محنة النقد أكاديمياً ومتداولاً

الاثنين 2018/01/01
لوحة: نهاد الترك

حيث تندمج كلّ تلك العوامل كي تصنع حالة من الانفلات النقدي الذي حتما تشارك فيه أطراف أخرى قد لا تكون معنية بالضرورة بهذه المهمة بالغة التأثير في تكريس الوعي وتكوين الذائقة. وهي العلاقة التي تتحكم فيها آليات سوق يفرض سمات معينة للتلقي في ظل وجود قضايا كثيرة تهم القارئ العادي والمتخصص، وتفرّق بينهما وبين قارئ الجريدة أو المجلة أو قارئ الكتب الأكثر انتشارًا ومبيعًا والأكثر إيغالًا في الخواء وعدم وجود قيمة مكتسبة أو مضافة للجانب المعرفي الذي تحققه الثقافة وتعمل على استنهاضه دائمًا. ذلك مما يجعل تلك الإشكالية دائمًا على حافة الانفجار، ما يبسط على الساحة الإبداعية والثقافية نوعا من الهمود والاستقرار الذي لا يحرك راكدًا، ويعوق عمليتي الإبداع والنقد معًا.

مطرقة الأكاديمي

النقد الأكاديمي -في غالبه- يكرس لحالة من الجمود والثبات، التي لا تقرها الحالة الراهنة للثقافة والإبداع، والتي تحاول النظريات والقوالب النقدية التي خلَّفتها المدارس المختلفة فرضها، وهي التي يتكئ عليها الدارس الأكاديمي ويتمسك بها ويدافع عنها دفاعًا مستميتًا، ربما لأن دراسته لها والتشيع لها هو حصيلة لتعب تعليمي/معرفي تحصيلي، من خلال سنوات دراسة وبحث كللت بالتفوق في هذه المادة دون غيرها، فيكون الدفاع عن ثوابتها وقواعدها الأصلية مجلبة للجمود والعمل على قولبة الأفكار والإبداعات وإخضاعها إلى مقاييس معينة قد لا تتوافر بالحتم في كثير من تلك النتاجات الثقافية أو المعرفية.

في ذات الوقت الذي أتت به هذه الاتجاهات النقدية نتيجة تلاقح معرفي وتأثيري لثقافات الغرب وتطبيقًا لنظرياته النقدية الجاهزة والمعلبة التي ربما تجاوزتها الحالة الثقافية والنقدية منذ زمن بعيد، فتكون النتيجة هي السقوط والفشل الذريع للنص الذي يحاول الخروج من عباءة القديم والتمسك بشخصيته وسلطته التي تنطلق من داخله، ومن خلال كل العوامل البيئية والنفسية والاجتماعية والسياسية والزمانية المغايرة بالطبع، فكل يوم يجد الجديد والجديد من التحولات والتغيرات التي تمسك بزمام الأمور، فتكون تلك المطرقة بيد الأكاديمي والمخضعة لطقوس حالته الدراسية الثابتة، هي التي تطبق دائمًا على سندان الحالة الإبداعية الثقافية المتجددة التي لا تجد لها أيّ متنفس في هذه الأجواء الناقدة الحاكمة التي لا تلتفت لتلك التغيرات والعوامل الناشئة. فتعلو تلك النبرة المهاجمة الشرسة التي تقصي كل تجريب سواءً كان في فكر أو إبداع أو نقد، في أيّ من المجالات الثقافية المتنوعة من أدب وفن، وهو الذي -في الوقت ذاته- لا تفتقده الحياة الثقافية الغربية والعالمية التي حملت لنا رياحها القديمة تلك الهبات الممنهجة التي حوَّلت الناقد الأكاديمي الدارس إلى مجرد ملقن وفارض يقتفي أثر النظرية والقالب النمطي والحالة التعليمية المتكررة، ولا يستطيع الحبو بعيدًا عنها، ومن ثم تتعطل تلك الحالة الإبداعية المتوهجة وتفقد قدرتها على التعبير والتغيير إلى حد بعيد، ولذلك أثره –بالطبع- سواء على المدى القريب أو البعيد.

“الطبول الجوفاء”

