، لا يمكن أن يتهدده عنصر أو حادث أو عامل خارجي.

***

ما إن يغادر العرب أفرادا من بيئاتهم الرازحة في النكوص والمراوحة حتى تتكشف لهم وللعالم مواهبهم التي لا تقل حضورا وسطوعا عن أبناء الحضارة الحديثة التي تستقبلهم في ظهرانيها.

***

نعود إلى أصل الكلام، ما من استخفاف بتطلعات الأجيال الجديدة وما يحركها من ابتهاج بالجديد وتوق إلى تحقيق الذات من خلاله، إلا وهو تعبير بليغ عن نكوص مجتمعي مرضي، سرعان ما ينال استحقاقه من السقوط أمام حركة الجديد التي لا يمكن لقوة كبحها، إلا وتسببت بانفجارات مأساوية، تتصدع لها البنى المجتمعية والعلاقات الإنسانية، ويعمّ بفعلها الخراب، لكنها لا تنقذ القديم من السقوط أمام عجلة التطور، كل ما ستفعله أنها ستؤخر إلى حين، عمل الحاضر وتطلعات أجياله الجديدة الناظرة بتوق جهة المستقبل.

الجديد نهر دافق، فلنضع فيه المراكب بدل أن نواجهه بالسدود. وبما أن الحكمة لم تعد جذابة بالنسبة إلى العرب، فإن أعظم ما يمكن أن تفعله السدود التي توضع في مجرى النهر هو توفير الأسباب التي تعجل بمجيء الطوفان.

وكل عام وأنتم بخير.

لندن في يناير/ كانون الثاني 2018

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.