تمثل الحالة النقدية المتداولة من خلال الصحافة والإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية على حد السواء، حالة من الضغط المستمر على وعي التلقي والمتابعة سواء من القراء والمهتمين بالشأن الثقافي، أو المثقفين والمبدعين أنفسهم، من خلال تلك السمة من الانفلات النقدي وافتقاد الحرفية النقدية الإبداعية في غالبية ما يقدم بالصفحات المتخصصة والبرامج الثقافية التي تطلق الأمور على عواهنها وتكرّس لنوعية من النقد المضلل المطاط أو (المتداول) الذي يمكن أن يقال عن أيّ موضوع وفي أيّ توقيت تكريسًا لما يمكن أن نسميه ظاهرة “الطبول الجوفاء” التي لا طائل منها سوى رنينها الأجوف عديم الفائدة كالأعيرة الطائشة في الهواء لكن لها تأثيرها المحدود والمفتضح في غالب الأحوال، وبمتابعة أغلبها -على قلتها في مخاطبة وعي آخر مفتقد- نجد هذا التوجه الصارخ نحو تهميش القيمة الإبداعية الحقيقية المضافة واختصار/اختزال معالجتها نقديا في أسلوب سريع تختل فيه الإيقاعات وتهرب الحنكة الثقافية والوعي المعرفي، ويبدو التسرع في الحكم والانتقاء السيء للموضوعات الفكرية والإبداعية، وتهميش الجيد منها، وولوج الكثيرين من بوابة المجاملات والعلاقات والبؤر المتنفذة التي تؤدي إلى ظهور وتلميع هذا وإقصاء وإبعاد ذاك، وتحجيم عملية المتابعة الواجبة بالشروط والمعايير النقدية المواكبة التي يفتقدها المشهد الثقافي إلى حد بعيد، حتى ليبدو المشهد منغلقًا على تلك الفئة (النادرة!) بغض النظر عن قيمتها لتحتل الصدارة والواجهة الإعلامية تلك التي تستقي مشروعية وجودها من خلال غياب النقد البناء الحقيقي، إضافة إلى المهنية والحرفية الثقافية الغائبة، أو الموجودة في حيز ضيق جدًا يصعب على الكثيرين النفاذ إليه، ما يجعل التعامل النقدي أو التحليلي مشوبًا بالعديد من الأخطاء وموسوما بخفة التعامل سواء مع الحالة المنهجية أو الحالة السائدة المتداولة..

كذلك يأتي التعاطي المجاني مع طقوس تلك الحالة الثقافية، والمنتشر إلى حد بعيد في تلك الأوساط التي يبلغ فيها الادعاء النقدي مبلغا شديد الخطورة، فليس كل مشرف على صفحة أدبية أو ثقافية بقادر كلية على إدارة الأمور والحكم على أحقية إفساح مساحة نشر لما يُكتب أو يُكلف به أو ما يستقبله من مواد نقدية تعالج إبداعًا أو ظاهرة أو تنشئ حوارًا نقديًا بناءً قائمًا على المعايير الحاكمة أو المقننة لحدود العلاقة بين النقد والانطباع والرأي المطلق ثقافيًا ومعرفيًا، وذلك من خلال غير المتخصصين في الشأن الثقافي: سواء من الناحية الأكاديمية، أو من ناحية أصحاب التجارب المتميزة من الكتاب التي تعطيهم تلك الدربة والقدرة على سبر غور العملية والنقدية والدخول في غمارها من خلال حقل بحثي قد يكون مغايرا يتكئ على الإبداع ويستمد منه قوة التأثير والأمثلة كثيرة.

هنا يحتل النقد قناعًا مغايرًا تدعمه شبكة من العلاقات التي تدفع بمن لا يمتلك أدواته النقدية من حس وتجارب واشتغال على أهمية النقد الحقيقية إلى الساحة التي يكون فيها التداول النقدي مشفوعًا بأمور أخرى غير مفاهيم الإبداع، فتقصي الأطراف الأجدر بالبحث والتحليل وسبر الغور.. في مقابل مسائل الانتفاع الشخصي وضحالة المتحصل الثقافي المعرفي النقدي.

***

من هذا وذاك يبدو طرفا الصراع أشد شراسة وتأثيرًا على الواقع الثقافي من خلال ما يقدمانه للعملية النقدية والأداء النقدي الباهت كعامل من عوامل الإحباط الذي يرين على قلب المشهد الثقافي والإبداعي الحقيقي؛ فكل من نموذج الأكاديمي الجاف، ونموذج المتداول الفارغ (الأجوف) يعملان على تحويل مسار العملية النقدية وإبعادها عن دورها الرئيس، وإغفال جوانب خطيرة عن علاقة الإبداع والمبدع، بالنقد والناقد.. تلك العلاقة التي تأخذ منحى مغايرًا لما يجب أن تكون عليه كعلاقة تبعية النقد للإبداع وليس العكس، فالإبداع دائمًا ما يقود النقد، وهو الذي أفرز كل تلك الاتجاهات والمدارس التي كانت السبب في تحجر العلاقة معه فيما بعد، تبعا لحالة الجمود والركود عن المواكبة التي تعاني منها الثقافة العربية المستهلكة/غير المنتجة للنظرية، والمتشبثة بها كقالب في الوقت ذاته.

تمثل الحالة النقدية المتداولة من خلال الصحافة والإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية على حد السواء، حالة من الضغط المستمر على وعي التلقي والمتابعة سواء من القراء والمهتمين بالشأن الثقافي، أو المثقفين والمبدعين أنفسهم، من خلال تلك السمة من الانفلات النقدي وافتقاد الحرفية النقدية الإبداعية في غالبية ما يقدم بالصفحات المتخصصة والبرامج الثقافية التي تطلق الأمور على عواهنها وتكرّس لنوعية من النقد المضلل

النقد الإبداعي والإبداع النقدي

وليس أدل على ذلك أن الحالة الإبداعية المتغلغلة في وجدان الناقد المبدع، هي ما أفرزت وعيًا قادرًا على إماطة اللثام عن طلاسم العلاقة بين النقد والإبداع من خلال إنتاج نوع من الإبداع النقدي الذي قد يتميز فيه بعض النقاد المبدعين والنقاد الأكاديميين الذين يمارسون العملية الإبداعية على حد السواء، والذي قد لا نجده نهائيًا عند الكثيرين من المدعين من تلك الفئة أو الأخرى، ذلك أن مسألة الوعي الذاتي المكتسب تكمل الوعي المعرفي والدراسي والخبراتي، فتلك هي أركان التكوين الذي يناط به تشكيل ذائقة ووجدان المبدع قبل إلحاقه بالمدارس والمناهج (التي تتغير بالحتم ولا تتحجر أمام حقبة زمانية أو ظروف سياسية أو اجتماعية أو بيئية مغايرة) وهو ما يصبغ شخصية الناقد أيضًا، فلا فرق في الإبداع بين فن ونقد.

وهو ما يحدّد هذه الحالة النقدية الإبداعية التي أتى بها هؤلاء المبدعون الذين خاضوا غمارها بحثًا عن حل بديل، وهروبًا من نقد أكاديمي متحجر، وتفسّخ نقدي إعلامي غير منصف، فانتشرت ظاهرة المبدعين النقاد الذين انطلقوا من إبداعاتهم الأدبية والفنية إلى تكريس تلك الخبيئة المعرفية والخبراتية لصالح حالة نقدية مغايرة تعتمد على مقدرة المبدع في التقاط بقع الضوء وإشعاعات التنوير على العمل الإبداعي للآخرين بنفس روح المغامرة الإبداعية.

وهي لا شك حالة محفوفة بالمخاطر والانطباع وتأثيرها السلبي قد يكون أكبر بكثير من تأثيرها الإيجابي ربما لتسلل عناصر التأثر والانطباع السريع الذي يدخل به الكاتب بحمى الإبداع نحو سبر أغوار عملية إبداعية مشابهة لما يقوم به في الأساس؛ فتنفلت منه المعايير الحقيقية للنقد ويصبح منقادًا خلف أوهام ذاته ومنطلقاته في الإبداع، وهو ما قد يؤسس لاتجاه جديد يتميز بالميوعة وتفشّي حالة من النقد المنقاد للأهواء، وما قد ينطلق إلى حيز المجاملة الإبداعية على حساب العملية النقدية الأصيلة، وهو ما قد يأتي من خلال صاحب زاوية أو عمود صحفي أو مقال شهري في إحدى الدوريات الثقافية! فتتعقد إشكالية وجوده وتكون عبئا على النقد وعلى الإبداع.

أو من ناحية أخرى قد يتحول من مبدع ناجح إلى ناقد فاشل، أو يتحول من مبدع إلى ناقد كلية دون أن يكون لديه القدرة على العودة إلى الإبداع أو الجمع بين الحالتين: الإبداعية والنقدية، وهو ما يؤدي إلى حالة من الاختلال في الواقع الثقافي، خاصة وأن الكثيرين يقتادون إلى تلك المساحة الواسعة للنقد وسرعة انتشار ما يكتب عنه ونشره على حساب الإبداع، وهي حالة جانبية بالغة الخطورة نظرا لانعدام الوعي والخبرة التي قد تؤهل البعض إلى حيازة قصب السبق في الإبداع والنقد على حد السواء.

لتكون العلاقة بين النقد والإبداع علاقة التكامل التي تجعل من الكاتب كاتبا متكاملا والفنان فنانا متكاملا، فأعظم الأعمال النقدية المتخصصة في الفن والأدب تأثيرًا على مستوى العالم كتبها مبدعون لم تنل ممارسة النقد من مقدرتهم على التميز في الإبداع، وأفرغوا سبائك خبراتهم الإبداعية والمعرفية لصالح النقد والتكريس للنوع الأدبي والفني، وقدموا أعمالًا تعد علامات بارزة في مسيرة النقد.

ومن ناحية أخرى هي الإشكالية التي تواجه المثقف/المبدع العربي، وتؤرقه وتضاف إلى جملة إشكاليات النقد والإبداع معًا.. فالحالة الخارجة من رحم الإبداع قد تكون هروبًا وبحثًا عن حلول أخرى للتوهج والظهور المائز، ما قد يضر بالحالة النقدية أكثر مما يفيدها، ليستمر وجود النقد العربي بين شقي رحى، مستسلمًا دائما دون البحث الواجب عن إيقاع نقدي مغاير في غابة من اتجاهات الكتابة النقدية.. ومواجها بكل الإشكاليات التي قد تعرضنا لبعضها.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.